وقائع رحلتنا إلى طرابلس
عندما صعدنا الطائرة في حدود الساعة الثانية عشر من صباح الثلاثاء 11 جويلية من مطار تونس قرطاج الدولي متجهين الى طرابلس ليبيا للمشاركة في ندوة القصة التي يقيمها المركز الثقافي التونسي بليبيا في نطاق الايام الثقافية التونسية الليبية كانت الرحلة تبدو عادية جدا . رايت القاصة رشيدة الشارني في قاعة الانتظار وقدكنت اعلم بمجيئها و تخلف الكاتب سمير العيادي عن الطائرة رغم انه تسلم تذكرته قبل يومين ....و اختار القاص و الروائي إبراهيم الدرغوثي طريق البرّ نظرا لقرب مدينة قفصة من طرابلس و هذا ايضا عادي جدا...
.صعدنا الطائرة ووجدت ان مكاني بجانب الشباك بالوسط ،دخلت بسلام و جلست ولم اعترض اذ كنت لا اجلس بجانب الشباك لسنوات عديدة بسبب " فوبيا المرتفعات" التي اعاني منها فانا لا استطيع ان انظر من شاهق ولا استطيع حتّى أن اقف في شرفة الطابق الرابع لاية عمارة ... جلست دون اعتراض و تجاهلت الامر كانني اريد ان اتخلص منه
لحد الآن تبدو الامور عادية جدا . في نفس الصف جلست رشيده الشارني وكان بيننا مقعد فارغ .... ابقيت على تلك المساحة التي تفصلنا اذ كانت بي رغبة كبيرة ان انفرد في هذه السفرة بذاتي و أتوحّد بها
في نقطة الوسط هذه انتصبت احدى المضيّفات عند راس صفّتنا تماما لتقوم بحركات تجسيد عملية الانقاذ في حالة الطوارئ و الشريط الصوتي يرافقها بتعليمات و جوب سحب صدرية الامان من تحت المقعد في حالة الطوارئ و لبسها وظغط صمّامات الامان ثم زر الاكسيجين ان تعذر ذلك ....
ادرت وجهي ناحية الشباك ... فانا لا احب مشاهدة هذه العملية التى اراها للمرة الالف كلما صعدت الطائرة ... و لم اقتنع مرة واحدة ان هذه الصدرية ( الهائفة ) قادرة على انقاذنا لو تلاشينا اشلاء في السماء و هل سنجد الوقت حينها و الوعي و القدرة و ايدينا و افواهنا لسحب صمامي الامان و النفخ فيهما ....زيادة على كوني اتشاءم بها و اعتبرهذا السيناريو بمثابة الطقوس الجنائزية التي تسبق الكارثة ....
رايت رشيدة الشارني تخرج مطوية صغيرة و تردد بعض الدعاء تذكرت ابني الذي قال لي منذ قليل عندما هاتفته آخر مرة قبل ان نصعد الطائرة :"ماما ماتنساش تقرأ القرآن في الطيّارة ..."
وليت وجهي شطر السماء من خلال تلك الكوة الصغيرة و قررت ان اتصالح مع هذا الفضاء الذي فارقته منذ سنوات بسبب تلك الفوبيا ، لم يظهر لي الامر خطيرا جدا كما كنت اشعر به ...
نظرت الفضاء حولي لاشئ سوى امواج السحب البيضاء الناصعة كالثلج تسبح مترنحة متكاسلة تحت شعاعاعات الشمس الساطعة تتلذذ بدفئها...و تشتبك في خيوطها ... تتمطى وتتدثر بضيائها الملتمع... تغوص بين طياتها كلما هزّت جسدها قشعريرة ....كأنها ارض ثانية لكثافتها و امتداداتها .....
و الطيّار يحاول ان يفتح لنا طريقا في السماء نعبر منه الى طرابلس .
عندما استقرت الطائرة في الفضاء قرّت نفوسنا او هكذا اعتقدنا ....
اسلمت العين لمخمل السحب الفضيّة المطرزة بخيوط الشعاعات الذهبية السابحة في بحر الشمس كأنها الجنائن المعلقة رُفعت منذ زمن بابل و نُسيت بين الارض و السماء
سبحت معها و غُصت فيها... تدغدغني شهوة الإرتماء فوق هذا السرير الوثير من القطن المنفوش الشفاف المرشوش بالضياء الفضيّ.....ترفرف روحي توّاقة الى هذه الطيّات المخملية ... أليست هي التي ستصعد يوما الى السماء منفصلة جسدي ؟ الذي "سيختار" دفء جوف الارض متوسدا التراب و الطين
كان الامر يبدو لحدّ الآن عاديا و المشهد رومنسيا جدا ....عندما جاءت اشارة الصوت من منبه الطائرة :
" سيداتي و سادتي نلفت إنتباه حضراتكم اننا لن نستطيع مواصلة الرحلة الى طرابلس و اننا سنلجأ الى هبوط اضطراري ....
كانت هذه الكلمات كافية لان تخلع قلب كل واحد منا او تخشبه لكي لا يصدق ما يسمع
أو ليتصور انه يعيش فلم رعب او يستمع الى حكاية من تلك الحكايات التي اصبحت متداولة الآن عن سقوط الطائرات او تحويلها او ارتطامها اوإحتراقها .....
سللت نفسي من فضاء السماء الوثير الذى اصبح ترفا الآن او عبثا الهانا عما ينتظرنا....
حوّلت نظري و سط الطائرة كان هناك مضيّف يروح و يجيء بين الركاب و يطمئن الجميع فهمت منه ان عطبا فنيا طرأ على الطائرة بعدما صعدنا وان اشارة حمراء ظهرت للطيّار تنبهه الى خطورة مواصلة الرحلة .....
نظرت الوجوه حولي ... لقد سحبت منها دماؤها قبل ان يرتد اليها طرفها .....كان مضخم الصوت يعيد علينا بين الحين و الحين ان الهبوط الاضطراري هو حفظ لسلامتنا .
اية سلامة في الهبوط الاضطراري ؟
كان الكلام عن سلامتنا في هذه اللحظة الشرسة يعد ضربا من ضروب الميتافيزيقا او الشعر .العطب صار و نحن في السماء ويمكن ان ننزل كما يمكن ان لا ننزل ....
ضجّت الطائرة بالدعاء و التضرّع ... و اصفرت و جوه النساء و الرجال حولي و غرقت اخرى بدموعها ... فالطيّار يحوم منذ نصف ساعة على اعلان الهبوط الاضطراري و لا يستطيع النزول ... ونحن لا نعرف اين سنهبط هل برا ام بحرا ؟ ام سنهلك جوا ؟
كنت متجمدة مثل خشبة منسية في البراري لا انا خائفة ولا انا هادئة ، لا مروّعة ولا مطمئنة ، لم اعد اشعر بشئ لقد تعطّل كل حسّ لدي .... افكر فقط في مشهد هلا كنا على ارتفاع عشرة آلاف كم ... يكاد يقتلني الندم قبل اي شئ آخر: " لماذا أقبل كل مرة ان اسافر بالطائرة و انا اعلم اهوالها و اخطارها ؟.....لماذا اتيت بنفسي الى هذا الموت الشنيع ؟ و قد كان يمكن ان اموت في فراشي وفي بيتى بين إبني و أهلي ....
ها هي تلك " الاشياء التي لا تحدث الا للآخرين تحدث لنا ..."
مرّت نصف ساعة كانها الهول كله احسسنا بعدها ان الطائرة بدات تنزل ... فخف رعبنا قليلا ....حتى حطّ بنا " الكابتن شابي " قائد الطائرة على الارض بشطارة نادرة و هنا احب ان اوجه له تحية كونه لم يغامر بنا و يواصل الرحلة اذ اشارة الخطر ظهرت له ونحن في نصف المسافة كان يمكن ان يغامر و يواصل و لكنه اختار سلامتنا فعلا ....
عاد بنا الى مطار تونس قرطاج و نحن لا نصدق اننا و صلنا احياء حمدنا الله على سلامتنا و بقينا ننتظر حتى جهزوا لنا طائرة اخرى انطلقنا على متنها عائدين الى طرابلس حوالى الساعة الرابعة ظهرا
صعدنا ثانية و استقرينا في الجوّ مرة اخرى و نحن نعتقد اننا تخلصنا من الخطر و اتكلنا على الله من جديد ولكن رحلة الرعب الى طرابلس لا تريد ان تنتهي
كانت المطبّات الهوائية و السحب الدخانية الرعدية هي التي تنتظرنا هذه المرة
يعود مضخم الصوت ليعلمنا او ليهيّئنا للدخول في مطبات جويّة.... و كأن العطب الفني الذي اصاب الطائرة الاخرى منذ قليل لم يكن كافيا لهذه الرحلة الملعونة ..
انظر حولي لابحث عن تلك الجنائن المعلقة التي كانت تخاتلني و تدغدغ شهوتي في السباحة فوقها ...... فارى كتل السحاب قد داخلها الرمادي واتخذت شكل الجبال و المرتفعات و الوهاد.... و نتقدم فيغشى السواد هذي الجبال اكثر فاكثر و يقبل علينا فيرتطم بجناح الطا ئرة الايمن... و انا اشاهد من الكوة من منتصف الطائرة هذا الجناح يهوى و يميل بنا الاف الكيلمترات ....
فتهوي معه قلوبنا .... ثم يعود و يستوي بقدرة قادر فترتد لنا انفاسنا بضع لحظات حتى تتعملق السحب و ترتفع كيد مارد من مردة الاساطير الشرقية لتصفع الطائرة امام عيني فتفقدها توازنها و تزل قدمها كقدم عملاق نزل في هوة سحيقة نظنها لن تعود بنا ابدا و لكن يد الطيّار كانت فوق يد هذا " المارد" ....لحظات نحسبها سنينا و تعود الطائرة لتوازنها فتعود لنا انفاسنا و تنقشع صفحة السحب وتتشتت لنسترد مابقي من رمقنا نهدأ قليلا و لكن لا نهنأ.... تنبسط السحب واطئة هادئة امامنا .... و فجاة تتكثف سوداء في اشكال غريبة كانها كائنات خرافية تخرج علينا من الاساطير كل دقيقة و كل ثانية بهول جديد مرعب اقوى من الاول
ترتعد فرائص الطائرة و ترتجف اجنحتها يمينا و شمالا و تهرب الدماء من و جوهنا و تهوي قلوبنا الى تلك الهوة السحيقة العميقة في قاع المجهول ...
ألتفت الى وجوه الركاب حولي و قد اخذتهم الصاعقة ....
بضع دقائق و تعيدها يد الطيار الحنون الى توازنها كيد اله السلام فتعود لنا انفاسنا و نحمد الله
ظلينا على هذه الهزات لا نكاد نخرج من مطبّة حتى ندخل في اخرى حوالي الساعة هي المسافة الفاصلة بين تونس و طرابلس
ليست هذه المرة الاولى التي اعيش فيها هذه الارتجاجات الجوية في الطائرة و لكن اغلبها كان في الليل لا اراها ، اشعر بها فقط اما الآن فقد شاهدتها بام عيني اذ كنت اجلس جنب الشباك مقابل الجناح الايمن و كنت مصرّة ان اشاهدها بكل حواسي لاكتبها
و لأتخلص من تلك الفوبيا بصفة نهائية
عندما نزلنا مطار طرابلس الدولى في حدود الساعة الخامسة مساء و نحن لا نصدق اننا وصلنا احياء و جدنا احمد السالمي مدير المركز الثقافي التونسي بليبيا ينتظرنا بالمطار مرعوبا كالام التي تنتظر اولادها و هي تعلم انهم في خطر و كان قد علم بامر التاخير و الرجوع الاضطراري الى آخر القصة ...
لم تكن هناك قصة تداولناها طوال هذه "الندوة القصصية " التي اتينا من اجلها اقوى من هذه القصة ...
هل كان صدفة اني قرات قصة "عزرائيل و الكاتب " في الندوة ؟
لم انتبه لذلك الا الآن.... و قرات رشيدة الشارني شهادة عن طفولتها في "مقبرة"....
اما ابراهيم الدرغوثي فقد قرا شهادة مختلفة فقد كانت رحلته مختلفة طبعا
بالنسبة لسمير العيّادي فقد ارتاح من هذا الهول كله (لم يأت) و لكن حضر الناقد محمد سليمان الزيات و قدم مداخلة عنه كما حضرت الناقدة الفلسطينية صبحية عودة و قدمت ورقة حول قصص رشيدة الشارني ....
لم يبدد رعبنا و يهدأ روعنا غير التفاف الاصدقاء حولنا و احتضانهم لنا .
في الليلة الاولى لم انم بالفندق فقد اخذتني صديقتي الكاتبه رزان المغربي الى بيتها
بتنا نثرثر حتى الفجر في الصباح صحونا على صوت بروق و امطار فتحنا النافذة
فوجدنا سطوح بيوت طرابلس كلها تغتسل بمياه الامطار
بقينا نتفرج عليها و الشمس خافتة قليلا ... كان صباحا نديا رطبا و مخمليا و المياه منهمرة من عيون السماء و انا بالشرفة اتلذذ المشهد و اطيل الوقوف ....
انتبهت الى انني كنت بالدور الرابع .... و لا أثر للفوبيا معي.
امّا المطر فلم يكف عن النزول كانت سحب البارحة .... و كانت تغسلنا من رعبنا ....