الاثنين ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم إبراهيم مشارة

صالونات الأدب بالأمس: رفاه الأدب وأنس الاجتماع

الصالونات الأدبية ظاهرة ثقافية تلبّس بها محيطنا الثقافي العربي في القرن العشرين أسوة بما عرفته أوروبا في نهضتها الأدبية والعلمية أثناء انتشار فلسفة الأنوار وظهور الثورة الصناعية ،ولعل أشهر صالون أدبي فرنسي هو صالون مدام دي بومبادور(1721/1764) الذي ضم نخبة الفاعلين الثقافيين في فرنسا في القرن الثامن عشر ناهيك عن أن تلك الصالونات شهدت دخول المرأة عالم الإبداع والفكر والفنون بعد أن ظلت أحقابا طويلة في طي النسيان وعرضة للإهمال والزارية بمرسوم بابوي كهنوتي.

في ثقافتنا العربية عرف العرب قديما ما يشبه هذه الصالونات، وإن لم يكن لتلك التجمعات الثقافية اسم الصالون الأدبي أو الثقافي ،ولكنها قريبة جدا من معناه، وكانت تجترح فيها مواضيع أدبية أو فلسفية أو فكرية ، فمما روته كتب الأدب والتاريخ أن السيدة سكينة بنت الحسين بن علي - رضي الله عنهما - كان لها صالون أدبي يجتمع في دارها رواة الشعر فتستمع إلى تلك القصائد وتبدي رأيها فيها وفي أصحاب تلك القصائد من فحول شعراء العصر الأموي ، وما يروى أن السيدة سكينة - رضي الله عنها - استمعت إلى راوية جرير وهو ينشدها قصيدته:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
حين الزيارة فارجعي بســـــلام

فما كان منها إلا أن قالت للراوية: قبح الله صاحبك وقبح شعره أما كان أحلى لو قال:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
حين الزيارة فادخلي بســــــــلام

كل ذلك والسيدة سكينة المتذوقة والأديبة تستمع إلى القصائد وتكلم الرواة من وراء حجاب.

في نهضتنا الأدبية الحديثة في القرن العشرين اشتهر صالون الأديبة ماري إلياس زيادة، مي زيادة (1886/1941) الفلسطينية الأصل، اللبنانية الجنسية، المصرية الموطن، الذي كان ينعقد يوم الثلاثاء، يلتقي فيه نجوم الشعر والفن والفكر والدين يتبادلون الأراء ويناقشون مختلف القضايا السياسية والفكرية والأدبية في حضور الآنسة مي، وكانت هي قطب الرحى تضفي على المجلس لمسة فنية وجمالية بمسحة أنثوية فعهد الرجال بالمرأة في ذلك الوقت أنها محجوبة تنذر لزواج مبكر ليس من شأنها امتشاق القلم ولا البوح الشعري ولا الاعتداد بالموقف الفكري والرأي الشخصي.

تقاطر الأدباء والشعراء والعلماء ورجال الدين على مجلس الآنسة مي وأشهر من كان يتردد عليه مصطفى صادق الرافعي وطه حسين وعباس العقاد وقاسم أمين وأنطون الجميل وشبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف ولطفي السيد والشيخ مصطفى عبدالرازق وجرجي زيدان والشاعر إسماعيل صبري الذي قال في صالون مي:

روحي على دور بعض الحي حائمة
كظامئ الطير تواقا إلى المــــــــــاء
إن لم أمتع بمي ناظري غـــــــــــــدا
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثــــــــــاء!

وقال في ذلك الصالون وفي صاحبته الشاعر شفيق المعلوف:

بنت الجبــال ربيبة الهرم
هيهات يجهل اسمها حي
لم نلق سحرا سال من قلم
إلا هتفنـــــــــــــا هذه مي

غير أن القدر لبس لمي جلد النمر وطوحت بها المحن بعد وفاة والديها وتكالب عليها الأقربون طمعا في الميراث وأودعت مستشفى المجاذيب ثم خرجت منه لتعيش في عزلة ووحدة أسلمتها إلى موت في فتوة العمر ولدانة العود، فانفض السمار وتفرق الزوار وانتهى ذلك الصالون الشهير أثرا بعد عين وذكرى بعد معاينة ،اقتحمت به امرأة عالم الرجال ومزقت السدف حول عالم الحريم لتغدو المرأة إنسانا يفكر ويشعر ويكتب ويتذوق ويعتد بمواقفه وأرائه الشخصية اسوة بعالم الرجال بعبقرية وأصالة معا.

وكان صالون العقاد(1889/1964) أحد أشهر الصالونات الأدبية في القرن العشرين، فقد كان ينعقد يوم الجمعة من التاسعة صباحا إلى وقت صلاة الجمعة بمسكنه في شارع محمد شفيق غربال (السلطان سليم سابقا) بمصر الجديدة، وما يميز هذا الصالون أن العقاد كان وحده المتكلم وغيره المستمع، يتلقى أسئلة الزوار وهو يجيب بكل تدفق وانسيابية، فالعقاد يعرف بأصالته وموسوعيته معا، كما يبدي أراءه في زملائه الكتاب والشعراء ومفكري وأدباء العالم ومختلف المذاهب الفكرية والفلسفية والدينية، ولا يخلو المجلس من طرائف ونكات تضفي على المجلس حيوية وخفة معا، ومن ذلك الصالون تخرج جيل من الأدباء والشعراء والمفكرين من الجيل التالي لجيل العقاد الذين انضووا تحت لواء أستاذهم فهداهم في دروب الإبداع ومسالك الفكر الوعرة، ومن أشهرهم أنيس منصور وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن صدقي ومحمد خليفة التونسي وصلاح طاهر ونعمات أحمد فؤاد وطاهر الطناحي، عثمان أمين وغيرهم، وقد خلد مآثر ووقائع وذكريات هذا الصالون الأدبي أنيس منصور في كتاب ضخم بعنوان "في صالون العقاد كانت لنا أيام".

وفي ناحية أخرى من القاهرة وتحديدا في الجيزة قريبا من شارع الهرم وفي شارع متفرع عنه يحمل اسم طه حسين يقع بيت الدكتور طه حسين ،عميد الأدب العربي - فيلا رامتان - وصالونه الشهير

كذلك، وقد كان يؤمه نخبة من مفكري وروائي مصر وشعرائها في ذلك الوقت خاصة من الشباب ممن تستهويهم المدرسة اللاتينية، على عكس مدرسة العقاد السكسونية، ومن التلاميذ المترددين على الصالون محمود أمين العالم، نجيب محفوظ، عبد الرحمن بدوي شوقي ضيف، سهير القلماوي وغيرهم.

شكلت الصالونات الأدبية ظاهرة ثقافية صحية في مصر، ولا ريب أن في غير مصر وجدت كثير من أمثال هذه الصالونات خاصة في الخليج حيث اشتهر صالون حمد الجاسر وفي العراق والشام كذلك تنعقد هذه الصالونات في يوم من الأيام وتكون دورية، ولربما حملت اسم اليوم الذي تعقد فيه: إثنينية، خميسية، وتسمى كذلك بديوانية الشاعر فلان أو المفكر أو رجل الدين فلان، وهكذا..

وكثير من المؤلفات والأطاريح الجامعية تناولت هذه الصالونات وأفضالها على الثقافة والفكر وإشعاعها ودورها في تجديد الفكر والأدب ،ورفع مستوى النقاش والسجال إلى الحد الأعلى، خاصة صالون مي زيادة وصالون العقاد وصالون طه حسين، وقد كان كل واحد من هؤلاء الثلاثة بمثابة هرم أشع فكرا وفنا وثقافة أفاد من ذلك العالم العربي من مشرقه إلى مغربه.

اختفت اليوم هذه الصالونات الأدبية ولا نكاد نجد اليوم في حياتنا الثقافية الراهنة أعلاما يضاهون أولئك الرواد،فكأن العصر احتبل بهم مرة في مطلع القرن ثم ألقى بهم في دنيا الفكر والإبداع والثقافة فشكلوا بمساجلاتهم ومعاركهم ومؤلفاتهم وصالوناتهم ظاهرة أدبية وسمت القرن بميسم التجديد والإبداع والأصالة معا.

وما يقال عن الصالونات الأدبية يقال كذلك عن المقاهي الأدبية التي كان يؤوي إليها خيرة الأدباء والشعراء تماما مثلما اشتهرت بعض المقاهي في الغرب التي كان يتردد عليها الأدباء والمفكرون والفلاسفة مثل مقهى فلور في شارع سان ميشيل وليب ولي دوماجو ومقهى البروكوب في الدائرة السادسة وكلها مقاهي باريسية، وكثير من مقاهي مصر شهدت التقاء الأدباء والشعراء والمفكرين والساسة والخطباء تليت فيها القصائد وأبديت الأراء فيها، وانطلقت منها المظاهرات ضد الاستعمار أو الاستبداد، تلك المقاهي التي شهدت أمجاد البارودي وإسماعيل صبري وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وعبد الحميد الديب وغيرهم، ولعل أشهر تلك المقاهي مقهى عرابي ومقهى الفيشاي في خان الخليلي وغيرهما.

للأمانة مازال بيت العقاد في مصر الجديدة بشارع محمد شفيق غربال قائما، وإن كان في وضع صعب، فالبناية آيلة إلى السقوط ،ومازال الصالون مغلقا، ذلك الصالون الذي تخرج منه عشرات الكتاب والشعراء والمفكرين والنقاد وكان مطمح كل زائر حين يزور القاهرة التردد على صالون العقاد لتسجيل الحضور، وقد حاولت عائلته بعثه من جديد لكن بدون جدوى.

ومازال بيت طه حسين في الجيزة في شارع يحمل اسمه متفرع عن شارع الهرم قائما كذلك، وهو اليوم متحف طه حسين لكن الصالون انفرط عقده برحيل صاحبه، وإن كان يعرف بعض النشاطات الفكرية والثقافة من حين لآخر،في حين لا يعرف أي شيء عن بيت وصالون الآنسة مي زيادة التي رحلت باكرا عام 1941 وخلد ذلك الصالون في شعر كثير من أعلام الشعر العربي - زواره - في القرن العشرين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى