من جماليَّات تصوير الحيوان في الشِّعر العَرَبي القديم
كان عنوان هذا الموضوع مقترحًا بحثيَّا فصليًّا تقدمتُ به إلى (الأستاذ الدكتور نذير العظمة، رحمة الله عليه)، خلال دراستي في مرحلة الدكتوراه، الفصل الجامعي الثاني لعام 1409هـ= 1989م، وأُنجِز يوم الأحد، غُرَّة ذي القعدة 1409هـ= 4 يونية 1989م. جاء ذلك المقترح عن مَيلٍ في نفسي، آل إلى رغبةٍ أكيدة، دَعَمَتْها تجربةٌ سابقةٌ في تناول مثل هذا الموضوع في رسالتي للماجستير عن "شِعر ابن مُقْبِل"(1)، التي نوقشتْ يوم الأربعاء 22 من ذي القعدة 1408هـ= 6 يولية 1988م، بـ(كليَّة الآداب(2)، جامعة الملِك سعود، بالرِّياض)، لولا أنِّي، بعد حِينٍ من البحث، جفلتُ من سَعة الموضوع عن بحثٍ فصليِّ وتشعُّبه؛ فكان الرأي أن تقتصر الدراسة على ثلاثة أنواع: (الذئب، والكلب، والثور الوحشي).
وهكذا اكتشفتُ حقلًا بحثيًّا خصبًا في الأدب العَرَبي، لم أقف على دراسة اهتمَّت به من وجهته الجَماليَّة. وبين صورة (الذِّئب) و(الكلب) صلةٌ وثيقة، كما أنَّ بين صورة الكلب و(الثور الوحشي) صلةً أوثق؛ لتتكوَّن من هذه الصور الثلاث وَحْدَة تتمحور بصفةٍ رئيسةٍ حول فكرة الصِّراع، وفي ذلك ما أعطى الدراسة اتجاهها والمنهاجَ تشكُّله.
وقد اقتضَى المنحَى الجَمالي الذي سلكته الدراسة تقديم نُبذة عن عِلم الجَمال، من حيث التاريخ والأسس العامَّة. وهو، وإنْ سُمِي عِلمًا، لا يحتكم على نظريَّةٍ عِلمِيَّةٍ صارمة، تقسر الدارس على الأخذ بها، وإنَّما يرسم مسارات عامَّة للتذوق، حتى عند أكثر الجَماليِّين عِلميَّة، من التجريبيِّين أو التحليليِّين؛ ذلك لأنَّ مادَّة هذا العِلم- وهي الجَمال- لا تخضع لمقاييس محسوسة أو تصاميم معيَّنة، ولا يُمكنها بحالٍ أن ترضخ لمبدإٍ ذوقيٍّ عام. ولذا فإنَّ هذه الدراسة في اتِّجاهها الجَماليِّ إنَّما تستند في المقام الأوَّل على التذوُّق الفنِّي الحُـر، مستوحيةً من بعض المبادئ الجَماليَّة ما يعنيها في ذلك.
وقد تتبَّعنا في القِسم الأوَّل من الدراسة صورة (الذِّئب) المادِّيَّة والمعنويَّة في عددٍ من النماذج: الجاهليَّة، والأُمويَّة، والعبَّاسيَّة، دارِسِين ومقارِنِين. وأتممناها بمقاربةٍ عَرَبيَّةٍ فرنسيَّة، من خلال قصيدة لـ(ألفريد دي فيني Alfred de Vigny، -1863)، أوقفَتنا على عناصر من الاتِّفاق والافتراق بين صورة الذِّئب العَرَبيَّة وصورته الفرنسيَّة. ومن ذلك كلِّه حاولنا استخلاص بعض المقاييس الجَماليَّة المشتركة لصورة الذِّئب.
أمَّا القِسم الآخَر من الخطَّة، فكان لدراسة (الكلب) و(الثور الوحشي). عن الأوَّل اخترنا نماذج من أراجيز (أبي نُواس) في وصفه. ثمَّ عرَّجْنا على قصيدةٍ لـ(ابن الرومي) في الهجاء، وازنَ فيها بين الكلب والإنسان. وتلك هي النماذج المتكاملة في تصوير الكلب؛ إذ لم نجد في العصر الجاهليِّ أو الأُمويِّ نماذج أوفَى منها في تصويره. على أنه كان يقترن بالثور الوحشيِّ في العصر الجاهلي، حيث يمثِّل والثور ثنائيًّا في بعض صورهما النمطيَّة. وعن الثور الوحشيِّ درسنا نماذج جاهليَّة وأخرى لبعض مُخَضْرَمِي الجاهليَّة والإسلام، مهتمِّين بتحليل بعض العلاقات الميثولوجيَّة الرمزيَّة لصورته، وما انعكس عنها من مقاييس جَماليَّة. وكذا ناقشنا صِلة البُعد الرمزيِّ والفنِّيِّ بظاهرة الاستغراق الفنِّيِّ في مشهد صراع الثور الوحشي.
وتوطئةً، سوف نأخذ القارئ في مقال الأسبوع المقبل إلى نبذةٍ في عِلم الجَمال.
(1) نُوقِشتْ يوم الأربعاء 22 من ذي القعدة 1408هـ= 6 يولية 1988م. ونُشِرت في كتابٍ من مجلَّدين، ضمن إصدارات (النادي الأدبي بجازان، 1999)، تحت عنوان: "شِعر ابن مُقْبِل (قلق الخَضرمة بين الجاهليِّ والإسلاميِّ: دراسة تحليليَّة نقديَّة)". ويمكن الاطِّلاع على نسخةٍ منه بصيغة "بي دي إف" عَبر موقع "إرشيف الإنترنت": http://www.archive.org/details/IbnMogbelPoetry
(2) هذه الكُليَّة التاريخ، التي تُعَدُّ أُمُّ الكُليَّات بـ(جامعة الملك سعود)، وفي (المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة). أُلغي اسمها فجأة، 1444هـ= 2022م، بعد ما يربو على نصف قرنٍ من تاريخها، منذ أُنشئت 1377هـ= 1957م؛ لمجرد خاطرةٍ خطرت لأحدهم أن يشطب اسمها العَرَبيَّ العريق، والمستعمل في كثيرٍ من الدول العَرَبيَّة، في (مِصْر، والشام، والعراق، والخليج العَرَبي)، وغيرها، ليجعله اسمًا طويلًا مستنسخًا بلا معنى، هو (كُليَّة العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة)! وكأنَّ الكُليَّات الأخرى غير إنسانيَّة! بل كأن "العلوم الاجتماعيَّة" غير "العلوم الإنسانيَّة"! والذين وفدوا إلى الكُليَّة من خارجها، أو الذين يفتقرون إلى الحِسِّ اللُّغويِّ والتاريخي، هَشُّوا- طبعًا- وبَشُّوا وصفَّقوا للاسم المبتدع البارد الجديد! والعَرَب غالبًا لا يحترمون لغتهم، ولا تاريخهم، ويكفي أن تعنَّ لأحدهم "تصنيفة"، ليشطب التاريخ، شريطة أن يملك سُلطة الشَّطب. وهذا ما لا يحدث في الأُمم التي تحترم هُويَّتها وتاريخها، لا في شرق الكُرة الأرضيَّة ولا في غربها. أمَّا في ديار العَرَب، فكُلَّما جاءت أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها، وأنشأتْ تبني من قاع الصِّفر!