القرصان والجريدة
اطل من بين شقوق الباب الخشبي المتهرئ، حول عينيه الضيقة التي تشبه عيني سمكة ميتة يمنة ويسرة، لفحته رائحة روث البهائم، تمطط ككلب أجرب، طقطقت العظام، انفلت أنين متقطع،طاف حول سور الدار المتآكل، حبلق في الفضاء البعيد،شيع الكلب المقعي خلف كومة تبن، ارتدى بذلة باهتة تشم منها رائحة العفونة، تقدم نحو السيارة المتهالكة،أدار المحرك، دخان كثيف ينفلت من المؤخرة يعانق الفضاء الواسع، يوم جميل، الطريق خالية من المارة، السوق يجلب الركاب،اركن السيارة في مفترق الطرق الرملية،دخن بشراهة وبصق على أشخاص وهميين، يشيع بنظرات ماكرة وجوها خسفها الزمن، تنفرج الأسارير، السيارة تغوص في الأجساد، رائحة العرق تنغرز في الأنوف،النهار يغرق في الدراهم، عيون النواطير نائمة، تتوقد بداخل الجسد المنكسر رنات الأوراق كالبرق في ليلة ماطرة، ازدحمت الأفكار في الرأس الفارغ، بالأمس شيعه صاحب البذلة الكاكي، ارتعدت الفرائص، في الأعماق نبت الخوف، مما تخاف، من يقف في وجه حلال المشاكل،تاجر الكلمة التي تفتح وتغلق الملفات، عندما اقترب منه، جاءته التحية من بعيد، تركه يمر بسلام، انطلقت الألسن من عقالها.
– أولاد الحرام يخافون ولا يحشمون.
– لا أخافهم عندي ملفات...،لو فتحتها لأوديت بهم إلى السجن.
يرمي الشباك، الناس الطيبون،يلتصقون بالقشة، غرقى يتشبثون بالغرقى، رده السؤال إلى الطريق، يدخل حروبا ولا يملك أي سلاح،يبيع الوهم، العقل محشو بالترهات،ورث حب السلطة من الأب فاستوى مشاء، يلوك في السر والعلن أسرار الناس،انسل تحت الكلمة يغسل في غفلة البؤس النابت في الضلوع، يغوص تحت السطور،يتحدى الحبر، تصرعه الكلمات، تلف الجسد، تفلت منه،تنساب هاربة. تقفز فوق ركام الجرائد، تبصق في الوجه الداعر، تختفي، ينشنق الحرف على درب اللسان، تتوقد الجمرات في الرأس الفارغ إلا من صهيل أهوج, تحت اصفرار الجفن يكبر الحزن, تشتعل الذاكرة بالهزيمة،وينفذ خلسة إلى خيمة الحروف يندس بين دفتي الكتب يركب صهوة الآخرين،ينقر على الآلة بإصبع ملولب، يأتي الصوت عاريا، زخات المطر على سقف حديد، الأشياء تأتي باهتة،يريد أن يكتب أن يفتض بكارة البياض،وحيد على شرفة المخيلة, يراقب انفلات الأسرار، ثمة كلمات تجره من حبال الدموع، السر ينتحر ألف مرة بسكين الحقد،تنطفئ لهفة الكتابة،النفس اللجوجة موزعة بين الطريق والدراهم،الكلمات العابرة تلسع الصدر، ترفل في ثوب حداد طويل، خيالات ترقص مع اشراقة الفجر،،تنفرج الأسارير فرحاً بالزّبون، تتأرجح الصور في ظاهر اليد، المقود يرتعد، الطريق الترابية تعج بالحركة،أربعة ركاب،تنهد بعمق كأنما يشق الصدر لينام الضمير، مسح بعينيه التائهتين غيمات سوداء فوق المدينة، رمق في حسرة احد المارة،يعرفه مند زمان.
أنت مراسل جريدة وطنية....؟
نعم...هل لديك قضية تريد إثارتها...
هو كذلك... كم سأدفع مقابل ذلك...؟
حسب القضية...
يعيش الغربة الداخلية،يعيش في المنفى الداخلي،تنمو بالحوباء موجات الخيبةٍ ومرارة تكبر مع الأيام،لم يعد صوتا مسموعا،الناس أصبحت أكثر حذرا،راح يقلب الماضي يفرك العيون الضيقة، بالأمس كان يعجن الكلمات فتطلع ذهبا، أحسّ بضيقِ الفضاءات وهروب الأشياء، تغير الزمن، يدور في الأرض والشوارع يغسل بالعيون الوقحة بيوتا تحاصرها النتانة، تبتلعه الأزقة وتتبوله، حشرجة بطعم العلقم، لكن ولا خبر،وراء تلك الأبواب الموصدة الكثير من الأسرار،يا اله الكون استنبت المشاكل،جيوب مثقوبة، تحتويه الصباحات المتعبة، تهزه إلى غربة موحشة، فاستوى قرصانا من زمن القبح، يلتقط قصاصات الأخبار يضاجع عرق الآخرين بدون خجل،مثلما يسرق ركابا من زحمة الطريق في غفلة النواطير، يكتب ويكتب،لكن بلا معنى، تسكنه الكلمات الميتة، وما حوله يشعره بالريبة، لم يحس يوماً أنه يعمل شيئاً مفيداً،الصحافة تجعل منه رجلا ذا قيمة، يتلون بألوان الزمن ليقطف دراهم معدودة،أبواب الدنيا تنغلق في الوجه المكدود،يجرجر المعاني،يقبض على ناصية الحروف، يفرش للعيون الضيقة رزما من المقالات،يخطف جملا اسطرا، تهرب المعاني،يجلس الساعات الطوال يمزق ويخيط جملا مهلهلة يطرق أبواب الجرائد يخطب ودها فلا تنفتح الأفخاذ البضة، تلمس شقوق اليد، فاختنق الصدر برائحة المداد العفنة،مدّ اليد إلى جيب السترة المرقعة أخرج أوراقاً قديمة، سقطت الحروف الميتة،ركز النظارة الطبية على العيون الضيقة،اندلق سواد الحبر فوق الحقيقة،حاصرهَ الجهل بصرخة صاخبة فانحنى يشنق الحارس بين الأوراق،يستحم بملوحة المداد،يركب جملا من مرثية الآخرين، يسود البياض،يعجن الكلام بأصابع من حديد، يخرج ميتا، يمشي عاريا على صدر الورق بدون معنى.يلفه التيه في الدروب المقفرة،يشعل سيجارة شقراء، يحرقها بعصبية،يستجدي أخرى،يستعطي كوب شاي،ينقر بإصبعه على الورق، الذاكرة مشتتة والزبون فر من يده،آه لم يعد للوجود معنى وللكتابة سلطة، انفلت الزمن الذهبي بين إصبعيه، هاهو يعيش زمنا أهوجا بين الورق والقلم، رائحة التبغ تأتي منها حموضة تزكم الأنف، يدفع الإصبع في المنخر، يفرك الأرنبة، تسقط النظارة، رائحة شواء تلفع المقهى،يشتهي أسياخا من اللحم، يراقب النادل يطرد الدخان، يضرب اليد في الجيب المثقوب ولا درهم،الكلمات تهرب، تندلق الأسئلة على الوجه المكدود،كم من زبون دفع ثمن صحن مرق، كم من كاس قهوة وسيجارة استعطى، الذاكرة تحاكمه تقص منه، تقف الكلمات في الفم المزموم، تغصّ العيون الشرهة بالدمع، يكتب ويكتب أبدا ولا زبون، بارت البضاعة، زمن القراصنة قد ولى، الكتابة بدون قيمة، يعيش تحت المجهر وبعض ما يكتب منحول،تشدخ الحقيقة الرأس الفارغة،تضيق عليه الجدران العفنة،تدور الأرض والشوارع، يشعر بالغثيان،المساء يجيء زاحفا في معطف داكن، أحزان تعصف بالوجه الأمرد، شعر بالأسى، لعن في صمت من أفشى سره للجريدة، طروده شر طردة، رمى بالأوراق والأقلام جانبا، لم يكن يبتز الناس كان يستعطي، حلال المشاكل،يمتطي صهوة الصحيفة خلسة، يداعب الخصر الطري، يخاف من النواطير،ما أكثرهم، عليه أن يهرب ويهرب،الحساد تفتري،أولاد الحرام يقطعون الأرزاق،يتدخلون في أحوال الناس.
أولاد الكلاب كتبوا عني تقريرا للجريدة
طردوك....؟
نعم..
الحسد يقتل الناس.
لكنك متهم بالارتزاق وقرصان يقتات من الجيفة
اللعنة عليهم
الكل يعلم انك أمي لا تملك أي مؤهل علمي.
أبواب الدنيا تنغلق بوجهه، تلفحه ريح شتوية،تخترق العظام الهشة، ساقته المخلية المتقلبة إلى مقعد الدراسة، لم يكن تلميذا ذكيا، يهرب باستمرار إلى الفضاء الواسع، يتسلق الأشجار،لم يغرف من وردة العلم الكثير،هرب في أول الطريق، تاريخ قبيح مدفون تحت الأشلاء، نفر العرق الذي يمم الجبهة رغم البرودة،راح يراقب ازدحام الناس من خلف زجاج المقهى، أمضى صباه وراء قطيع من الغنم،عندما اشتد عوده،هرب من الدار، ولبس ألف حرفة، قيل له أن الرجل مثل الفأس يحفر في كل ارض بحثا عن الطعام، تناول آلة التسجيل وراح يمثل دورا اكبر من القضية، الشوارع تغتسل في القمامة. تتشكّل الصور في الذاكرة، يحمل أوراقا وقلما، يتشح بالجد، يدخل في حوار عقيم مع صاحبة بيت، يمطرق الأدمغة الخائفة ببضعة كلمات ملغزة، تفرغ الأفواه، انطلت اللعبة. تتالت الأسئلة تباعاً، أصيب الحشد بعسر فهم وتلبك، السحنات الميتة ترتعد في صمت.
– وقعوا الورقة العريضة.....
– العريضة......؟
الشفاه صامت الكلام،اخذ البطائق وراح يملأ الجداول، واحدا تلو الأخر يتقدمون إلى نبي سقط من السماء، الخير العميم سيأتي من بعده، يهرش الرأس، يضرب كفا بنصف كف،خرج من ظله وهجرته الابتسامة، عيناه تلولبان الحركات، الصنارة غمست، لابد من صيد ثمين، انعتاق ليلة من عبودية الفقر، أوقف رجل شاخ فوق عصاه.سحبه بقوة.
– أين المال المتفق عليه
– لم تفعل شيئا..."الجرانين"لم يعد لها قيمة، وما تكتبه رديء.
– اذهب أيها العجوز
– لعنة الله عليك يا ابن الكلب...يا قرصان.. سأشكوك إلى القائد
الكلمات الجارحة لجمت اللسان، الغضب يتكوم على الجبين،أراد أن يصفعه،لكن الشيخ لوح بالعصا عاليا،أطلق ساقيه للريح،الفضيحة تزحف عارية، العرق يغسله، الزمن تبدل، أولاد الحرام وشوا به، الثقة فارقت الجماجم المعممة،أحس برائحة الفضيحة تركض خلفه، أحس بالوضاعة تجره إلى النهاية، تعريه، تمزق الكبرياء النتنة، تموت الأحلام، هام في الشوارع يبحث عن معنى للوجود،أبدا لم يشعر بالصفعة،انتحرتْ الأيام الجميلة وتعرت سوءة الأشياء، داهمه في الطريق سؤال القيمة،لكن الجسد بدون إيقاع،يخور ثور قرب الزريبة،يشعل سيجارة يدخن بشراهة مختبئا وراء السور، الأب نائم، ويأتيه النداء من داخل الأعماق.
لا تفقه شيئا في الكتابة كل ما تكتبه منحول عن آخرين، وإذا كنت تريد أن تكون مصلحا اجتماعيا عليك البدء بعائلتك.
ما دخل عائلتي
أنت تكتب عن الفساد والدعارة، وعاهرات من دمك يفترشهن الرجال ببضعة دراهم في الأسواق الأسبوعية.
تستفيق الخطيئة في الدم المسعور،يبهت الوجه الكالح،يدميه الضجرْ،غصن الأحلام ينكسرْ،الحقيقة تجلده، تصفعه، تمزق الكيان، تمشي عارية فوق الجبين،تنسل تحت الجلد،وخز قوي تحت إبطين ينزان عرقا،تنفلت الآهة تخرج من العقال،تتوقد بالداخل كالجمر،دخن سيجارة بعصبية أزاحت عن الكاهل ثقل الكلمات، لكنها الحقيقة، من يخاف الحقيقة،كلّ شئ فيه يعيش حد التناقض،تبهت الأشياء من حوله، العجوز مسح به الأرض أمام الناس، ليته لم يفعل، لعنة الله عليه،رددها في صمت أكثر من مرة، القهوة بلا طعم،الأفكار مشتتة بين المذلة والنخوة، يراقب انفلات الدخان من خلف العيون الدامعة,الأشياء تتلون بلون الفضيحة،وشمعة النخوة لعب فيها العجوز،بكلمة واحدة مرغ الكبرياء في الوحل، سيصبح حديث المجالس، تأرجحت في مخيلته المتورمة صور مكلسة تمتزج بالصحو والغفوة, عاد إلى الدار ممزقا من الداخل، قرّر ألا يجالس أبناء الدوار،أحس بالراحة تكتسحه، الطريق الترابية تعرف وقع خطواته،رائحته، تزاحمت في الرأس الفارغ ذكريات مشتتة، سنين تدحرجت على مسارات الدنيا مخاصما طيات الكتب،انسابت الذكرى الأليمة، صوت المدرس يعوي في أذنيه، ارحل لا تعد إلى الفصل مرة ثانية، كان ذلك آخر عهده بالمدرسة، تعلم تسلق الأشجار، ضرب بالمنجل رؤوس السنابل فاستوى حصادا فاشلا، اخترقت رئتيه وحنجرته الكلمات الجارحة، أحس بالدوار،العجوز صفعه بقوة، الحلق جاف، الأطراف ترتعش، عندما كان طفلا أخبره المعلم أنه فاشل. وكان فشله يتجلى في عدم قدرته الاستيعاب، يمسح الطين عن الجسد بالأصابع المفرومة، تتمطى الحروف في الأعماق، والغباء يعوي في الذاكرة يلعق الوجه،.وتهتف الحوباء بالدراهم، عندما يستريح يعب من ثمالة بقايا الكؤوس، يعصر فرحة من طمي هزيمة تعربد فوق الصدر، وينثر كلاما بائسا، يدخل في المواضيع ويخرج منها بدون معنى،يلعب دور المفكر العارف، فترت الأفواه عن ضحكة خبيثة، أدرك الجليس انه تسلل خلسة إلى مزرعة الحروف،رباه أسرني فعل الكتابة،تهرب الكلمات من جوف المخلية، قالها في صمت، نقرةٌ من الإصبع على الآلة السحرية فتتساب الحروف، يختلط الحابل بالنابل، ولا يستقيم الكلام. أسند السأم إلى سحابة الدخان وانطلق ينقر، النقر يزداد وحشة وغربة، تذهب وجوه وتأتي أخرى، يعبس في الآلة، اندفعت في الرأس الفارغ ذكريات مرة، لعن السماء والأرض والجهل الذي يكبل الدماغ، حاول أن يكتب تعليقا على واقعة، هربت الحروف والكلمات، امتدت اليد إلى كلام الناس، وراح يمزق أشلاء القصائد والمقالات، يقطع الرؤوس والأجدع، يخيط قطعة بقطعة،لا يستوي الكلام، داهمه الخجل مرة، وتلوى فرحا لما علق الاسم في الجريدة.
– لماذا تنقل من مقالات الناس
– لا انقل ولكنني استعين بها
– وهل لا تستطيع كتابة شيء بدون نحل عرق الآخرين
غمره رعب مشوب بغضب مهيض ومر،إنها النهاية،تأتي مختالة في ثوب فضفاض، عجلة الزمن تختل في الذهن، لم يكن يحسب أن الحياة ستبقره باكراً، وأنه سيستيقظ ذات مساء وقد كشف السر.الليل يلفه بالسواد.تتهشم الروح تدور في الفراغ،افتح الصدر للريح، جاءه الصوت من بعيد، نهيق حمار يعبر الجمجمة، يبحث عن دفء يلملم الجسد النحيل، تنبت أوجاع الفضيحة من حوله، أخذ ورقا ابيضا وراح يخربش، حرف يخرج ميتا، وحرف ثان.. الكلمات تهرب،لا تستقيم، احتار كيف يكتب جملة،سطرا واحدا يكفي لكي يهزم الخواء الداخلي، ترك الفضاء الأبيض، أشعل سيجارة أخذ نفساً عميقاً مزق الورقة، خوار البقرات يخترق الصمت،لم يتعلم حرفة، أبوه كان شيخا للقبيلة،عندما طردوه،سقطت السماء على الرأس الفارغة، أحب السلطة،الأمر والنهي من علامات القوة، جرب جميع الوسائل فاستوى سائسا للبهائم، عندما فشل، لم يجد إلا الورق والحبر،والكلمات النافرة المقدودة من مخاض الآخرين، حاول أن يرحل في فضاءات الحروف خارجاً من عالم تسكنه النميمة والسلطة الموؤودة،تعلم سياقة العربات، واحتشدت في الذهن حكايات الأمن، انتصب الخوف شامخا وتدافع أمام العيون،صفقت ملابس القرصان الرثة في الهواء وجذب الجسم النحيف الفارع، بعيدا فاردا يديه، كأنما يحاول الطيران،السيارة المهترئة تهتز تشطره إلى نصفين،طارت بعيدا، وتسابقت الحروق من حوله، خرج من النافدة، غاص في بحر الحروف، سبح بعيدا، أطبق على بضعة حروف، وانسابت من بين الأصابع رملا، صاح ديك فوق سطح الدار، فرك عينيه الضيقة،انسحب من تحت الفراش تمطط وطقطقت العظام الهشة.