الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم جاسم أحمد الحمود

الرائـحـة

تجولتُ في البيت الجديد، غرف صغيرة أنيقة، جدران زاهية الألوان، ثريات مضيئة تتدلى من السقف، أثاث جديد، وسائل ترفيه عصرية، أبواب خشبية مشغولة بعناية، قبضات معدنية صفراء تشع بانعكاس الضوء عليها، نوافذ من الألمنيوم (أباجورات) جميلة... بيتٌ جميل، لكن أحسّ بالضيق، ضيق شديد في صدري يكاد يكتم أنفاسي، تعود بي الصور إلى بيتنا القديم، غرف كبيرة مبنية من الحجارة، سقوف من الخشب والطين، أبواب من صفائح خشبية طولية تعترضها أعمدة صغيرة، أحس بالضيق، أ تجه نحو النافذة، أفتحها، تنـزلق بهدوء و برود يغيظني، أتذكر نوافذ بيتنا القديم، نوافذ عميقة تتوغل في الجدران العريضة، تنتهي بدرفتين خشبيتين تحدث صريرا ً أليفاً عند فتحها، أتذكر أماسي الصيف والسهرات مع الجيران، نرشّ أرض البيت والجدران بالماء، تتهادى نسائم الهواء، فتنتشر تلك الرائحة، رائحة غريبة لها جاذبية خاصة تتسلل إلى الصدر منعشة طرية... رائحةٌ بنكهة مميزة تشبه رائحة الجص المبلل بالماء. تمددت على السرير... الرائحة تزداد قوة، لست أعاني من رائحة الدهان أو الجدران أو الأثاث الجديد بل إني لا أشمها... تلك الرائحة تجتاحني من جديد، إنها تزداد قوة وتأثيراً يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة... تمددت على السرير، أتذكر (الدكة) التي كان يصنعها والدي صيفاً للنوم، يضع بضعة براميل بجانب بعضها، يسندها بالأحجار وفوق البراميل يضع صفائح خشبية، يرتفع الفراش عن الأرض، فيُعزل عن حرارة الأرض، ويصبح بارداً وآمناً من حشرات الأرض التي تكثر صيفاً.

وضعت رأسي على الوسادة، أشم رائحة منعشة، لا أدري ما هي ربما تكون رائحة الخشب تحت الفراش، أو رائحة البراميل النائمة تحت الخشب، رائحة لا أدري ما هي، إلا أنها قريبة مني...

أدرت وجهي نحو الجدار، بعد أن أجبرنا على الرحيل، عشنا في خيمة، كانت الخيمة الصغيرة بلا رائحة، أكثر من مرة اقتربت من قماشها الكتاني محاولاً إيهام نفسي بوجود رائحة لها، لكن كانت بلا رائحة ولا طعم ولا لون.

تلك الرائحة القديمة تعيش معي منذ سنواتٍ طويلة لم تفارقني، تأتيني في الحلم، وفي اليقظة أحسّ بها في قيامي وجلوسي، وعندما أعمل، وحين أقرأ وأكتب، حتى أثناء انشغالي بالطعام أو الشراب ونقاشات العمل... أعترف أني في لحظات ضعفٍ اعترتني، ظننت أني سأنسى تلك الرائحة عندما رأيت حقول الأزهار هنا، ستجرفني بدوامات عبيرها، و لكن الأيام تمضي والشهور والرائحة صارت أكثر، وتأثيرها أقوى، وعندما تركت الخيمة، وانتهى المطاف بي في بيتٍ صغير في بلد أوربي اعتقدت أنّ رائحة البيت الجديد ستطغى على تلك الرائحة القديمة، أو تمحوها، لكن البيت الجديد كان بارداً صلباً جافاً بلا رائحة وبلا دفء وحميمية، كان مظلماً كقبرِ شقيٍ، جدران حيادية من البلوك، ونوافذ زجاجية قاسية، عندما وطئت قدمي هذه الأرض أوهمت نفسي: لكل قارة رائحتها، ولأوروبا رائحة خاصة، ففيها مصانع العطور، وروائحها ستذيب تلك الرائحة في فضاءاتها...

فوجئت بأن هذا لم يحدث، وبقدر ما امتدت المسافات بيني وبين بيتنا القديم، امتدت تلك الرائحة في صدري، وتوغلت فيه، وارتوت خلايا القلب منها، أتقلّب على السرير، في ليالي الشتاء الباردة كنت أنام في مكاني المعتاد، في زاوية الغرفة، فأحسّ بألفة شديدة مع الجدران، تحنو عليّ، تقترب مني، فأحسّ بالدفء والأمان، أتقلّب على السرير، أحسّ أن هذه الجدران تهرب مني، تبتعد عني، تتركني لعراءٍ وحشي قاتل، قاربت الشمس على الشروق، ولم أستطع النوم، تحاصرني الرائحة، نهضت عن السرير، لبست ثيابي، وخرجت.

وقفت في الشارع محتاراً إلى أين سأذهب؟ لا أدري إن كنت في منامٍ أو صحوة، هناك في البعيد في اتجاه الشرق خُيل إليّ أني أرى بيتنا القديم، والرائحة تعرُج منه، وتسري إليّ، تجذبني...

أمشي وتوشح دربي بالنور...

أمشي وتمنح خطواتي الطمأنينة والأمان...

أمشي وتهديني إلى البيت...

المسافة طويلة، لكن الرائحة تؤنسني، وتخفف وحدتي...

أمشي والرائحة تمنحني القوة...

أمشي والرائحة تملأ صدري أكثر؛ فأحس بنشوة منعشة رائعة، فأهرول، وأحس أنّ روحي ترفرف، وقلبي يتفتح مثل وردة داعبتها أشعة الشمس في صباح ربيعي ندي...

أركض... الشمس بدأت تشرق... أتابع الركض... روحي تحلّق عالياً، وقلبي يتسع ليشمل العالم كله...أركض مع الرائحة حيث بيتنا القديم في فلسطين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى