

ابن زيدون بتمامه
ابن زيدون: يَجْرَحُ الدَّهْرُ وَيَأسُو
ابن زيدون (مشطور الرمل):
ما على ظني بأسيجرح الدهر ويأسوربما أشـرف بالمرء على الآمــال ياسُولقد ينجيك إغفالٌ ويرديــــك احتراسُولكم أجدى قعودٌولكم أكـــدى التماسُوكذا الحكم إذا ماعزَّ نـــاسٌ ذلَّ نــاسُ
ابن زيدون صائغ ولا أمهر، فنان ولا أبرع، بليغ ولا أجود، لغوي ولا أثرى، يجيد ما يختار من ألفاظ، ويحسن الفخر بنفسه زاهياً كأقرانه من عمالقة الشعر والفن، فالشاعر أزهى بني الإنسان - على حد تعبير غوته، شاعر الألمان العظيم - وإنّما لكل مقال مقام، وإن كان مقامه رفيعاً، يشار إليه بالبنان، لكن من هنا يثير كوامن الحقد والحسد في وجدان الخلان والأقران!!
نعم ومع حذره وحذقه، أُوقِع به حساده وخصومه في غياهب السجون، بعد أن أوقَع هو بنفسه في الدواهي والمهاوي حين راح بالمشتري، وترك بدر الدجى!! ولِمَ لا يُوقع به؟ وما العجيب؟!! لديه منصب رفيع، وفن بديع، وعشيق لمّيع، ومال وديع، والرجل خليع صريع!!
مهما يكن من أمر، خاب ظن من تربص به الشر وأوصله للسجن المر!! عندما قالوا: الرجل مات شعره وقضي أمره، يذكرني هذا الموقف بدعبل الخزاعي وأبياته:
نعوني ولمّا ينعني غير شـــــامتٍوغير عدوٍ قـــــدْ أصيبت مقاتلهيقولون إن ذاق الردى ماتَ شعرُهُوهيهاتَ عمرالشعرِ طالت طوائلهسأقضي ببيتٍ يحمدُ الناسُ أمــــرَهُيكثرُ من أهلِ الروايةِ حاملهيموت ردي الشعرِ من قبل أهــــلهِوجيدهُ يبـقى وإن مـــات قائله
لا أدري كيف يحكم القائلون؟!! والشعر والشاعر - أمثال دعبل وابن زيدون - خالدان، فبأي آلاء ربّكما تكذبان، قضى سجنه، وعمق شعره، وسار على نهج شرقه، فأحكمه بحكمته، فالسجن صيّره حكيما، وعلّمته التجارب بما لم يكن بها عليما، لذلك يمكننا القول، إنّه مزج الأصالة والموروث بالتّحضر الأندلسي المبعوث، ولهذا ذهب الدكتور شوقي ضيف بقوله " كان ابن زيدون يحسن ضرب الخواطر والمعاني القديمة أو الموروثة في عُملة أندلسية جديدة، فيها الفن وبهجة الشعر وما يفصح عن أصالته وشخصيته".
نرجع لشعره في سجنه، إذ يتحفنا بهذه الرائعة السينية الزيدونية، والتي تعدّ من روائع الشعر العربي، وقد نظمها خلال فترة سجنه المأساوية، و ارسلها الى صديقه الوزير الاديب ابي حفص بن برد ليشفع له عند امير قرطبة ابن جهورحاكم قرطبة انذاك، وهي من (مجزوء الرمل)، ويذكرها العماد الأصبهاني في (خريدة قصره وجريدة عصره) ( ج 2 ص 486 - 487 ):
ما على ظني بأسيجرح الدهر ويأسوربما أشـرف بالمرء على الآمــال ياسُولقد ينجيك إغفالٌ ويرديــــك احتراسُولكم أجدى قعودولكم أكـــدى التماسُوكذا الحكم إذا ماعزَّ نـــاسٌ ذلَّ نـاسُوبنو الأيام أخيافٌ سراةٌ وخســـــاسُتلبس الدنيا ولكنْمتعةٌ ذاك اللبـــاسُيا أبا حفص وما ساواك في الفهم إياسُمن سنا رأيك لي فيغسق الخطب اقتباسُوودادي لك نصٌلـــم يخالفه القيــاسُأنا حيرانٌ وللأمـــــر وضــــوح والتباسُما ترى في معشرٍحالوا عن العهد وخاسواورأوني ســــــارياًيتقى مــــــنه المساسُأذؤبٌ هامتْ بلحـــميفانتهــــابٌ وانتهـاسُكلّهم يسأل عن حـــالي وللذئب اعتساسُإن قسا الدهرُ فللماءِ من الصخر انبجـاسُولئن أمسيتُ محبـــوساً فللغيث احتبــاسُويفت المسك في التـربِ فيوطاً ويـــداسُيلبد الوردُ الســـبنتىوله بعــــد افـتراسُفتأمل كيـف يغشــــىمقلة المجــد النعاسُلا يكن عهـدك ورداًإن عهـــدي لـــك آسُوأدر ذكـــــريَ كاساًمـــا امتطت كفك كاسُواغتنم صفو اللياليإنّمـا العيش اختلاسُوعسى أن يسمح الدّهــر فقـــد طال الشماسُ
انتهى نص الخريدة الأصبهانية، ونعقب موجزين:
تجارب الأيام، وتقلب الدهر، وقضاء الله وقدره، يذلُّ من يشاء، ويعزّ من يشاء، وهو العزيز الحكيم، والدنيا عمرها دنيا الأضداد، فوفِّق في طباقاته بين جرحٍ ودواء، ويأس وآمال، وعزّ ناسٍ وذلّ ناس، ووضوح والتباس، وورد وآس، وسراة وخساس، ونص وقياس، ثم يزيد الطباق للمقابلة، فيزيد بصفتين على التوالي في التضاد،ينجيك إغفال ـ يرديك احتراس، وأجدى قعود ـ أكدى التماس.
من لطف الشعر، وخصائصه الفنية الخفية، أنّى وجدت الطباق والمقابلة، ترقبت الجناس بكامله وناقصه، وهما من المحسنات اللفظية الشائعة في ذلك العصر البديعي، فلك من التجانس التام ما بين ( ياسو و ياسُ)، فلفظهما مخفف، ومعناهما مختلف، فالأولى بمعنى يداوي، والثانية تعني القنوط، والناقص يتجلى بين المحاذير والمقادير، وأجدى وأكدى، فكل لفظتين متقاربتان نطقا، إلا بحرف أو حرفين. والجرس الموسيقي الداخلي لهما واحد!!
ولا أراك تحتاج إلى دليلٍ على لطف موسيقى الأجراس، وبث آهات الأنفاس، فما لظنّه من باس!! تارة يلوم نفسه بالاحتراس من الشرور، ولماذا الاحتراس؟!! ربما في الغفلة نجاة من شر الوسواس الخناس، وطوراً يشكو إلى صاحبه أبي حفص من حسّاده الأعداء، ممن يرتدي قناع الأصدقاء، ومرة ثالثة يشبّه مودته بالآس ثابت الرائحة، ويرجومن صديقه أن لا يكون كالورد سرعان ما يفقد عطره والإحساس، نفس مضطربة لا تدري كيف تحرر من الاحتباس، في حيرة والتباس، ثم لِمَ الضيق من الحبس والضيق؟!! أليس المطر يزخر بالخير بعد احتباس، والمسك لا يعجّ بالعطر إلا حين في الترب يداس، والأسد تلبد ولكن من بعد ذاك افتراس؟!!!!
ندع ابن زيدون مع قصيدة شكواه الرائعة يدور بها كما يشاء، باستعاراته التصريحية والمكنية وكناياته وصوره الحسية والتخيلية واقتباساته...
ومن روائع ابن زيدون قصيدته التهديدية التي كتبها إلى خصمه اللدود، ومنافسه لفردوسه المفقود، وولّادته بدر الدجى المعبود، الآ وهو الوزير ابن عبدوس، والحق أردت أن أفسح المجال للعماد الأصبهاني أن يزوّدنا بما خزنه في (خريدة قصره وجريدة عصره)، ولكن وجدت البرقوقي في مجلة (بيانه) / العدد 59، ص 13) ينقل قبلها أبيات أخرى مع خصم آخر، أقل وطأةٍ من العبدوس، قلت والله تأتي بمحلها، فإليك والترتيب لي!!!
أ - ابن زيدون وأبو عبد الله البطليوسي:
كان مجلس ولاّدة بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة مسامرتها. وهي مع ذلك محافظة على علو النصاب، وكرم الأنساب، وطهارة الأثواب. ولقد طمع بعضهم في الاستئثار بها دون ابن زيدون. فنازعه على حبها، وزاحمه في ودها، رجل من رجالات عصره. وهو أبو عبد الله البطليوسي. فكتب إليه ابن زيدون يزجره بهذا الرجز:
أيا عبد الإله اسمــــعْوخذ بمقالتي أو دعوأنقص بعدها أو زدوطر في أثرها أو قعألم تعلم بأن الدهـــر يعطي بعـــــد ما يمنعفإن قصارك الدهـْليز حيث سواك في المضجع
ب - ثم بين ابن زيدون وابن عبدوس المذكور في ما قدمناه:
ومنهم الوزير أبو عامر بن عبدوس الملقب بالفار، وكان ممن أكابر رجالات قرطبة، فاغتاظ ابن زيدون وبعث له بهذه الأبيات:
أثرت هزبر الشرى إذ ربضْونبهته إذ هدا فاغتمضْوما زلت تبسط مسترسلاًإليه يد البغي لمّـا انقبضْحذار حذار فإن الكريــمإذا سيم خسفاً أبى فامتعضْوإن سكون الشجاع النهوس ليس بمانعه أن يعضْعبثت بشعري ولم تتئبْتعارض جوهره بالعـــــــرضْأضاقت أساليب هذا القريض أم قد عفا رسمه فانقرضْلعمري لفوقت سهم النصالوأرسلته لو أصبت الغرضْ
ولما فرّ من محبسه وإساره، وإقامته متوارياً كالقمر في سراره، وهو في قرطبة، خاطب ولادته حبيبة الأمس، إذ خصّته وحده من دون خلق الله، وما كانت الولادة في عصرها إلا الولادة وحدها لا غير، واستنهض صديقه الأديب أبا بكر للشفاعة، واستنزل أبا الحزم بن جهور:
شحطنا وما بالدار نأي ولا شحطُوشطّ بمن أهوى المزار وما شطواأأحبابنا ألوتْ بحـــــادث عهدناحوادث لا عهد عليها ولا شرطُلعمركم إن الزمـــان الذي قضىبتشتيت جمع الشمل منا لمشتطُوأمّا الكرى مذ لم أزركمْ فهاجــــرٌزيارته عبّ ٌ وإلمامـــه فرطُوما شرق مقتول الجوانح بالصدىإلى نطفـةٍ زرقاء أضمرها وقطُبأبرح من شوقي إليكم ودون ماأدير المنى عنــه القتادة والخرطُوفي الربرب الأنسي أحوى كناسهنواحي ضميري لا الكثيب ولا السقطُغريب فنون السحر يرتاح درعـهمتى ضاق ذرعاً بالذي حازه المرطُكأن فؤادي يوم أهوى مودعاًهوى خافقاً منه بحيث هـوى القرطُإذا ما كتاب الوجد أشكل سطرهفمن زفرتي شــكل ومن عبوتي نقطُألا هل أتى الفتيان أن فتاهـمْفريسة مـــن يعدو ونهزة من يسطووأن الجواد الفائت الشأو صـافنتخـــــوّنه شــكل وأزرى به ربطُوأن الحسام العضب ثاو بجفنـهولا ذم مــــن غربيه قدٌّ ولا قـــطُعليك أبــا بكرٍ بكرت بهمـةٍلها الخطر العــــــالي وإن نالها حطُأبي بعدمـــا هيل التراب على أبيورهطي فذاً حين لم يبق لي رهطلك النعمــة الخضراء تندي ظلالهاعلي ولا جحد لدي ولا غمطُولولاك لم يثقب زنــاد قريحتيفتلتهب الظلماء من نارها سقطُولا ألّفت أيدي الربيع أزاهــراًفمن خاطري نثر ومن روضه لقطُهرمــت وما للشيب وخط بمفرقيولكن لشيب الهم في كبدي وخطُوطاول سوء الحال نفسي فأذكرتمن الروضة الغناء طاولها القحطُمئون مـــن الأيام خمس قطعتهاأسيراً وإن لم يبد سرّ ولا قسطُأتت بي كما ميط الإناء من الأذىوأذهب ما بالثوب من دنس مسطُأتدنو قطوف الجنتين لمعــــــشروغايتي السدر القليل أو الخمطُوما كان ظني أن تغرنيَ المنىوللغر في العشواء من ظنه خبطُ
وقبل أن نغلق باب هذا المشوار، نمر على غزله المعتاد لحبيبة الفؤاد، ومدحه
للمعتضد وهو المراد، ونكتفي بهذه الأبيات:
أما في نسيم الريح عرفٌ يعرفُلنا هل لذات الوقف بالجزع موقفُضمان علينا أن تزار ودونهارقاق الظبى والسمهري المثقفُوقوم عدى يبدون عن صفحاتهموأزهرها من ظلمة الحقد أكلفُيودون لو يثني البعاد زمامنا...وهيهات ريح الشوق من ذاك أعصفكفانا من الشوق التحية خلسةًفيومئ طرفُ أو بنـانُ مطرفُوإني ليستهويني البرق صبوةالى ثغر برق إن بـدا كاد يخطفوما ولعي بالراح إلا توهمـــــاًلظلمٍ لها كالــراح إذ يترشفُوتذكرني العقد المرن جمانهٌمرنات ورقٍ في ذرى الأيــك تهتففما قبل من أهوى طوى البدر هودجٌولا ضم ريم القفر خدر مسجفُولا قبل عباد طوى البحر مجلسولا حمل الطود المعظم رفرفُهو الملك الجعد الذي في ظلالهتكفُّ صروف الحادثات وتصرفُعلى السيف من تلك الشهامة ميسموفي الروض من تلك الطلاقة زخرفُيظن الأعادي أن حزمك نائــــــــملقد تعد الفســــــل الظنون فتخلفُرأيناك في أعلى المصلى كأنماتطلع من محراب داوود يوسفُولما حضرنا الأذن والدهر خادمتشير فيمضي والقضاء مصرفُوصلنا فقبلنا الندى منك في يدبها يتلف المــال الجسيم ويخلفُلك الخير أنّى لي بشكرك نهضةوكيف أؤدي شكر ما أنــت مسلفُولولاك لم يسهل من الدهر جانبولا ذل منقـــــاد ولا لان معطـــفُ
ماذا؟!!! كانّه أبو تمام بين يدي المعتصم، أو البحتري أمام المتوكل، أو المتنبي في مجلس سيف الدولة، وهاك!!!
وقال ابن زيدون في المعتمد بعد المعتضد من قصيدة طويلة جميلة:
وإذا غصون المكرمات تهدلتكان الهديل ثناؤك المترنمُالفجر ثغر عن حفاظك باسموالمجد برد من وفائك معلمُ
نعم المدح مدح، تذكرت بيتي المتنبي، واعتراض سيف الدولة، وتحليل الشاعر الحائك لهما، ولبيتي امرئ القيس، وإقرار السيف البزاز، الذي لا يرى في القماش إلا جماله، والحائك يعرف كلّ خفاياه وأسراره، فمنح سيف الدولة خمسين دينار صلاة، وتعادل خمسمائة دينار كجائزة للمتنبي على هذين البيتين الرائعين، ولك أن تحكم بين الاثنين:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍكأنك في جفن الرّدى وهو نائمُتمرّ بك الأبطال كلمى هزيمــــةًووجهك وضّـــــاحٌ وثغرك باسمُالسلام عليكم، والشعر إليكم، والسماح منكم!!!
مشاركة منتدى
30 آب (أغسطس) 2019, 02:57, بقلم ابو أمير
وكذا الدنيا إذا ما عز ناس وذل ناس
4 آذار (مارس) 2020, 22:41, بقلم حاتم
شكرا لكم على مجهوداتكم اعجبني كثيرا الموقع فأردت تشجيعكم بكلمة طيبة تحياتي من تونس