والماء حين يغضب....
في صوتها صمت يئنّ كأنه خرير مياه يضج غضباً من طفل شرّدته يد الأعداء. ضمّته الى صدرها خوفاً من احتضار قلب متعب، من جريان في جسد أرض مهتزة بماء وعلى الجبال يسيل دمع سماء تنحني له ريح تتلاشى رويداً وهو ممسك بعلم بلاد مزّقته يد الأشرار...
نظر في ذهول اليها.. كأن الروح فارقت الجسد، وقد أصابها سيل عابر من وحول تراكمت حولها، وهي الماء الصافية المليئة بالحياة، وفي احتقان صوتها تغريد بلّل سمعه حتى اخترق فؤاده، وكلّ قطرة ماء اختنقت حزناً وارتجفت في كمَدٍ على تربة دنّستها خُطى جنود كالجراد..
ربّاه هل للماء ريش يساعدها على الطيران؟.. ام أنني أحتضر في حضرة الضوء؟.. ما أجملها!.. هي كالطيور التي تئنّ، فتغرّد حين تتألم.. والتي تضرب خدود الماء حتى التوحّد..
أين المنابع الطاهرة في عيون قُدس حائرة حزينة؟ ام في حائط مبكى!.. بكى البُراق عنده على بحيرة أسيرة مشى عليها المسيح؟ ام في مسجد يفيض تلاوة حيناً وحيناً دم منه يسيل؟! ام في هيكل حالم في المدى تاركاً هبوب الريح تُعلن عن وجوده، يعانق الماء!.. يختفي حاملاً أثقالاً وحروبنا بغير بُكاء..
تساءل!.. لماذا تُراق الدماء كالماء؟!.. لماذا الوضوء بات بعد كل صلاة!؟.. لماذا العدو بات صديقاً، والصديق عدواً؟ لماذا صحراؤنا امتلأت نفطاً؟ ولماذا جناتهم أصبحت أعشاشاً للنسور؟..
لماذا مساجدنا أصبحت خاوية من الإيمان؟! والكنائس مراحاً لورود دون عطر؟ لماذا أحبار اليهود وعّاظ قلوب ميتة؟ هل جاء زمن يأجوج ومأجوج؟ هل الثورة بدأت في نفس أنثى واخترقت صدور العجائز، فحملتها صفحات الماء أشعاراً؟!..
مسحت بأصابعها السحرية، الطرية جبهته الملتهبة والماء على امتداد كفّيها تعتصر منديلاً تضعه على جبينه كلما جفّ نثرت عليه الماء، وعلى زجاج النافذة رذاذ المطر ينفض عنها كوابيس خوفها من جنود الأعداء، لتعمّده بالماء كلما شعرت برعشات الحمى التي تجعله ينتفض كأنه يستقبل الموت بعد عناء وفي صراخ أحلامه.. أهازيج نصر وتراتيل حروف تودع الكلمات وثورة الحمى تغلي في عروقه كأنها شموع المصلّين..
أمسك غصن زيتون ولامَس ورقة التين، قرأ: «والتين والزيتون وطور سينين. وهذا البلد الأمين». طارت حمامةيالسلام!.. فتح عينيه وهو ممسك بيد أمه ودموعها على خديها كبحيرة طبريا التي يراها كلما أغمض جفنيه، وكلما رأى قطرة ماء حبيسة في كوب ين زجاج.. مسح دموعها!.. ضمّها.. شمّ عطرها بقوة.. أمسك شعرها.. تحسّس خدودها، كأنه افتقد أرضاً تاهت، وأختاً ماتت، وشجرة ليمون تركيا في حصار، وشجرة خرنوب لحبيبة لم يُمسك خدّيها ولم يستطع رؤياها، وأرضاً بنى عليها مسكناً تركها مقيّدة ليفتديها بقلم يكتب وطنا، وروحاً تركض في جسد محاصر في كهف يتقلّب فيه ذات اليمين وذات الشمال.. فهل تتخلّى الطيور عن أوطانها؟.. وهل يغضب الماء فيثور حاملاً كل شيء يراه؟.. ليرفعه الى جبال شمّاء تخرّ وتتشقق خشية.. والرمل يرتشف كل يوم دم الشهداء!..
تقلَّب والقلب يحمل الحبّ كماء لا ينضب، ليلغي كوابيس الحمى التي أعلنت ثورتها على جسده الضعيف، وينطلق مع صهيل الحروف، ليُغني أمجاد وطن تركه محاصراً في كأس ومحرراً كالماء حين يغضب..
قالت له: «كنتَ تهذي بنيّ في غيبوبتك»...
أماه.. غيبوبتي!.. سلبتني صحوة العيش، تركتني في غزة الأم في حضن القدس حبيبتي.. في بحيرة اغتسلتُ فيها، وعمّدتني بمائها الحرّ الحزين، في يد عدو خنقني على مرّ السنين، في مصر التي تشدو على صدر كل فرعون كفار أثيم.. في شام أبيّة تنتظر منارتها لمسة عيسى.. في بابل!.. في بغداد!.. في ثورة زهور الياسمين!.. في جبال الأردن الشامخة، في نبوءة أنا مؤمن بها، تمدني قوة أن خلفي امرأة جعلتني رجلاً أحبّ فيها فلسطين...