الأحد ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٣
بقلم سعيد أراق

أكبر خسائرنا في بلدان الغبن والخسارة

أكبر خسائر الإنسان في المجتمعات التي ترزح تحت التخلف والاستبداد هي هدر أعمار الناس، هدرها في الانتظار: الانتظار في المؤسسات الإدارية، الانتظار في عيادات الأطباء، الانتظار في المحاكم، الانتظار في الأبناك، الانتظار أمام صندوق الأداء في الأسواق الممتازة، الانتظار في المحطات الطرقية ومحطات القطار، انتظار الوظيفة التي تتأخر، انتظار الزواج الذي يتعذر، انتظار السعادة التي أضحت مستحيلة، انتظار الحياة التي تفلت منا، انتظار الموت كأننا ننتظر الفرج والخلاص... الانتظار أينما كنتَ وَحَيْثُمَا حَلَلَتَ؛ جزء كبير جدا من أعمارنا يمضي في الانتظار، والانتظار يعني إضاعة الزمن، وإضاعة الزمن تعني إهدار العمر، وإهدار العمر يعني أنك تعيش حياة مسلوبة منك ومحسوبةً ظلما عليك.

هناك فكرة ساذجة تستهلكها عقول الكثير من المثقفين أو غير المثقفين في هذا البلد وهي أن العقلانية الغربية هي عقلانية الفكر والحس الفلسفي والتنويري، لكن العقلانية الغربية عقلانية عملية وبراكسيسية متعلقة جوهريا بطريقة تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية لتحقيق أكبر قدر من الإنجاز بأقل جهد ممكن وفي أقصر وقت ممكن. ومعنى هذا أن العقلانية الغربية هي عقلانية التحكم في الزمن، هي عقلانية التدبير الحكيم لأعمار الناس ومخزونهم من الزمن الوجودي الذي بحوزتهم. في بلداننا المغبونة نعيش أعمارا قصيرة جدا حتى لو عشنا مائة سنة، لأن معظم تلك السنوات تضيع في حالات انتظار سخيف، انتظار ما يجيء وما لا يجيء، انتظار الحياة على رصيف الموت أو انتظار الموت على رصيف الحياة. لعنة الانتظار ورؤية أعمارنا وهي تتسرب منا وتنفلت من أيدينا هما أكبر خسائرنا. لا شيء يعوضك عن الزمن الذي تسرقه بلادك منك، لا شيء يعوضه حقا. كل حسائرك في الحياة دروس، أما خسارة الزمن فهي الوجه الآخر لخسارة نفسك، إنها الشكل المأساوي لشقائك الوجودي في بلد لم تختره، ورغم ذلك تحبه وأنت تعلم أنه لا يبادلك نفس الحب. العمر امتداد دلالي لفكرة الإعمار، أما في بلداننا الضنكة فالعمر قربان رخيص لما سماه أبو القاسم الشابي "الغول المقدسة التي لا ترتوي"، ويعني بها الموت، الموت بعمر منقوص مهما كانت سنوات عمرك طويلة. الشقاء الحقيقي ليس الموت، بل أن تعيش ميتا وأنت حي، أو تعيش حيا وأنت ميت. هذه حالة كل من يعيش في بلدان جمعت بين التخلف والاستبداد، بلدان الغبن والخسارة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى