

نصف كيلو من التبغ
لم يكن المحل مبتكراً بالكامل، فقد اكتشف الطامعون بالربح أن بيع منتجات التدخين ومستلزماته يمكنه أن يكون تخصصاً بذاته، فانتشرت المحلات التي تهتم لهذه السلعة.. مختلف أنواع السجائر المحلية والأجنبية، العادية والالكترونية، الغلايين والأراجيل وبدائل التدخين وصولا للصقات والعلكة والأشربة، الفحم والتبغ المستورد والمعسلات والتنباك، الآلات الالكترونية واليدوية وأوراق اللف، ولاعات، سلع لا يمكنني حصر تفاصيلها في زمن النقل السهل والمنافسة المريعة والاقتصاد الحرّ. أنا نفسي عندما يكون مالي قليلاً وتبغي قليل الكمية في الليل، اخلط التبغ بزهور الياسمين المجففة المفروكة أو أبشر عليه القرفة. سوق لاحتياج النيكوتين كما أسواق الاحتياجات الأخرى، الطبيعية والمصطنعة والمستدخلة، الصحية والممرِضة.
لكن الجديد في المحل القائم على ناصية الحيّ هو صاحبته دلال، الثلاثينية المطلّقة من دون أولاد، التي لها مشاريع تجارية صغيرة أخرى متناثرة في أحياء المدينة هنا وهناك. كامرأة، باستثناء حنكتها ومجاملاتها وحسن معاملتها للزبائن، فليس لديها صفات تلفت النظر.. نظري أنا.
كانت شقراء جميلة، بملابس تتابع الموضات الرائجة، وشهادة جامعية ثانية؛ لكننا في الزمن الوظيفي وليس الحقيقي. كل شيء من أجل تحقيق الربح ضمن الحياة النارية المجنونة، بتقنياتها الحديثة.
لم أكن أعرف مَن هي إلى أن التقيت بها على الفيسبوك في إعلان عن التبغ من الإعلانات الممولة الرخيصة، التي تدعو للتخلّص من التدخين بمستحضر ما أصله عشبة. علّقت على المنشور ثم راسلت الصفحة مستفسراً، فحرِصت على تعريفي بنفسها.
أكبرها بعشر سنوات، مطلّق أنا الآخر. وبينما كانت تكابد الدنيا بمشاريعها المشغِلة، كنت منكفئاً موقناً أن حال الزواج عندي أشبه بحالي مع التدخين. لا أصلح له، والإمكانات المالية التي لديّ، رصيد متواضع مقارنة مع أرصدة الآخرين، سأتركه لأولادي. ليس لدي وظيفة ثابتة واعمل عن بعد على الحاسوب من البيت أتدبّر نفسي. كل شيء يدفع للتبتّل بينما صار الاختلاط الفكري والمعنوي والعاطفي عبر وسائل التواصل إدمانا، لا يمكن التخلّص منه.
لبست ملابس عملية أنيقة ليست جديدة كالتي ادّخرها للمناسبات الرسمية المهمة، وتوجّهت لمحل الجارة المكتشفة..
كانت تقف بنفسها خلف المنضدة، تبيع لشابات غالباً هن طالبات نكهات من المعسّل، التوت والدرّاق والتفاح، وأنابيب كرتونية مغلّفة من الفحم سريع الاشتعال.
– أهلا جار.. تفضل.
إنها المرّة الأولى التي نلتقي فيها، ولعلها تشير للمحادثات أو فكّرت فيها. كان لدي فضول إزاء إدارتها للمحل العجيب بنفسها.
– مبارك المحل..
كان واسعا أنيقا ومبهرجاً، نكهات النكتار المختلفة تتضوع كأنها روائح عطور.
– الله يبارك فيك.. كيف حال عملك؟
ندمت على أنني لبست ملابسي التي ارتديها. كان ينبغي أن أختار ملابس أقل من عادية.
– الحمد لله، يسدّ الحاجة.
– وأولادك؟!
ذكّرتني بهم. إنهم ماضون في حياتهم اليانعة يكتشفون تفاصيلها بأنفسهم قد تباعدوا عني. قطعت الطريق على أسئلة أخرى:
– إن شاء الله بخير، طلبي متواضع وبسيط غالبا لن أجده عندك.. تبغٌ ألفّه بيدي.
أخذت تستعرض أنواع التبغ الأجنبية والتجارية مع المنكّهات الموجودة لديها. أسعارها فوق دسّها للاحتياج المصطنع أغلى بكثير. صارت موضة للمثقفين والمتظاهرين بالتميّز والأغنياء.
– هل لديك التبغ المحلّي؟
ارتفع حاجباها على غير توقّع مني لهذا الطلب. ذهبت وفتّشت في رف بعيد جانبي، وقالت من هناك:
– موجود.. الزبائن يقولون إنه ثقيل جدا.
– الفلتر في السجائر الجاهزة لا يفعل شيئا..
صمتت. ثم خطر لي خاطر. لم أكن أعني السجائر والدخان والتبغ كلّه مع تظاهري بالحديث عنه. قلت كخبير ومتمرّس:
– التدخين إدمان وعادة. لا يناسبني ولو استطعت لتجنّبته نهائيا.
– دخّن من الموجود في السوق إذاً..
– كلّه مصنّع وفيه إضافات خطيرة جداً، تصل إلى 100 إضافة كيماوية. المحلّي يؤدي لإخراج بلغم أكثر، هذا كل ما في الأمر، ولكنه أقل ضررا بكثير. هناك أجدادنا من عاشوا أكثر من قرن مع أنهم مدخّنون له.
– لا اتفق معك.. الزبائن لهم أذواق محددة.
– صار ضرورة، عادة وإدمان، والمهم في هذه الحالة النيكوتين وليس النكتار المضاف أو الماركة.
في عينيها امتعاض يجانب النظر إليّ، وفجأة أخذ يكتشف المخفي في كلامي، أو يحسّ به بالأحرى. نظرت محتارة نسيت معها أن تسألني كم أريد.
– هل لديك أوراق اللف؟
– نعم.
الأخيرة كانت متوفرة لأنها تستعمل للف التبغ الأجنبي، الخرافي في الثمن، والمخدرات المختلفة كالحشيش والمارجوانا. حددت لها نوع الورق الذي أريد.
– أعطيني نصف كيلو من التبغ..
وظبت التبغ الموزون في كيس الورق وزجّت، بآلية، الدفاتر الصغيرة في الكيس البلاستيكي الصغير. ولما كانت البيعة متواضعة الربح، ذَكرَت الثمن النهائي لي بقلّة اهتمام، وكان أكثر قليلاً مما ادفعه عادة عند غيرها.
بالتأكيد خيّبت نظرتها إليّ، ولم تعد تراني أكثر من جار وحيد فقير. بعد الدفع تسلّمت منها الكيس:
– تفضل جار.
إنني من عالم آخر لا يهتم بالصيحات والشكليات والرائج والمعتاد. قلت أودّعها وأنا أعرف سلفاً أنها ستمتعض:
– دنيا صعبة ومتداخله. لو كنت أعرف كيف، لزرعت التبغ في حديقتي وأعددته بيدي.. ليس من المعقول أن ندفع مالا لقاء عادة ومضرة بالصحة.
لم تمتعض تماما بل تظاهرت بالتعاطف وأنها تخبر ما أتكلم عنه.
– الله يعيننا يا جار، أنا أيضاً مدمنة على المعسّل.
لم تلتقط مغزاي. وأنا أخرج لم أخبرها أنه لا يوجد في المعسّل والأرجيلة ولا نكتارها ذي الفواكه أي نيكوتين فعلي أو عادة وإدمان. لا يزيد الأمر عن اللهو بالدخان المبرّد ذي طعم العسل الخارج من خرطوم الأرجيلة وقارورتها، في حشد أو جماعة.. فقط نفخ ومنظر له إيحاء ما أو إيماء خاصة من النساء.. للآخرين.