الخميس ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٢٤
بقلم عبد الجبار الحمدي

أزرار ياقة قميصي...

لم أحسبني يوما بأن أكون موضع للشبهات فأنا قد جاوزت الستين عاما من العمر غير اني لا زلت احتفظ بأناقتي وهندامي، التقاعد مرض مزمن خاصة عندما يكون واقعا سمجا، المقاهي تنتعش بمن هم على شاكلتي، الاحاديث و فروسية الشباب في محاربة الطواحين، سرد حكايا مثل الف ليلة وليلة، كل يوم نحن في شأن، ما برحنا ان نكون ساسة او مجاهدين او مناضلين او حتى بائعي كلام... حديث المقاهي والشاي المرافق الدائم لزبائن مساء الخير يا وطن... في احد تلك المساءات من الليالي دعيت ومن كنا من مرتادي المقاهي المطلة على شوارع مليئة بالصخب... صخب المارة وصخب اصحاب المركبات الى جانب الدخان المتطاير الاسود من عوادمها الذي اعتدناه كدخان شيشة الاركيلة التي لا احبها، كُلٌ له مسمى، فالمقاهي وقت ضائع بين اشواط عمرية لا دقائق تحكمه ولا ثوان، مجرد عناوين اتكأت على طاولات آيلة للسقوط كل روادها ينتظرون تساقط اوراقهم الخريفية من حركة دوار الاسودان، اتحفنا احد الاصحاب من الرواد بأن يدعونا الى حفل زواج احد ابنائه وأظنه الرابع او الخامس لا ادري؟! فهو متزوج من ثلاث نساء بحكم الشرع الموسع قدره، جعلتنا دعوته تغيير مكان وزمان، أما الوجوه فأغلبنا حملناها معنا بكل اقنعتها، كان هناك من يتقدمنا الاكبر عمرا والبقية تتابع، لكني لم احبذ الافضلية في الالقاب لكنها عادات و تقاليد حتى لو كانت عمياء فعلينا ان نماشيها بالرغم من عدم صحتها، هذا ليس موضوعنا المهم دخلنا صالة الاعراس التي كان جميع من فيها شباب يتراقصون بطريقة افضل من الفتيات بهز الوسط والارداف، على موسيقى افلات اللاوعي وخروجه ماردا يداعب ما بين فخذية متحسسا تحوله الى غير بني جنسه، في الخمس دقائق الأولى كانت واجبة جلسنا نبارك للعريس وأهله واغلب معارفهم الذين نعرف، اما صاحب الدعوة فقد كان شبه سعيد فأكثر من ضربة بالرأس تُوجِع، للمصادفة كنت الى جانبه وقد رأيته يبتلع السيجارة تلو الاخرى فتحمست سائلا له: ما بك يا رجل إنها ليلة مباركة لولدك اسعد بها الله ايامكم، نظر إلي كأنه منطاد منفوخ بالهيليوم ما ان لكزته بقولى حتى انفجر صارخا... اراك ياهذا؟!! تريد ان تقول بأني مقصر ولم يكن العُرس كما كان للاول من اولادي، صحيح اني تداينت حتى اكملت المهر وقد اخذت ايضا سلفة من البنك كي اتمم هذا الزواج الذي كسر ظهري ولولا ملحة والدته ما اقدمت على زواجه لكنها اصرت وانا تابع لما تقول فهي الصغيرة ولها الطاعة و الامر، لكن يبدو انك تريد ان تبين للناس اني لا استطيع ان افي بوعدي لها ولا ازوج ابنها الذي هو ولدي البكري منها، قالو لي الجماعة في المقهى عنك بأنك لا تستريح الى مثل هكذا دعوات و تنتقد أهلها، هيا قل ما عندك يا حقير، في وقتها تغيرت ألوان وجهي وبلعت ريقي خجلا فأنا لم اقل شيئا، لكن يبدو ان ساسة المقهى اصحاب القيل والقال ومن كثرة حبهم لي ونفاقهم ضربوه إسفينا خرج عن رأسه، لا حظت انه ممتعظ بعض الشيء لكني لم اعتقد أني سبب امتعاضه، على اية حال ابتلعت خجلي وقمت مبتعدا كي اتسلل الى الخارج خلسة، غير ان هناك من زرقه بإبرة شحن كانت في لسانه فازرقت وجنتاه واحتقن ثم امسك بي يقول منذ عرفتك وانت تظن انك احسن من الجميع بهندامك وثقافتك، تحسب من حولك إمعات او عوالق، اشرت له بالتوقف معلقا يا سيدي الفاضل يبدو ان خلافك ليس معي لكنك حولته الى مزامير تريد ان تدفع بنشازها الى أذني و تحرجني، لكن صدقني وحتى اللحظة لا اعرف سبب غضبك مني، فرد منزعجا هكذا انت يا لئيم تجد منفسك متأنقا مهندما كأن طاووس تزهو بالرفاهية، فاجبته على مهلك وهل هناك عيب في ما البسه او امتلكه إنني إنسان تربيت على ان اكون ابن خير ومتواضع، فجأة ودون ان يكون هناك سبب تَجَمع من في الصالة عندما تعالت الاصوات وفي لحطة كانت الايدي تدفع بي والاخرى منها تلطمني، في تلك العاصفة الهوجاء طارت ربطة عنقي وتمزقت ياقة قميصي و تطايرت ازرارها، بالكاد تخلصت من تلك الهجمة المرتدة دون ان احظى بالاحترام لكبر سني، اما هندامي اظنني بت كالمتشرد ممزق الثياب مهلهل، خرجت هاربا لا عنا الحظ، دخلت البيت خلسة، فكانت المفاجأة حين رأتني زوجتى وام ابنائي وبناتي وهي تصرخ.. ماذا حدث لك؟؟؟ أين كنت؟؟؟؟ أكيد كنت سهران مع احداهن لقد خرجت من الوظيفة، تقاعدت حتى تقضي لياليك الحمر كما كنت في السابق قبل ان ترتبط بي، تحملتك كثيرا لكن الان لم اعد بإستطاعتي ذلك، تجمعوا ابنائي وبناتي ورأوني بذلك المنظر المحزن، تعاطفوا معي حين قصصت عليهم الحكاية لكن امهم ما ان رأت رقبتي بها لطخة من احمر شفاه لا ادري كيف وصلت لي مع اسنان تركت علامتها حتى صرخت هذا هو الدليل انك قضيت ليلة حمراء مع احد السافلات... زمجرت وصرخت ولطمت ثم طلبت الطلاق، ولأني رجل أخاف على اسرتي وبيتي وسمعتي خرجت من البيت حيث بيت اخي الذي لم يتزوج في حياته وهو سعيد جدا في فيها، لم يسألني لكني قصصت له الحكاية فنان و تعلو وجهه الابتسامة، في صباح اليوم التالي طرق باب بيت اخي وإذا بأحد ابنائي بيده يحمل حقيبة ثيابي وهو حزين يقول: ارجو ان تقدر حالة امي يا أبي فابقى مع عمي حتى تعود الامور الى مجاريها، في المساء خرجت مهندما وقد وضعت لفحة على رقبتي دون ان ارتدي ربطة عنق او أزرر ياقة قميصي لاكون حجر عثر في الحياة في مقهى التسامر الليلي يعنوان متقاعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى