إجازة تحت المطر
أخيرا.... حصلتْ "لُجَيْن" ورَفيقتُها "سنْدُس" على إجازة قصيرة، في هذا الفصل الشّتوي المميّز بالنسبة لهما. تحقّقتِ الإجازة بعد عدة شهور من العمل المتواصل داخل المُسْتوْصَف الطبي الوحيد، في إحدى القُرى النائية. طبيبتان في رْيعان الشباب، اختارتا مُزاوَلَة المِهْنة في تلك المناطق الوعْرة، إيماناً مِنْهُما بأنّ الطِّبَّ رسالة إنسانية، تُؤَدَّى في أيّ مكانٍ ودون شروط مُسْبَقة. لم تمْضِيا على الإجازة، حتى التحق طبيبان آخرَان بالقرية ومَعَهُما فوْجٌ من مُساعِدي التّمْريض. كانت الفرحة كبيرة وهُما تسْتقبِلان الوَافِدينَ الجُدُد وتشرَحَان أوْضاعَ العمل في المُسْتَوْصف ومُجْمَلَ الحالات المرضية التي يُعاني منْها أهلُ القرية الصّغيرَة....
قرّرتِ الطبيبتان الاستمتاع بالإجازة في إحدى المُدُن السِّياحِيَة، حيْث تُقيمُ عائِلة "لُجَين" منذ سنوات... فوَالِدُها "قاسيمو" يُديرُ مَطعَماً جمِيلا هادِئاً رغم الاكتظاظ الذي يعْرِفه خاصة في وقت الظّهيرة. أغلب زبائن المطعم، من المُحامِين والمُعَلّمين وأصْنافٍ أخْرى ِمنَ المُوَظّفين.. الاكتظاظُ سببهُ تموْضُعُ المطعم بين المحكمة وبعض المدارس الحُرّة، ومجموعة من الإدارات وبِضْعِ محلات تجارية عتيقة، تُتاجرُ في المصْنوعَات التقليدية بمختلف أنواعها وعديد أشكالها... مصابيحُ يدوية من زجاج شفّافٍ مُزرْكش الألوان ، قطع نحاسية، حقائب جلدية صغيرة مع أقراط وأساور وقلادات للنساء، حافظات نقودٍ للرجال، علاّقاتُ مفاتيح منقوشة، مُتراصّة على جُدْرانِ المحَلات تحتها قِفافٌ من الدّوم الأخضر ومن القصب الأصفر، صنعَها حِرَفيون وتفنّنوا في خلط الدُّومِ والقصَب بخيوطٍ صوفية بديعة الألوان... قُلَلُ الماء الخزَفية بمُخْتَلَفِ الأحْجام، تأخذ حيِّزَها بين باقي المعْرُوضات...
بِأدبِهِ، وأخلاقه الرّفيعة وبشاشة وجْهه وحُسْنِ تعامله مع اليد العاملة لدَيْهِ، استطاع "قاسيمو" أن يمْتلِكَ القلوب وأن يؤسِّسَ مشروعاً ناجِحاً في قلبِ مدينةٍ، يجِدُ فيها السائحُ راحته شِتاء أو صيْفاً، وكأنّ نظام الفصولِ مُلْغى في هذا المكان... ففي عُمْق الشتاء، قد يستشعر الزائر دفئاً غريباً يُرْغِمُهُ على تخفيف الثياب، وفي عمْق الصيف، قد تنزل أمطار غزيرة، يتحوّلُ هسيسها إلى معزوفة حالمة، تتراقص على ألحانها رائحة التّراب، فتبدو الأرض نشوى، عبَقُها من عطر الطبيعة، حين تجود بخيْراتِها على الإنسان...
بيتُ الضيافة..
استقبالٌ فريد...حفاوة وتِرْحاب...تقديرٌ واعتزاز... سعادة تسْتعْصي على الشرْح، ضيفة هذا البيت، ضيْفة غيْر عادية... "سندس" من أصولٍ فلسطينية، حالفها الحظُّ منذ زمَنٍ لتنتقل إلى الجزائر، ضِمن بِعْثةٍ طلابية بِهَدَفِ الدّراسة، وتلك كانت بداية التّعارف بيْنَها وبيْنَ "لُجَيْن"... يتطوّرُ التّعارُف، ليُصْبِح – مع مرور الوقت - صداقة حميمية، يُضْرَبُ بها المَثَل في كلِّ مراحلِ حياتِهِما... ليستِ المرّة الأولى التي تقْدِمُ فيها "سُنْدُس" على بيت "قاسيمو" صحْبةَ "لُجَيْن"، ولكنها في كلّ مرّة، تُسْتَقْبَلُ استقبال العزيز الغالي... فزوْجة "قاسيمو" تحرص على أن تطهوَ بيدها كل الأكلات التقليدية التي تُعْرَفُ بها المنطقة، بل وأكثر من ذلك، كانت لا تُحبِّذ فكرة المأكولات العصرية، كانتْ تُجْلِسُ "سُندس" بجَانبِها وتشرح فوائد هذه الأطباق وغِناهَا بِما يحفظ الصّحّة ويُجدّدُ الطّاقة. كما لمْ يفُتْها أن تُحَضّر بعض الحلويات التراثية وتدعو جليسَتها وابنتها "لُجيْن" إلى ضرورة الإقبال على تعلُّمِ الأصناف التقليدية، بدلا من استعمال فيديوهات الحلويات الحديثة، التي تحكم عليْها أمّ "لُجَيْن" بأنها تفتقر إلى نكهة القديم الاصيل... وأنّها تُشَتِّتُ الذّهن بلا فائدة... تضحك الفتاتان وتُقبّلانِ رأسَ سيِّدة البيْت، وتتمنّيانِ لو امتلكتا صَبْر هذه المَرْأة، ووفاءَها لطبيعتِها الأولى، وإقبالَها على كلِّ ما هو خام.... بعيدا عنِ المُصنّعات والمُعَلّبات والصّلْصات ذات الألوان القانية والمذاقات الغرِيبَة ذات الطّعْمِ المجهول، وهلمّ جرّاً... غير أن أمَّ "لُجين" ورغم كل هذا الاقتناع بوِجْهَةِ نظرها تُّجاه نوعية الطّهْو، إلّا أنها – ومن باب اللباقة – تحْضُرُ احتفالية زوجها "قاسيمو" حين يدعو إخوته وزوجاتهمْ، في بعض المناسبات إلى عشاء عائلي، وعادة ما يتزامنُ ذلك مع تواجُدِ ابْنته "لُجيْن" ورَفيقتها العزيزة "سُنْدُس". قدْ تمتدُّ السَّهرة إلى ساعات متأخرة من الليل، في أجواء سعيدة، وأرْيَحية وسلام، يتخلّلها استعراض قضايا راهنة، خاصة وأنّ إخوة "قاسيمو" يُزاوِلونَ تخصّصاتٍ متنوّعة بين علم الاجتماع والفلسفة والبيئة والاقتصاد. الجميع يجد مُتْعَتَهُ في مثل هذه الجلسات والتي دوما ما يتخلّلها استرجاع العديد من الذكريات....
منَ الفواتير... ما أوْجَبَ التّذكير...
انتبهتْ "لُجيْن" إلى رفيقتِها "سُندُس" وقد غرقتْ في تأمُّلِها لإحدى اللوحات الزّيتية المُعَلّقة على الحائط المُحاذي لشاشة المطعم الكبيرة... اللوحة تعْرِضُ صورة رَجُلٍ بمَلامِحَ مهيبة وسط أكوامٍ من الرّمال، وكأنّه يُحاوِلُ إزَالتَها وقد تدرّج لون الرّمل من الأصفر إلى الأحمر القاني... على الجانب الأيمن من اللوحة، قِدْرٌ يفيضُ زيْتُه، فيَسِيحُ على الرّمْل حتى يمتدّ إلى زاوية الجانب الأيسر من اللوحة. يعلو سماء اللوحة سِرْبُ حمامٍ شديد البياض، تحمل مناقيرهُ قناديل صغيرة بثلاثة ألوان: الأبيض، الأحمر، الأخضر... في هذه اللحظة، يمرّ "قاسيمو" لتشْغيل شاشة المطعم، يلتفت إلى ابنته "لُجيْن" ويقول مبتسماً: " لا شكّ أنّ اللوحة نالت إعجاب رفيقتكِ "سُندس".... لاحظتُ أنّها تُحَدِّقُ فيها منذ حين ..." تهُزُّ "لُجَيْن" رَأسَها وتهمس في أذن والدِها: " سأحكي لرفيقتي عن البطل، موضوع اللوحة... البطل الشهيد "العربي التبسي" الذي اختطفهُ الاستعمار سنة 1957، ونكّلَ بهِ إلى درجة أن ألقاه في قدرٍ من الزيت، وإلى حدّ اليوم، لا يُعْرَفُ لهُ قبر..." يُعقِّبُ "قاسيمو" على كلام ابنته – وقدْ كستْ وَجْهَهُ مِسْحةُ حزْن عميق – " آه يا بنتي آه... كان تعذيبهم للثوار، تعْذيباً مُمَنْهَجاً.. فقد سلخوا الجلود وفقأوا العيون واقتلعوا الأظافر وبقروا البطون ومارسوا الصّعْق بالكهرباء... مئات الآلاف من أشكال التّعْذيب، تفنّنتْ فيها مراكز الاعتقال... ناهيك عن الضرب والرّكلِ واستعمال الخرسانة في أقدام المُعْتقلين ثمّ رَمْيهمْ في البَحْر.." توقّف "قاسيمو" عن الكلام مع ابنته، عندما رَنَّ هاتفه وخرج مع ثلاثة عُمّال بُغْيَةَ استلام السّلع التي يحتاجُها المطعَم.
بسبب ضجيج العُمّال وهم يُدْخِلون السّلع، استدارتْ "سُنْدُس"، فوقعت عينُها على رفيقتها "لُجيْن"... هرولتْ نحوها، جلستا حول طاولة شاي صغيرة، وبدأتْ "لُجيْن" تسرُدُ قصة بطل اللوحة، لتختم في الأخير كلامها :" لقد سدّدَ أبناء هذا الوطن، فواتير غالية، فرضها الاستعمار.... خيّروا "العربي التبسي" بين الرّضوخ لهم، وبيْن الموْت، فاخْتار الشهادة..." كانت "سُنْدس" تُنْصِتُ لرفيقتِها وشريط أهْلها في فلسطين يغزو مُخَيِّلَتَها منذُ أنْ وَعَتْ على نفسها، حتى هذه الآونة... في مقارنة سريعة، تسْتنْتِج أنّ الجلّادَ واحد، وأنّ الألمَ وَاحِد، والهمجية واحدة، الوحشية نفْسُها، الإبادة، قانونُ الاحْتلال في كلِّ زَمانٍ ومكان... بِموْت الضمير الإنساني، الفواتيرُ تتشابَهُ.... يدفعها أصحابُ الحقّ قبل أن يحصلوا على هذا الحقّ.
"زينو"... في حضرة الأرواح...
كان الجوُّ ماطِراً عندما قرّرتِ الرّفيقتان، القيام بنزهة لبعض المعالم الأثرية في المدينة، وعند الرّجوع، تمرّان بمحلات بيع الأجهزة الإلكترونية، "سُندس" تحتاج إلى حاسوبٍ جديد، أكثر حداثة.... و"لُجيْن" تودّ اقتناء بعض الأجهزة لتأخذها معها إلى مَسْكنهما في القرية، حيث تعْملان... إنّها فرْصَة لِجلْبِ آلة غسيل جديدة، بعد أن تعرّضتِ الأولى للتلف واسْتعْصى إصْلاحُها.... دخلتا المتجر الكبير، وبعد جولة داخل كل الطوابق المكتظة بالزبائن، اهتدَيَتا إلى اقتناء أجود الماركات وأضافتا مُسْتَلْزَماتٍ أخرى كانت تنْقَصُهما.... اتفقت "لُجيْن" مع صاحب المتجر على أن يبعث بالمُقْتَنَيات إلى عنوان مطعم والدها المعروف في المدينة باسم: "الأميرة". ثمّ خرجت تتأبّطُ ذراع رفيقتها على طولِ الرّصيف.... مَشيَتا مسافة مُعْتَبَرة ونشْوَةُ المَشْيِ تحْت المَطر، تُحدِّثُهُما بجمال الكون وعظمة خالقه. في غفلة الانشغال بهسيس المطر وشاعرية الأجواء، يعترض شابٌّ طريق الفتاتيْنِ، يسطو على حقيبة "سُنْدُس" الجلْدية، المُزرْكشة بالرّسومَات والمليئة بشتى الوثائق... تصرخ الفتاتان صراخا عالياً وتسْتنْجِدان بالمارّة قبل أنْ تتمكّنَ منهما الغُصّة، فتصْمُتانِ وتكْتفِيانِ بالإشارة إلى الطريق الذي سلكه اللصّ. يعلّقُ بعض المتحلّقين حول الفتاتيْن: " الله يُعوّض عليكما.... لنْ تعْثُرا على السّارِق، فهذا المكان يتفرّعُ إلى عديدِ الأزقّة، كما أنه يُطلُّ على سوق الخردوات الضّخم، ومن الصّعب التكهُّن بالوجْهَة التي سلكها اللصّ..."
عادتا إلى البيت، أخبرتا العائلة بما وقع... سارَعَتْ أمّ "لُجيْن" إلى الهاتف، وحكتْ لزوجها "قاسيمو" ما سمِعَتْهُ من الفتاتيْن. جاء الرّجُلُ على عجلة واصطحبهما إلى مركز الشرطة لتقديم الشكوى... طُلِبَ من "سندس" الدخول وحدها إلى مكتب الضابط، للإدْلاء بشكواها، بينما ظلّتْ "لُجيْن" مع والدها في الرّواق، تنتظر الإذْن لتُقدِّمَ شهادتَها... بعد وقت طويل، تمّت الإجْرَاءات، وبما أنّ هاتف "سُندس" قد سُرق مع الحقيبة، اضطرّ ضابط الأمْن إلى أخذ رقم هاتف السيد "قاسيمو" لتبليغه بالمُسْتَجَدّات، باعتبار الضحية تُقيمُ عنده في هذه الآونة. لم يكن من السّهل على "سُنْدُس" تجاوز هذه المحنة... فزَمَنُ العوْدة إلى العمل، قد اقترب.. وكل أوراقها الثبوتية ضاعت مع الحقيبة، ناهيك عن ألبوم صُوَرِ عائلتها مِنَ الجدّ إلى الأحفاد... أغلبُهُم اسْتُشهِدوا في غارة صهيونية بشِعَة، ومَنْ نجا منهم، فَقَدَ الدّار والزّاد وعاش بأطرافٍ مبتورة...
سيجارة بين أصابعه، وفنجان قهوة أمامه، "زينو" يُفْرِغُ الحقيبة فوق الطاولة، ويتفحّص الأشياء... حافظة نقود صغيرة بداخلها مبلغٍ زهيد، وُصُلات اقتناء بعض الأغراض، وثائق ثبوتية، تكشف هوية صاحبة الحقيبة... تجحظ عيناه وهو يقرأ الوثائق... يشعر بصاعقة تعتصر قلْبَه، الفتاة فلسطينية... يقرأ ويُعيدُ، علّهُ يكون ُمخطئاً.... " يا إلهي... ماذا فعلْتُ....؟" وضَع الوثائق جانباً، فتح الألبوم، وراح يتأمّلُ الوُجوه.... لِوَهْلة، شعُر بالخوف... اختلطتْ مشاعره، انتابهُ إحساس أنه أمامَ أحياء يُرْزَقون، زَادَ ارْتبَاكُهُ حين خُيِّل إليْه أنّهمْ يُعاتِبُونَه.... تحسّسَ الصُّور بأصابعه، وعاد ليسْحبَها بسُرْعة، وكأنّه تأكّدَ من رفرفة الأرْوَاح حوله... سارع إلى غلق الألبوم... وحسَمَ أمْرَه....
لصٌّ.. يصنع الاستثناء....
في حدود التاسعة صباحاً، رَنّ هاتف السيد "قاسيمو". الشرطة تسْتدْعيه ليأتي بِالضَّحِية إلى المركز. بعد لحظات من الوصول، تدخلُ "سُنْدُس" مكتب الضابط، يُرَحِّبُ بها ويدعوها إلى الجلوس... يضغط على أحد الأزرار أمامه، الحارس بِصُحْبة شخْصٍ آخرَ يَمْثُلان أمام الضابط... بإشارة من هذا الأخير، يُغادر الحارس ويتسمّرُ "زينو" في مكانه.... يقوم الضابط إلى حيث الخزانة الحديدية، يستخرج كيساً بلاستيكياً شفافاً، بداخله حقيبة نسوية، يُفرِغُ المُحْتوياتِ على الطاولة أمام "سُندُس".... تشهق الفتاة وهي تنْظر إلى أشْيائِها العائدة يطلب منها الضابط أن تنظر إلى الشخص الواقف وراءها مُطأطِئ الرّأس.. تعْلوهَا الدّهْشة... ودون وعْيٍ منها، تصرخ في وجْهِ الشابّ: " لماذا... لماذا... فعلْتَ بي هذا؟؟ لو أنك طلبْتَ مني مالاً، كنتُ ما رفضتُ لكَ طلباً، أنا تهمّني الوثائق و...." ثمّ صمتتْ وكأنّ بَرْدا شديداً تسلّل إلى مفاصلها... همَّ اللص "زينو" بالكلام، غير أنّ ضابط الأمن، أَمرَهُ بالسكوت، فسكت... ثمّ نظر إلى الضحية وصرّح بِهُدوء ممزوج بشيء من الأريحية مع ابتسامة خفيفة: " نحن لم نقبض على هذا الشاب يا آنسة "سُندس".. جاء وحده وسلّم نفسَه، أعادَ لكِ أشياءَكِ وطلب العفو... بَحَثْنا في السجلات، لمْ نجد لديْه أيَّ سوابق قضائية، رغم أنه اعترف باحتراف اللصوصية منذ زمن، انتقاماً لوالده الذي سُجِن ظُلْماً، عندما اتّهمَهُ صاحب مصنعٍ للخشب، بسرقة ما خفَّ من أدوات المصنع. لم يُفلِحْ المِسْكين في تبْرئة نفسه، وظلّ قرابة ثلاثة أسابيع في السِّجن، انتهتْ بخبَر نعْيِه، على إثرِ سَكْتة قلبية." بدأتْ "سُنْدُس" تسْتعيدُ هُدوءَها شيْئاً فشيْئاً.... وهي تُوَقّعُ مَحْضرَ اسْتلامِ الأغرَاض، رفعتْ عيْنيْها إلى حيْثُ الشابّ اللصّ "زينو" ، هزّتْ رأسها وقالتْ بعفوية بادية:" شكراً لك يا أخي..." تلعْثَم "زينو" وهو يعْتذِر.... نظرتِ الفتاةُ إلى الضابط، وكلّها أمل في أن يُفْرِجَ عنْه... سألتْ إن كان بإمكانها التنازل عن شكوى أمس، مادامت قد حصلت على الأشياء الضائعة... وَدّعَها الضابط عند باب المكتب وهو يُردّد: " كما تشائين..." ثمّ استدار حيث يقف "زينو" وقال: "سنأخذ ظروفك بعين الاعتبار، وسنأخذ تسليمَكَ نفْسَكَ وإرجاع المسروق بعين الاعتبار أيضاً، ستنتظرُ في الغرفة المُجاوِرة..." دخل الحارس المُكلّف وأخذ "زينو" إلى حيث وجب الانتظار... كان "قاسيمو" وابنته "لُجيْن" ينتظرَانِ "سُنْدُس" في الرّواق، عندما أبصرتْ "لُجين" الشاب "زينو" مع الحارس، لم تتمالكْ نفسها، صرختْ في وجهه: " هذا هو... الذي سرق حقيبة رفيقتي، هذا هو اللص..." تمعّن "قاسيمو" في وجه الشابّ وكأنّه يحفره في ذاكرته.
أثناء العشاء، حكتْ "سُنْدُس" للعائلة، قصة هذا الشاب كما سَمِعتْها منَ الضابط... اندهش "قاسيمو" وتذكّر حادثة السرقة في مصنع الخشب الوحيد في المدينة. كان صاحبُ المصنع في وقتٍ مضى، من زبائن المطعم، وقد صادف وحكى عن شخصٍ محكوم، ظهرتْ براءته بعد وفاته، حين تمّ الإمْساك بالمُذنبِ الحقيقي، الذي هو حارسٌ ليْلي للمصْنع...
ستجري عربة الزمن.... تتغيّرُ حياة الشاب "زينو".... يشتغل ليله ونهاره، من أجل الكسب الحلال... عتّال... منظّفٌ للأحياء التي يتكلّف السُّكان بتنْقيتِها وتزْيينها، فيتكرّمون عليه بما تيسّر من مالهم الخاصّ... مُساعِدُ بَنّاء.... بائعُ فواكه الموْسِم.... غاسلُ صُحون المطاعم... نادلٌ في مقهى... هذا المكان الأخير، سيَفتح أبواب عالمٍ جديد في حياته.... سيلتقي بضابط الأمن القديم... ينحني "زينو" احتراماَ للضابط الذي استمع إليْهِ يوْماً، وقدّرَ ظروفَهُ... يبتهج الضابط برؤية الشابّ، يدعوه إلى الجلوس بجانبه بعض الوقت، يتلعثم "زينو" وهو يومئ بعيْنيْهِ إلى مُديرِه.... يفهم الضابط الموْقف، ويُطَمْئنهُ: " إنّهُ قريبي... لا تخَفْ.." يتحدّثان، يسأله إن كان يرغب في العمل في ورشة نسيج، فتَحَتْ أبوابَها مؤخّراً وصاحبتُها بحاجة إلى مُضاعفة اليد العاملة. لقاءٌ عفْوي وفرْصة غيْر مُنتظرة لتحْقيق حُلْمِهِ الكبير... بعد شهور من العمل الجادّ، يقترح الشاب "زينو" على الأصيلة "حكيمة" صاحبة الورشة، فتْحَ جناح خاص بصناعة "الكوفية الفلسطينية". تُرَحّبُ بالفكرة.... تتصل بخالها الضابط "مُعاذ"، الذي توسّط لهذا العامِل لَدى الأصيلة "حكيمة" وسرد عليْها قصة ماضيهِ وعُلُوّ إنْسانيته.... تُخْبِرُ الخالَ، مُغتبطة: "إنّهُ يرُدُّ الدّيْن... ليْتها تعود... ستكونُ ضيْفتي هذهِ المرّة...".
يكبُرُ المشروع.... يتزايد الإقبال على الكوفية الفلسطينية.... يصلُ الشّحن إلى أبْعد المناطق وتُعْرَفُ ورشة الأصيلة "حكيمة" باسم "الكوفية الفلسطينية...".
مشاركة منتدى
7 أيلول (سبتمبر), 13:16, بقلم walid
الكلمات كلها طوع قلمك وإحساسك الرائع وانت تقومين بسرد أحداث هذه القصة الجميلة و التي تمنحنا إحساسًا مذهلًا، وأنت تصفي ما يدور في خلدك من كلام وأحاسيس إتجاه إخواننا في فلسطيــــن الحبيبة. دمت لنا أيتها المبدعة فخرًا للجزائر، وملاذًا للحروف الجميلة، والأحاسيس الراقية.