هل أنَا أنَا؟
(إلى جِنان)
في فضاءٍ سدَاه السَّوَادُ، تتناثر في أرجائه غيومٌ لوْنُها مزيج من الأخضر والأزرق القاتمين، بعينيَّ الداخليتين أراني أُحلِّق، أسّاقَط، أدور كما تشتهي الدوامة التي تتملكني. أتهاوى بلا هوادة داخل هذا الفراغ السحيق، أتأرجح في هذا الفضاء الذي لا قعر له، لا أبعاد له... لا...
أنا الآن فريسةٌ لرعب قاتل.
قلبي داخل قفصي الصدري يرتعش، يرتج مُحْدثاً زلزالا يسحق دواخلي. قاب قوسين أو أدنى من الاختناق أنفاسي. أُصارع، أُعارِك، أَتصَارع، أحاول أن أنهض لكي أكبُر أكثر، لكي أكبر من جديد، لكي أرتفع عالياً عالياً فوق كل ما يعتريني، فوق ما أنا هو الآن. أحاول أن أتحوَّل إلى آخَرَ غير الذي أنا، آخَر أشدّ قوة من الذي أنا هو الآن. تمتد دراعاي كما لو لِطَلب النجدة، بحثاً عن ثغرة أو مَنفذ لملاقاة الحياة، الحياة كما هي، الحياة العادية، الحياة كما أعرفها منذ الأبد.
أراني أصرخ، أصيح بلا صوت. لا أحد يسمعني. لا أرى كائنا يمد لي يدا لكي يعتقني. أراني في وضعيتي الجنينية أُنضْنِض، أتحرك، أنتفض كأنْ لأُرعِب الكائنات اللامرئية التي تؤذيني بسادية غريبة وهي تملأ هذا الفراغ، هذا الفراغ الذي يبتلعني ويمتد في التوسع مزيداً مزيداً ويكبُر خارج الحدود.
بعينيَّ الداخليتين أراني، أُحسُّني وحيداً في مواجهة هذا الاختناق الذي يداهم أنفاسي.
ممدَّدا على الظهر أراني، أُحسُّني ميّاداً، متأرجحاً، مُحَلقاً ببطء في اللامكان حيث قوة غريبة تسحبني نحو الأسفل، نحو القاع العميق. أراني أتهاوى كما في عرضٍ بالتصوير البطيء. ألامس القعر ببطء شديد. أحُط بهدوء فوق ورقة شجرةٍ لم يكن لها وجود من قبل في هذه الأمكنة. هي شجرة تينٍ كثيفة الفروع والأوراق، حنونة، وديعة ومضيافة. لها جِذعُ وقوامُ شجرةِ أوكاليبتوس عرفتُها ذات يوم من أيام طفولتي الغابرة التي كفَّت عن أن تكون. أوراقها وارفة وافرة واسعة الأرجاء، ممتدة بسخاء أكثر من حاتمي، تنضح برقةِ وحنُوِّ فردوسيين. ثمارها لها حجمٌ أكبر مما هي عليه عادة، ثمار تينٍ لكنْ من لحم آدمي، تسحّ بسائل ناصع البياض كحليب الأمومة. تتخذ الورقة التي تأويني أبعادا لا حدود لها، تلفُّني، تحتضنني، تدسني في صدرها كما يفعل الغنقر، تدثرني بحنان ناذر. أحس بدفءٍ يبعث الطمأنينة والأمان في نفسي. هل أنا أحيا من جديد أو أولَد للمرة الأولى؟ يجوز. لا يجوز. هل كل شيء جائز؟
أتلذذ بطعم طمأنينة طالما افتقدتها، لكنها مع ذلك ممزوجة بالريبة والشكوك. هل تَمّ أخيراً إنقاذي؟ هل سألاقي الحياة؟ هل...؟
دون أن أفتح عينيّ أراني أَكبُر رويداً رويداً. لم أَعُد ذلك الشيء الصغير التافه الشِّبْه ميكروسكوبي الذي كان يسّاقط في الهاوية المعتمة التي لا قعر لها. أبتعدُ عنِّي لكي أتبيَّنني وأراني بشكل جيد، لكي أرى ملياً ما حَلّ بي.
أراني: أنا كائن بشريّ ـ هذا أكيد ـ، كائن صغير جدّاً، جدّ صغير. كيف حصل وأن أصبح لي جسدُ رضيعٍ حديث العهد بالولادة؟
الرضيع الذي أنا هو نبتت له لحية كثة، لحية طويلة وخَطَها الشيب عن آخرها، لحية بَطْريق مُسِنّ تمتد حتى تلامس صدري... رضيع بلحية شيخ وقور! ذاك أنا في هذه اللحظة. شعر رأسي أبيض وكثيف يتدلّى على كتفيَّ...
