الأحد ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

الفن والحياة الاجتماعية

قمت من نحو أسبوع بعرض كتاب "الأدب في خطر" للناقد الفرنسي المعروف "تيزفيتان تودروف" الذي حذر فيه من الشكلانية والعدمية والأنانية التي أصبحت تمثل ركائز تيار أدبي رائج. وقد أعادني كتاب "تودروف" إلي كتيب آخر لا يقل أهمية في الموضوع ذاته وهو الفن والحياة الاجتماعية "لجيورجي بليخانوف"ومع أن الفارق الزمني بين صدور الكتابين كبير إلا أننا سنجد الكثير من المفاهيم الأساسية المشتركة خاصة ما يتعلق بمفهوم الجمال وبوظيفة الفن الاجتماعية.

يقول "تودروف": "يمكن للفلاح الإعجاب بالشكل الجميل لأداته الفلاحية لكن هذه الأخيرة ينبغي أن تكون قبل كل شيء فعالة، والمؤمن في الكنيسة قد يكون مفتونا بالموسيقى التي يستمع إليها وبصور القديسين، لكن هذه الإيقاعات وتلك الرسوم موضوعة في خدمة العقيدة".

هكذا يربط"تودروف"بوضوح بين الفن ودوره الاجتماعي. أي أن للأدب هدفا وغرضا، ولا يمكن أن يقتصر دوره على خلق الجمال.

أما بليخانوف فيقول في كتابه "الفن والحياة الاجتماعية" إن البعض كان يرى أن الفن "هدف بحد ذاته وأن تحويله إلي وسيلة لبلوغ أهداف أخرى حتى لو كانت أنبل الأهداف هو امتهان لكرامة الإبداع الفني"، ويؤكد بليخانوف على أن الفن لا يصور الحياة والظواهر فحسب بل يفسرها أيضا، وغالبا ما يتسم الإبداع الأدبي بأهمية خاصة تتمثل في "الحكم على ظواهر الحياة".

ويطرح بليخانوف مسألة ربط الفن بدوره الاجتماعي ليس باعتبارها إلزاما أو التزاما، فالكتاب في زمن معين وفي بلد معين يتحاشون الاندفاع إلي الانفعال والمعارك، وعلى العكس فإنهم في زمن آخر يندفعون إلي كل ذلك ليس لأن أحدا يفرض عليهم "التزاما" ما، لكن لأن مزاجا معينا يستولي عليهم في ظروف اجتماعية محددة، ومزاجا آخر في ظروف أخرى.

وينبثق الميل إلي الشكلانية والعدمية والتمركز الأناني حول الذات في لحظات تاريخية يقوم فيها التنافر الشديد، الميئوس منه، بين الفنانين والبيئة الاجتماعية المحيطة بهم، أي عندما لا يرون مخرجا في الأفق للأزمات الكبرى. أما ما يسمى بالنظرة النفعية إلي الفن والأدب، أي الميل إلي "أهمية الحكم الذي يصدره الأدب على ظواهر الحياة"، والاستعداد للمشاركة في المعارك الاجتماعية، فإنها تنبثق في ظروف ينتشر فيها التعاطف المتبادل بين قسم كبير من المجتمع وبين الكتاب والفنانين.

ويضرب بليخانوف مثالا بالشاعر بودلير الذي ظل ينادي باستقلال الفن عن أي قضية أخرى، إلا أن بودلير هذا قام بمجرد أن هبت ثورة 1848 بإصدار مجلة ثورية، كما أخذ يكرر أن "الفن للفن نظرية صبيانية"وأعلن أن على الفن أن يخدم أهدافا اجتماعية. وهذه النظرة النفعية إلي الفن هي عقيدة السلطات أينما كانت والتي تحاول أن تسخر الفن لمصالحها، كما أن النظرة النفعية للفن قد تكون عقيدة الأدباء ممن يدافعون عن الحرية.

يقول "تودروف" إن أحد مصادر الخطر على الأدب هو القول بأن "الأنا الذاتي" هو الكائن الوحيد الموجود! ويشير بليخانوف إلي الفكرة ذاتها قائلا: "إن المثالية الذاتية قد ارتكزت دائما على الفكرة القائلة بأنه لا وجود لأي واقع آخر سوى "أنا" نا !

ويضيف بليخانوف :"إن المجددين الحاليين في الفن والأدب لا يكتفون بما أنجزه أسلافهم. ولا ضير في ذلك. بل بالعكس فإن السعي إلي الجديد غالبا ما يكون مصدرا للتقدم، ولكن ليس كل من يفتش عن الجديد يجد شيئا جديدا فعلا. لأن علينا أن نتعلم كيف نبحث عن الجديد. أما من لا يرى في الواقع أي شيء سوى "أنا" ه الخاصة، فإنه لن يعثر خلال بحثه عن الجديد إلا على تفاهة جديدة. لقد أخذت الفردية المتطرفة تحجب عن الفنانين والكتاب جميع مصادر الإلهام الحقيقي، وهذه الفردية تجعلهم عميانا عما يجري في الحياة الاجتماعية، وتحكم عليهم بإثارة ضوضاء عقيمة بانفعالات شخصية خالية تماما من أي مضمون، ونتيجة لذلك نجد أنفسنا في النهاية أمام شيء لا يمت بأي صلة إلي الجمال والتجديد الذي يبحثون عنه، ذلك أن دافعهم إلي التجديد ليس حب فكرة جديدة ما، بل الحب لذلك الواقع الوحيد أي"ذاته". أخيرا أقول إنه إذا استطاع القارئ أن يقرأ معا كتاب "تيزفيتان تودروف" الأدب في خطر، وكتاب بليخانوف "الفن والحياة الاجتماعية" فسيري الكثير من الركائز الفكرية المشتركة في تحليل وفهم دور الأدب رغم الفارق الزمني واختلاف طبيعة المدارس الفنية التي واجهها "بليخانوف" والتي يتصدى لها "تودروف".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى