

مغامرة الكتابة
رغم (أن من يكتب لايموت) كما يقولون، و(أن الكتابة لا تنهزم) فإنني كثيرا ما أسأل نفسي عن جدوى الكتابة، وعن الفائدة من أن يصدر المرء جريدة جديدة، أو أن يكتب نصا نثريا كان أم شعريا؟ ما فائدة أن يضيف أي كان إلى هذا الكم الهائل من المنشورات، مكتوبا جديدا، أو حتى كلمة بسيطة؟ إذا كانتا لا تحملان في طياتهما فرادة عظيمة وتميزا بينا. فأي إصدار موجه للقراءة، لابد أن تتوفر فيه الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية المتفق عليها، وأعني: ضرورة الموضوع ومدى أهميته في حيز زمني هو الآني والآتي، وضرورة الأسلوب الذي يأخذ بعين الاعتبار حلم الإتيان بالشيء الجديد صياغية تبعا للشكل والتشكيل والمورفولوجي الظاهري والهيرمينوطيقي الدلالي وما يتجاذبه من تأويل..
وأنا مؤمن أعمق الإيمان أن الذي يقدم على هذه المغامرة، هو كمن يضيف إلى البحر المشبع بملحه ملعقة ملح لا تزن ذرة من خردلٍ أمام ملوحة البحر. أو يشعلُ شمعة صغيرة خافتة النور في نهار مليء بالشموس العظيمة الضوء.
كثيراً ما ينتابني شعور بأني عبثاً أضيعُ وقتي ومالي وأني لن أصنع أفضل ممّا صنع غيري، أو أضيف جديداً مبتكراً، ويراودني شوق كبير حينها إلى الذهول أمام فوضى المنشورات التي تجتاح ما حول جنبات مكاتب التبغ، وتفيض بها أكشاك الجرائد المنتشرة في الشوارع المدينة المكتظة بمن لا يقرؤون. وأقول في سرّي " هل هناك شيء جديٌّ لم تتطرق له بعد هذه المطبوعات، أو هل هناك سؤال منطقي لم تسأل عنه تلك المنشورات حتى الآن"؟؟. وهل ما زال هناك أسئلة محتفظاً بحرارتها الأولى تستحق بجدارة بأن تُطرح على صفحات إصدار جديدة.
وكثيرا ما أدعو نفسي إلى تجاهل هذه الأسئلة وأحاول التمرّد على روتينيتها حتى أتمكن- رغم ظروف النشر االقاسية وندرة الموارد المادية- من الاستمرار في إبتداع شيءٍ جديد له خصوصيته وجدته وتميّزه، يتكامل فيه الشكل والمضمون جماليا، ويرتاح القارئ له نفسيا، ويتشوق لقراءة المزيد من كلماته وصفحاته، وحين ينتهي من القراءة، يحزن لأن ما يقرؤه توقف عند نقطة تعلن الخاتمة، لكنه يكون سعيدا حين يعود إلى إليه، أي إلى ما ترسب في روحه وفكره ونفسه، يتأمله، وقبل أن ينمحي يعيد تشكيلهن، مشتركا بكيفية ما في إعادة بناء ما قرأ؛ ما يدفعني غالبا إلى التمسّك بأطياف الحلم المتلاشي في فضاء التفجرِّ الديموغرافي الصحفي الهائل ووسط تصحرِّ الكلمة الكليِّ في مناخ فقير وخالٍ من الإضافات النوعيّة أو تلك المنفلتة من سطوة التابوهات.
إلاّ أني حتى هذه اللحظة لم أحققُّ إلاَّ الإنجاز القليل المتواضع، وما زلت في انتظار الفتح الكبير عله يغني العاطفة والعقل ويخلق جوا صحفيا إنسانيا حقيقيا تحترم فيه الصحافة نقطة البدء الربانية (إقرأ) وتقدسها كتجلي للحرية وكرامة الإنسان، دون الإنزلاق بها إلى الفساد، لأن الصحافة أقرب إلى ذلك إذا هي جبُنت وخافت وعطلت دورها الرقابي المسؤول وفشلت في تعبئة قرائها وجماهيرها ضد الفساد في أي موقع وتحت أي مسمى.
فإذا هي يوما لم تلبي أيا من استجابات القارئ، ولم ترفع من مستواه الفكري واللغوي والمخيالي والروحي، فإنها تتحول لا محالة إلى لعبة بأيدي السلطة والأحزاب – الفاسدة غالبا – ويفقد حينها الشعب إمكانية مواجهة الفساد والقمع والتفرد بالسلطة سواء كان هذا التفرد من قبل أشخاص أو جماعات أو حتى أفكار. وبذلك يبتعد القارئ عنها ويعزف باحثا عن صدر آخر يجد فيه ما يضيف إليه المفقود منه.. أليس كل قارئ يبحث عما ينقصه؟؟ يبحث عن الكمال؟ لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" كما قال عيسى عليه السلام، فلا يوجد غذاء وشفاء للعقل والروح أجمل من التأمل والإستبصار والاستغوار في إبداع إنساني متكامل.. وهل هناك أجمل من القراءة بكل دلالاتها ومفاهيمها في ما هو كامل وجميل؟ ومن أجل ذلك جاء سيد الخلق خاتم الأنبياء سيدنا محمد رسول الله الأمي صلى الله عليه وسلم ومعه مفتاحه المكمل للرسالات السماوية والذي هو "إقرأ"
أليس من خلال هذه المفردة الواحدة الراقية التي تشبه نقطة البدء في لغة الصوفيين والفلكيين وعلماء الكونيات والفلاسفة والفقهاء، والتي نصل بها إلى الذات الأخرى وذواتنا والوجود والعدم؟ أليس بهذه الكلمة نخرج من الفناء إلى البقاء حيث العروج إلى الله؟
هذه المفردة هي أساس الصحافة التي تمثل بمكوناتها لبّ الدولة الديمقراطية الحديثة، والسلطة الأولى التي تمثل مرآة الشعب التي يُدرك بها نفسه وحكومته وواقعه بكل ما فيه من مشاكل ومعوقات. والتي لا يمكن لأي كان أن ينكر أثرها على الحياة البشرية، وأنها من أقوى وسائل التثقيف والتربية الشعبية؛ كيف لا وقد أصبحت تمتلك زمام سلطة الرأي العام من خلال التوجيه والتأطير والتحريض، حتى قيل في هذا الإطار " الصحافة قوة ضخمة، عظيمة الأثر بالغة النفوذ، اكتسبت بل انتزعت من أصحاب السلطان لقب السلطان فسموها – صاحبة الجلالة – ووقفت بقامتها المديدة تفرض نفسها بين القوى الموجهة في كل بلد، فسميت السلطة الرابعة إلى جانب السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية لأنها تحفظ التوازن بين سلطات الدولة وترعى شؤون الشعب، وترسم له المستقبل، وتكون عقليته، وتعبر عن رغباته، وتُسمع رأيه لأرباب السلطان.
بالتأكيد لست أرمي بهذا الكلام إلى أن تتحول صحافتنا إلى كتب مقدسة لا يأتيها الباطل لا من خلفها ولا من أمامها، ولكنني أريد أن أطرح فكرة دراسة الإرتقاء بما نكتب لنصل بها إلى الحد الذي لا نشغل فيه أنفسنا بالآخرين، وما لبسوا، وما أكلوا، وكيف يمشون، أو ماذا يفعلون، أو ماذا يقولون..
ربما يقول قائل إن هذا هو دور الصحافة ودأبها، وأنه لا ولن نجد صحافة في العالم، تخلوا من مثل هذا التوجه، سواء صغرت اهتماماتها أم تعاظمت، وأن الأمر رهن بالحراك الاجتماعي. هذا صحيح إلى حد كبير ولكننا نمتلك في المغرب الأرضية التي تسهل علينا مثل هذه الخطوة وأعني بها إنفتاحنا على الآخر، وتواصلنا مع مختلف قضاياه المصيرية كنتاجات غير ديمقراطية لسلوكات بعض من تولو أمور البلاد.
فتعالوا بنا نتجاوز قصص ماذا يلبس الآخرون وماذا يقولون، ونرقى إلى قصص كيف يفكرون وكيف يبدعون وكيف يرتقون بحياتهم وكيف يسهمون في تطوير مجتمعهم ووطنهم. أعرف أن المسألة ليست بقرار وأنها خاضعة لحراك اجتماعي؛ ولكنني أعرف أيضا أن المتوفر اليوم من العوامل، يتيح فرصة الانتقال من تلك الحال إلى الأخرى سريعا وأن التطور والتغير آت لا ريب فيه. وأختم بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي عن الصحافة:
لكل زمن مضى آيـــــــة | |
وآيـــة هذا الزمان الصحـــف | |
لسان البلاد ونبض العبــــاد | |
وكهف الحقوق وحرب الجـــــن | |
فيا فتية الصحف صبــــرا إذا | |
نبا الرزق فيها بكم واختلـــــف | |
فإن السعادة غير الظهـــــور | |
وغير الثراء وغير التـــــرف | |
ولكنها في نواحي الضمــــير | |
هو باللؤم لم يكتنــــــــف |