ابرز مظاهر الأزمة الثقافية في الواقع العربي
لا ادري إن كان هذا العنوان مكررا , لكني لم اشغل نفسي كثيرا في اختيار عنوان هذه المشاركة , وان كان قد تداعى إلى ذهني عنوان مثير , أردته أن يكون كالومضة في ليل سباتنا الثقافي,علها تلامس جانبا من اهتمامات أولى الأمر فينا , إلا أنى آثرت أن يكون العنوان معتدلا كي أتجنب حفيظة كبار المثقفين . وإنما حسبي هذه الإشارة , وهي دعوة لكافة المثقفين لإعادة الحوار حول هذا الأمر .
نكاد جميعنا نشعر بالسخط على كل ما تعرضه علينا وسائل الإعلام , في الصحافة , في السينما , في التلفزيون , من أعمال أدبية وفنية هابطة , نجتر ذاكرتنا , نستحضر الماضي القريب , حين كانت هذه الوسائل تقدم متعة اكبر وغذاء أشهى, تمام لو أن أحدنا غلبه شوقه إلى شعر جيد فتراه يبحث عن ديوان المتنبي.
لكن هل هذا الأمر صائبا ؟ أم هي غريزة الرفض لكل جديد, وارتفاع قيمة القديم لأنه اصبح نادرا .
سؤال يستدعي الإجابة , فهذا الشعور موجود سواء كان خطأ أم صواب , فهو في حد ذاته إشكالية تتطلب الوقوف والتأمل .
يشير بعض مؤرخي الفكر والثقافة إلى أن المبدعين لا يتواصلون , لكنهم أشبه بحركة الموج في البحر , نجد في كل قمتين من الموج العالي نقطة منخفضة , ومنهم من ذهب ابعد من هذا إذ أضاف أن جيلا من القمم من شانه أن يلقي بظلاله على الجيل التالي , فلا يوفر له فرص النمو ,تماما كالشجرة الضخمة تلقي بظلالها على النباتات الأخرى فتموت لأنها تحجب الشمس عنها , وتمتص منها الماء والغذاء فلا تنمو حولها إلا الحشائش .
قد يكون هذا الرأي صحيحا , ولكن هل يفسر هذا الرأي حالة الانحطاط الثقافي ؟ أنا لا ارى ذلك , لأننا إذا ما تأملنا إلى ما هو أوسع , فإننا نرى وعلى مساحة شاسعة أسباب ومبررات ذاك الانحطاط . وبعض هذه الأسباب مرضي ويحتاج إلى علاج , وبعضها الآخر يعتبر من أمراض النمو التي لابد من الإصابة بها للوصول إلى العافية .
نتأمل نموذجا من أمراض النمو ..
جميعنا ندعو ونعمل من اجل ديمقراطية الثقافة وانتشارها . تحضرني الآن الضجة التي أثارها الأديب طه حسين عندما طالب بان يكون التعليم في مصر مثل الماء والهواء . وكان يرى أن العبرة في القاعدة العريضة , وتعرض حينها لانتقادات الصفوة الذين قالوا أن الماء في النهر إذا ترك يتدفق دون حساب فانه يغرق ما حوله , والجدوى تكون في ضبطه .
وجهتي نظر لخصتا معركة احتدمت رحاها بين المفكرين إلى أن اصبح التعليم مجانيا في جميع الدول العربية , وأقيمت الجامعات وتحركت بذلك موجة ماكان ممكنا لاحد ان يوقفها , الى ان تحولت القضية الان الى معالجة عيوب التعليم , وهي عيوب تعبر عن القصور في اكمال الرسالة وليس في الرسالة ذاتها .
لكن السؤال هو كيف اثر ذلك على الثقافة العامة ؟ وكيف نتج عن الخير بعض الشر ؟
لاحظوا معي حتى تكتمل الصورة , ان انتشار وسائل الاعلام كان سببا في اتساع دائرة التعليم, المطابع الحديثة , ظهور الاذاعة , ثم السينما فالتلفزيون , الاقمار الصناعية , واخيرا شبكة الانترنت , وهي وسائل تصل الى الجميع , وتخاطب حتى من لايقرا ولايكتب ,
هذه القفزات العلمية تقاطعت مع اتساع التعليم وارتفاع نسبي في مستوى المعيشة فاحدثت تفاعلا مثيرا .
اصبحت منابر التثقيف من الكتاب الى التلفزيون محكومة باعتبارين هما : ان جمهورها الاكبر اصبح من الجمهور شبه المتعلم وهي تفضلهم باغلبيتهم العددية على ان يكون روادها قلة من المثقفين بسبب عقلية التاجر , فانتشر الانتاج الهابط الخالي من اية قيمة فنية او فكرية .
الثاني : ان تعدد وازدياد وسائل الاعلام حولها اشبه بالمعدة الشرهة التي لاتشبع ,فالصحيفة اصبحت عدة صحف , والقناة التلفزيونية اصبحت عدة قنوات ,وهي بحاجة الى طعام .. الى انتاج ,فاخذت تتلقف اي شيء يقدم لها , لان سوق الطلب اكبر من العرض , والتاجر عليه ان ياخذ الثمار الناضجة مع الثمار المتعطنة .
هذا الامر شكل احد اسباب مانسميه الانحطاط الثقافي , الا انه وفي هذه الحدود يكون مرضا من امراض النمو , لان مستقبل الانسانية مرتبط بازدياد التعليم واتساعه , وبتعدد وسائل التخاطب الثقافي , وعلينا توقع هذه الامراض وعلاجها لنصل الى العافية .
على ان هناك امراضا قد تستفحل , وتصبح مزمنة وتقضي على الجسم الثقافي وساذكر عددا منها.
- دور المؤسسات في تحسين التعليم وتغيير فلسفته من مجرد تلقين المعلومات الى عملية تكوين شاملة , والى تحريض مقدرات الطالب الشمولية , فاستيراد ثمرات الثورة العلمية قد يكون دليل ثراء, لكنه ابدا لن يكون دليل تطور , علينا معرفة هذه الحقيقة والالتفات لها , ومالم نباشر الى تعديل انظمتنا التعليمية وتطوير ادواتنا الثقافية فان الفجوة بيننا وبين العالم المتحضر سوف تتسع كثيرا , وحينها يكون الحديث عن عبورها محض خيال شعراء , لاتخطيط علماء .
- تعليب الظواهر , كثيرا من مثقفينا ومن القائمين على حياتنا الثقافية يميلون الى تبسيط التجارب الثقافية والحضارية لنا ولغيرنا , ويصورون لنا الحياة تصورا مقولبا جاهزا , فتراهم مثلا ينظرون الى موضوع التراث على انه شيء موجود هناك وكل مانحتاجه هو ان نكشف عنه الغطاء , فيعيش في ذاكرتنا عمر بن الخطاب وطارق بن زياد وصلاح الدين جنبا الى جنب , كما لو كانوا من جيل واحد , ويهملون عناصر التتابع الزمني الذي يؤكد معنى النمو والتطور . ويتحدثون عن الحضارة الغربية كما لو كانت كيانا معلبا ويتجاهلون اختلافات المكان وتنوع العناصر وتعاقب العصور .
يمتد هذا المنهج الى السياسة , فالذين يطالبون بالعودة الى الشريعة الاسلامية , يتصورونها كيان جاهز للتطبيق الفوري , وبذلك لايرون المتغيرات التي لم يكن لها اشباه في عهد نشاة الفقه الاسلامي.
والذين ينادون بتطبيق نظام اقتصادي وسياسي محدد ينجاهلون ماتتعرض له النظم في تطبيقها ونقلها من بيئتها من تغير وتبدل في مكوناتها . - النظرة الاحادية ,فمانسميه الحضارة العربية المعاصرة, هو نتاج مركب ساهمت في صنعه شعوب متعددة , واجيال متعاقبة , وتفاعل شعوب وحضارات اخرى نهلنا منها ونهلت منا , وكان من الجائز ان يكون هذا التنوع مصدرا لثراء الجيل المعاصر لو لم ينقسم على نفسه , فالبعض انحاز للماضي على اختلاف عصوره , والبعض الاخر انحاز للحاضر ورفض قطعيا تركة الماضي .
هذه النظرة الاحادية تحتاج الى تامل , وهي قائمة في حياتنا الثقافية التي اصبحت ساحة معارك بين انصار السلفية وانصار التجديد او الحداثة , وهي معركة شقاء للامة باسرها في انحيازها لهذين البعدين , والنتيجة تصبح الفنون الابداعية موضع جدال طويل بين انصار يدافعون وخصوم يهاجمون . - غياب الابداع , فبغير الابداع سنظل مقلدين وتابعين , الابداع كعطاء حر للخيال وعقل تتفتح له الافاق ويشترط ارادة تملك الخيار , فهو بحاجة الى الحرية التي ترعاه لينمو ويتبلور , واذا كانت حياتنا الثقافية لاتخلو من مبدعين , الا انهم فلتات قدرية تشق طريقها وسط ركام من القمع والقهر , وفي مجتمعات لاتقبل الا بالتوافق الكامل مع المجموع والانصياع للمسلمات المالوفة التي يعتبر الخروج عنها هرطقة وانشقاق , ان غياب الابداع قد فتح الابواب امام الرتابة والسطحية والتكرار , واصبحت الثقافة بين ايدي حفنة من المتاجرين بها فاغلقوا الابواب امام الانتاج المثمر والمتميز , وروجوا للاعمال الهابطة التي لاتحرك فكرا ولاتستثير خيالا ولاتخدم قيمة .
- عدم وضوح الاهداف , ان حركة الفكر الانساني عموما لاتنمو ولا تتقدم الا بمقدار اقترابها من اهداف محددة ,بل ان جوهر المسالة الثقافية هو تامين خدمة هذه الاهداف من خلال عملية الابداع ,فمهمة الفكر والثقافة مهمة مزدوجة في تقديري , المهمة الاولى هي السيطرة على الطبيعة وبناء الكون بقوانين العلم , والثانية هي ترشيد العلاقات الانسانية باشاعة العدل والحرية والسلام , واذا كان التخلف يهدد المهمة الاولى فان التقدم المادي يمكن ان يهدد الثانية , وفي مجتمعات يعيش فيها التخلف مع بعض التقدم فان الثقافة تحتاج الى نوعين من القيم , قيم الحركة والنمو والتقدم المادي , وقيم ترشيد لنوعية العلاقات , فالفكر الذي لايخدم قيم العمل واتقان الاداء هو فكر متخلف لايخدم الثقافة , والانتاج الثقافي الذي يسقط من حسابه قضايا الحرية والعدل فكر يهدد الحضارة في صميمها , وهنا تبرز مهمة معالجة هذا الامر ومقاربته بواقعنا بدلا من استهلاك الطاقات الفكرية واذكاء روح العراك بين الفكر ونفسه .
- ازمة الحوار , الذي بات مظهرا من مظاهر الازمة الثقافية المعاصرة , فالجميع يردد بغير مناسبة ان تعدد الاراء خير ورحمة ودليل ثراء حضاري , ومع ذلك لايكاد احدنا ينحاز الى موقف يلتزم به في قضية من القضايا حتى يضيق صدره بالمخالفين , ويشتد لسانه في اتهامهم بالضلال وتستولي عليه الرغبة في اسكاتهم ومصادرة حرياتهم , واصبحنا نتهم بعضنا دون جريرة وندين الاخرين دون محاكمة ولم تعد هناك جدوى من الحوار , وكاننا جماعة من الصم يتحدثون الى بعضهم دون ان يستمع احدهم الى الاخر .
ماذا بعد ؟؟
جميعنا مسؤولون عن الثقافة ومستواها , كمسؤوليتنا عن تربية الابناء ورعايتهم , وكمسؤولية اية مؤسسة عن زيادة انتاجها وتحسين جودته , وان لايكون حرصنا هنا شبيه بحرصنا على ان يكون لدينا فنادق بسبعة نجوم للسياح وكبار الزوار فقط .
الامر لايحتاج الى شهداء , يحتاج فقط الى قدر من الجدية والاحساس بالمسؤولية .