

ابتسامة فوق شجرة الحنّاء
بين يديّ أربعة أرغفة خبز ساخنة، أركض بأقصى سرعة، عائدا إلى بيتنا، يطاردني بعض شباب الحارة المجاورة، لا ألتفت إلى الوراء كما نصحني أخي الأكبر، أخي ذاك كان أقوى فتى في الحارة، و نظرا لأنه كثير المشاحنات و العراك في الشارع فقد ازدادت شكاوى الجيران منه، مرة بضرب أحدهم وأخرى بإصابة آخر بحجر وأحيانا بكسر فانوس سيارة مرّت بسرعة أمام بيتنا، و حتى تضع أمي حدّا لتجاوزاته قررت قرارا عجيبا، وهو أن أكون رفيقه خارج البيت و ظلّه في كل خطوة يخطوها حتى أنقل لها كل ما يفعل، اتخذت قرارها و قد و صل غضبها حدّا لا يُحتمل عندما فتشتْ حقيبته المدرسية فوجدت فيها سلسلة حديدية، فلم تتراجع عن قرارها رغم محاولاته استرضاءها مذكّرا إيّاها بما يحقّق من نتائج في دراسته الثانوية أو مساعدته لها في شؤون البيت أو رعايته لنا - نحن إخوته- عند غيابها، كل ذلك لم يشفع له، كان لديه أمل أن تصفح عنه فتبتسم له كعادتها بعد بضعة أيام. لكن هذه المرّة كان الأمر نافذا،في ذلك اليوم قالت له بنبرة حادة:
– "لا فائدة معك..... كان المفروض ان تكون قدوة لإخوتك الصغار..".
منذ ذلك اليوم أصبحتُ عين أمي على أخي و ظله الذي يطارده، و في كلّ مرّة أخرج معه أذكر لأمي عند العودة مساء كلّ الذي يفعله بالتّفصيل المملّ، في يومي الأول قالت لي و هي تنزل جاثية على ركبتيها و تنظر في عيني و كأنها تغوص في أعماقي "بنيّ حذار أن تكذب علي، اللّي يكذب على أمّه ربي يفضحه..يفضحه".
لكن الأمور ستغيّر يوما بعد يوم فقد أصبح أخي يشتري لي المثلجات والحلوى و يطلب مني أن لا أقول شيئا لوالدتي، و بعد مرور بعض الوقت شرع أخي يأخذني أيام الأحد في جولة بين البساتين لصيد العصافير أو إلى البحر لنسبح، فصرت لا أقول لأمي إلا بعضا مما أرى..... و مع بداية الصيف أصبحت لا أقول لها شيئا أو بالأحرى لا أقول لها إلا ما يريد أخي. فقد صرت أخرج مع أصدقائه و أستمع إليهم يتحدثون عن كرة القدم و الفتيات و عن أشياء أخرى لا أفهمها. اكتست حياتي ألوانا جديدة مشحونة بالمغامرات، آخر مرة ذهبنا إلى ملعب القرية المجاورة، انهزم فريق قريتنا فقام مع أصدقائه بتهشيم كل مصابيح الملعب الضخمة العالية و عدنا إلى القرية نركض بين البساتين هاربين من سيارة الشرطة، فعدنا متأخرين ولذلك أصبحت أمي تكره ذهابنا لمشاهدة مباريات كرة القدم لأننا نتأخر كثيرا في العودة للمنزل، سارت الأمور غير ما شاءت والدتي لأنني صرت أراقبها هي إكراما لأخي، حتى أنني في بعض الأحيان عندما يتعارك مع أحد الفتيان في الحارة يغمزني فأقف عند باب بيتنا حتى أتأكد من عدم خروج أمي لتنظر سبب الجلبة في الخارج، فإن رأيتها تسرع الخطو في السقيفة نحو الباب الخارجي أومئ له بإشارة من يدي فيهرب ليختبئ خوفا منها.... مازلت أركض و لهاثي يتصاعد، بدا لي بيتنا بعيدا جدا، صوت أخي يطرق أذني " اجرِ... اجرِ يا......" أسرع لا ألوي على شيء....هذه الأيام أصبحت نظرات أمي متغيرة و أصبح شيءمّا يتململ في داخلي....
في ذلك اليوم من شهر رمضان طلبت أمي من أخي أن يذهب الى مخبز الحارة المجاورة لنشتري الخبز الساخن قبل أذان المغرب بساعة تقريبا، في الطريق قال لي: "اسمع لديّ بعض المشاكل مع فتيان الحارة المجاورة فلا بد أن تستعد، إذا حصلت مشكلة ستكون لك مهمة إيصال الخبز إلى البيت، أنت احملْ الخبز و اتركني معهم أستطيع مواجهتهم، إنهم جبناء....." أمسكني من يدي كعادته و أوصاني أن لا أذكر شيئا لوالدتي، وعندما وصلنا إلى المخبز و ما إن رآه أحد الفتيان حتى نادى رفاقه فسارعوا بالتجمع، أما أخي فقد نفذ كقط أرعن بين الجموع المتراصّة، اشترى الخبز عجلا غير عابئ بعبارات السخط ممن حوله، و وضع الأرغفة بين يدي ثم أمرني بالركض و بحركة سريعة التقط جريدة نخل يابس كانت على الأرض و أخذ يلوّح بها في الهواء مانعا أي واحد منهم من اللحاق بي وهو يصرخ دون أن يلتفت " اجْرِ و ما تخافش اجْرِ...يا .... " ثم لمحتُه بنظرة خاطفة إلى الوراء وهو يسند ظهره إلى جدار المخبز كمقاتل محترف و الفتية يريدون الاقتراب منه عبثا و قد دبّت الفوضى في الجمع هناك .....تثاقلت خطواتي و نفسي يكاد ينفذ.... و أخيرا..أخيرا وصلت إلى بيتنا منهكا و العرق قد بلّل ملابسي و ما إن رأتني أمي حتى سألتني مستغربة:
– أين أخوك؟
أجبتها متلعثما: -مع أصدقائه...مع أصدقائه.... سيأتي بعد قليل...
ناولتها الخبز فأخذته إلى المطبخ، ظللت أنا عند الباب أنتظره، مرت دقيقة بل دقائق....الوقت يمرّ ثقيلا و أنا أقف عند الباب منتظرا أخي و لكنه لم يظهر، كان أخوتي يساعدون أمي في تجهيز طاولة الإفطار وسط البيت و أنا جامد أمام الباب أنتظره، انتبهت أمي إليّ فاقتربت مني بهدوء و قالت:
_...اصدقني القول...أين تركت أخاك؟
ظللت صامتا و لكني أجبتها بصوت خافت مرتعش:
– تركته......تركته مع أصدقائه....إنه قادم...
لم تصدقني، نظرت إلي بغضب ثم دلفت المطبخ لا تلوي على شيء، ظللت أنتظره و لكنه لم يأت، غربت الشمس وأزف أذان المغرب و حين اقتربت مني أمي مرة ثانية ارتفع صوت المؤذن: (الله اكبر......... الله أكبر)..عند ذلك لم أستطع أن أمسك نفسي، انفجر ذلك الشيء الذي يتململ في داخلي، و اندفع حزني بكاء و دموعا لا تنتهي، أخذت أبكي بصوت عال أمام استغراب أخوتي، عند ذلك اقتربت أمي مني و قالت لي بصوت قاطع:
ماذا فعل؟
أخبرتها بكل شيء و في لحظة تركت أمي ما في يدها، وضعت "بخنقا " أبيض على رأسها، كانت ستتوجّه إلى الباب حين أطلّ أخي من الباب و هو يلهث و قد بدت كدمة زرقاء تحت عينه اليسرى..نظرت إليه أمي نظرة قاسية و قالت له:
– خذ عشاءك الى غرفتك..لا أريد أن أرى وجهك.
لزمت أمي غرفتها ليلة كاملة، و في الصباح ظلت صامتة، بقيت أياما تتجاهلنا، و لا تكلمه هو بالذات ولا تنظر إليه، حتى جاء يوم الأحد، في ذلك اليوم رأيت أخي يحاول مساعدتها منذ الصباح فيعينها في كنس البيت ويعدّ لها فنجانا من الشاي الأسود الذي تحبه و يحاول المزاح معها علّها تبتسم له و لكن هذه المرة ظللنا ننتظر طويلا ابتسامة أمي عبثا، غير أنه لم يمل من مطاردتها بكل إصرار في كل أرجاء البيت، و في لحظة لا أدري ماذا قال لها، توقفت، نظرت إلينا جميعا، أومأت إليه برأسها موافقة، شعّ الفرح من عينيه فأسرع إلي و قال لي:
– سنذهب الى ملعب القرية البلدي، هيا ارتد ملابسك..
خرجنا من البيت مسرعين، طوال الطريق لم نتحدث عما حصل في المرة الماضية عند المخبز، و لم أسأله لماذا تأخر و لا كيف تخلص منهم و حين وصلنا إلى الملعب لم يبحث عن أصدقائه و لم يملأ جيوبه بالحجر كما كان يفعل قبل كل مباراة، و كعادتنا، في غفلة من رجال الشرطة وضعني على رقبته ثم استقام فتعلقت بالجدار و قفزت إلى أعلاه، أما هو فبقفزة واحدة من جسمه الرياضي كان جالسا فوق السور، جلسنا على حافة الجدار و أرجلنا تتأرجح الى أسفل. رأيت عينيه تجولان في الفراغ، غير عايئ بالمباراة قلت له بصوت خافت:
لقد خدعنا أمي و كذبنا عليها ففضحنا الله، لا أدري كيف سمحت لنا بالذهاب إلى الملعب؟
أجابني بعينين ساهمتين:
أمي كبرت لم تعد تتحمل.....إنها تختبرنا...
قلت له بحزن:
لقد طال حزنها هذه المرة أظن أنها لن تبتسم أبدا..
نظر إليّ و قال بحزم:
ستبتسم... ستبتسم ثق بي..
قبل نهاية المباراة أشار إليّ أخي بالنزول من على السور،قال لي:
– نعود مبكرا إلى البيت قبل أن تبدأ المناوشات بين الجماهير ورجال الشرطة...إنها تنتظرنا.
تلقّفني بين يديه وأنا أقفز من على السور ـ، واندفع يركض بسرعة ويحثني على العجلة، وصلنا إلى البيت بسرعة، دخلنا السقيفة نلهث والسعادة تغمرنا و كأننا نريد أن نقول لها إننا وصلنا مبكرين، لكنها لم تحرك ساكنا، وجدنا ها كعادتها كل عشية جالسة على كرسي خشبي بين شجرتي الحناء والمشمش تطرز كنزة من الصوف للشتاء، رفعت رأسها، رمقتنا بنظرة عجلى و عادت إلى نفس حركاتها، لم تكلمنا،و لم تبتسم. أشار إليّ أخي أن أدخل غرفته، فتبعته حزينا، ثم ناداني بحركة من يده و أشار بإصبعه حذرا يريدني أن أنظر من خلال بلّور النافذة دون أن أرفع رأسي بشكل واضح، فنظرت..
سحرني شعور عطر غريب عندما لمحت ابتسامة أمي وارفة خضراء تتسلق شجرة المشمش وتتعطر بزهر الحناء و تفوح في كل أرجاء بيتنا.....
قال أخي إن أمّي كبرت !! ليس أمي من كبرت فحسب، أنا أيضا كبرت في ذلك اليوم سنوات طويلة، لأني تفطنت إلى ابتسامة أخرى في الغرفة كانت ترقص بصمت في عينين لامعتين.......