وأنا مُرتَدٍ حلة آدم أراني ممدا في حِجْر شجرة خِلاسية تنضح بمزيج من عَبق الحناء والقرنفل. أوراقها تداعبني وتهدهدني كما تشتهي ريح خريفية تهب برقة. أتبيَّن أنَّ غصنين كثيفي الأوراق ليسا في الحقيقة غير ذراعين آدميين يحملانني ويضمانني. لا يلبث أحدهما أن يلقفني ثدياً وديعا لأرضع محتواه الدافئ. يداي الصغيرتان المرتعشتان تمسكانه بحرص شديد. أشرب رحيق الحياة العذب، أحس بها تسري في جسدي. أرفع عيني صوب الشجرة التي تغذيني وتطعمني حليبها فأتبين أن لها وجها. هو وجه أليف لديّ. تبتسم لي الشجرة وتستقبلني تقاسيم وجهها بحبور كما لو كنتُ خارجاً للتوّ من سبات طال أمده أو من غيبوبة عميقة، كما لو أنني وُلدتُ اللحظةَ وغادرتُ الرحمَ المظلم. أحس بأنفاسها تلفح وجه الرضيع الشيخ الذي أنا هو وتبعث فيَّ الدفء والانتعاش. أيْ نَعم، إنها هيّ! أمِّي! أستنشق رائحتها الطبيعية الممزوجة بعبق الحناء والقرنفل... أنتفض، أستيقظ أكثر لكي أعانقها كما يجب، كما أشتهي.
أستيقظ أنا.
تختفي هيّ.
يغشاني الظلام من جديد. أتمدد على ظهري. تكتسحني وحدة أليمة، وحدة أشد قساوة من وحدة اليتيم. تسري فيّ برودة تُجمِّد كل جسدي الجاثم في اللامكان. كل شيء من حولي في حركة إلا أنا. الحياة من حولي تدب في كل شيء إلا فيَّ أنا. هل غادرتني أم أنا الذي غادرها؟ هل نبذتني على أقصى هامش من هوامشها ومضتْ بلا بي؟... Va savoir !. أحاول أن أنهض. لا فائدة. كل أطرافي جامدة كالجليد. جسدي لم يعد لي. هل هو الآن جسد أم جثمان؟ أم كلاهما معا؟ هل... ها الليل يمر ببطء شديد ومعه أشباحه السوداء. يبدأ نور الفجر في التسلل شيئاً فشيئاً عبر زجاج النافذة. أكيد أن خيوط شمس الصباح ستبعث فيّ دفئاً جديدا وحياة أخرى. أنتظر. لا أملك إلا الانتظار. لننتظر وسوف نرى... سأرى... سأ...
أراني أسمع صخب العالم الخارجي الذي بدأ يعلن عن نفسه رويداً رويداً بعد اندحار الليل. هل اندحر الليل أم المندحر أنا؟...
صخَبُ الأيام العادية بدأ يطفو بالتدريج. أسمع صوت محرك الحافلة رقم 69 في رحلتها الصباحية الأولى نحو جامعة "ليون 3". سيارات بعض سكان الحيّ تستيقظ محركاتُها بعد استراحة ليلية. المصعد الكهربائي كعادته يطلق أزيزا وصريرا مستفزان كلما مر ـ صعوداً أو نزولاً ـ بالطابق الذي أسكنه. "ديك"، كلب "إيميلي" جارتي العجوز، ينبح طلبا للخروج في نزهته اليومية كل صباح... هدير القطار شديد السرعة يترامى حتى إلى داخل الغرفة مما يدل على أن نافذتها غير مغلفة بالكامل...
بعد قليل قد تدق "إيميلي" جرس بيتي حاملة حلوى للصغار كما تفعل عادة وتشاطرني قهوة الصباح دون أن تكف عن الثرثرة. وكفاصل بين موضوع وآخر لا تفتأ أن تستحضر المرحوم زوجها لتنشد بصوت ممزوج بالحزن والحنين مقطعها المعهود من أغنية جاك بريل "وداعاً إيميل... كنتُ أحبك كثيراً... وداعاً إيميل... سأموت... قاسٍ هو الموت في فصل الربيع...؟". بعد قليل أشياء كثيرة يمكن أن تحدث. بعد قليل سأسمع صوت ولدي سامي الذي سيستيقظ من نومه في الغرفة المجاورة. لحظات بعد ذلك ستليه سامية ابنتي المشاغبة، وسيبدآن نزقهما اليومي في حضرة بابا المسالم دوما. لكنني لن أسمع صوت أميرة ـ الغائبة الكبرى ـ ولن أتذوق طعم قبلتها الصباحية التي لها نكهة ومفعول الترياق.
هل سيمر كل شيء كما في السابق؟ كم أريد أن أعرف وأدريَ وأنْ و...!
ممدَّداً أرى بعيني الداخليتين سَامي يحبو، يقف، يسير بضع خطوات ثم يسقط أرضاً. يتحدى، يعاند ويعاود الوقوف من جديد حتى يصل إلى جانب السرير الذي أجثم فيه. بعد جهد ومكابرة يصعد بقربي وكله نشوة وفرح لاحدود لهما. يستوي على بطني كما حدث أن فعلنا مرارا في لحظات اللهو والمرح. يتخذ وضع من يمتطي صهوة جواده المفضل. يأخذ في ممارسة شغبه كالعادة في مثل هذه الحالات مردداً: "پَّاه پَّاه... ضاگن ضاگن... پَّاه پَّاه... ضاگن ضاگن ". تمتد يداه لتداعبا وجهي، يُدخل أصبعه في أنفي ويقهقه، يحاول أن ينتزع إحدى عينيّ من محجرها. يضحك بحبور ثم ينظر إلى تقاسيم وجهي باستغراب كمن يكتشف أشياء يصادفها للمرة الأولى. يجهد نفسه في فتح فمي لكي أعض على أصبعه بلطف كما فعلنا مرارا. فمي مغلق بإحكام وأنا نفسي لا أستطيع فتحَه. يَعدل عن الفكرة ويأخذ في النظر إليَّ باستغراب وتساؤل. صمتي وسكوني يثيران خيبته ثم غضبه. يغادر السرير، يحبو مسافة خطوات ثم يجلس ملتفتا نحوي. ينظر إليَّ من جديد معاتبا قبل أن يأخذ في البكاء والصراخ. يقاطعه رنين هاتفي المحمول فوق طاولة السرير على مقربة مني. يحاول أن يصل إليه والفضول يغمره. سامية التي استيقظت تغادر غرفتها وتهرول نحوي: "بابا... تيليفونك! بابا... بابا... استيقظ". تطبع على شفتيّ قبلة الصباح الطقوسية. تتقزز بسبب البرودة التي تنبعث من جسدي. تتناول الهاتف وتضغط على الأزرار. تخبطه في النهاية على الأرض فتتوزع أوصاله هنا وهناك ويكف عن الرنين.
"ديك"، كلب جارتي، ينبح بشكل غريب، نباحه متقطع وحزين، يشبه العواء، أسمعه على مقربة من الباب. أسمع جارتي تسائله عما حصل له مستغربة سلوكه. تدق جرس البيت، تنقر على الباب، تناديني باسمي... صوت سامية وسامي يعلوان بالصراخ. كلاهما يريد تناول فطوره... هي: "بابا... je veux du jus "... هو: "مَمَّهْ... مَمّه... ممَّه...". أنا لا أستطيع حراكا. صراخهما يزداد حدة عندما يأخذ "ديك" في خبط باب الشقة برأسه بشكل هستيري... بعد برهة أسمع أصواتا أخرى تنضاف إلى نباح/عواء هذا الحيوان وصوت "إيميلي". مزيج من الأصوات. أسمع الباب وهو يكسر. الأصوات تصبح أكثر قربا مني... خليط من رجال الإنقاذ ورجال الشرطة... يجس أحدهم نبضي، تمتد يده نحو دراعي اليمنى، ترفعها قليلا فتتساقط كورقة في مهب الريح. تمتد يدٌ أخرى لتغمض عينيَّ فينسدل عليهما ستار قاتم... "متى أسْلَم النفس؟"... "وحده الطبيب الشرعي يمكنه الجزم بذلك"... "يجب نقله إلى مركز التشريح الشرعي..."...
يتوجهون لجارتي بالأسئلة وهي تحمل طفليَّ بين دراعيها وتبكي... "كان مصطفى رائعا... (تجهش)... مسكين! لم يتحمل مرض ابنته الكبرى ذات السبع سنوات ونصف... هي الآن تعالَج في المستشفى وأمُّها بجوارها... إنها فخرُه وكل شيء في حياته ... هو أنجبها وهي أعطته الحياة، هكذا كان يقول لي دائما! ... كنت أحس بأنه لن يتحمل الأمر رغم العقاقير... كانت الصدمة قاسية على قلبه الهش... مسكين... مسكين... فعلتُ حسنا أن اتصلت بكم... ولكن بعد فوات الأوان... كم كان لطيفاً مصطفى!".
أراني "أغادر" البيت رغما عني. لم يسألوني عن رأيي في ذلك. قرروا بأنني جثمان ولست جسدا.
أَصرُخ: "لا. أنا أريد أن أبقى هنا في بيتي. أنا حيُّ أرزق. اسألوا سامي، اسألوا سامية... اخرجوا من هنا... دعوني!".
لا صوت لي يُسمَع. لا صوت لي البتة.
أَخرُج محمولاً من هنا.
أَخرُج إلى الأبد رغم أنني لم أمُت بعد.
هل أنا أنا أم أنا آخَر؟