مس من الحب
شخصيةٌ يلتبسُ لديها الوهمُ بالواقع، فتلجأُ دون أن تتجاوزَ المكان إلى محاكمتهما..
رائعةٌ من روائع أنور الخطيب تتضمن ثمانية أجزاء مختلفة الشكل والمضمون.. قدَّمها لنا الكاتبُ كبناء روائي تحملُ بناهُ السردية قدراً من الحقائق الواقعية المغلَّفة برؤى فنية خيالية تبلغ حد التهويمات الخرافية لكنها تبقى مشدودة إلى الشخصية المركزية التي تشهدُ اضطراباً وقلقاً فى/ من أجل البحث عن الذات والحقيقة والجوهر..
تلك الشخصية القلقة، وبعد أن ذهبتْ برغبتها ـ لا بموجب رغبة صديق كما ادَّعتْ ـ إلى طبيبٍ نفسيٍّ لم ترى منه سوى صورته المعلَّقة خلفه، قررت في نهاية الجلسة أن تكون الطبيب ذاته وقتما تشاء.. (وقررتُ أن أكونه وقتما أريد..)..
يتموضع النسيج الروائي في محاورَ عدة أهمها:
1 ـ ما تمثِّلُه تلك الشخصية المحورية ـ إنسان الحداثة وما بعد الحداثة ـ من أفكار ومفاهيم وقيم.. من صراع داخلي وتناقضاتٍ، من أبعاد أيديولوجية وروحية وسياسية وإجتماعية ودينية لم تتجل حركيتها الفعلية في السياق الروائي بشكلٍ مباشر إنما من خلال سرد الراوي الذي تأتَّى تارةً عبره أو عن طريقه وتارةً أخرى عبر أشخاص الرواية..
ذلك السرد الذي لايخلو من المفارقات والسخرية من/ على التفاصيل والدقائق والهوامش والآثار والأبعاد والفروقات المختلفة.. لنأخذ الأمثلة التالية:
"ولا نستطيع في هذه الحالة، أن نحقق تنمية شاملة بدون تعليم المرأة، وتجهيل الرجل، واحد فقط عليه أن يتعلم، الرجل فقط لزيادة عدد السكان، وحمل الأطفال والذهاب إلى السوق، وقيادة السيارة، بل أقترح أن يجلس في المقعد الخلفي مع الأطفال.." ..
".. المكان؟ لا يهم يا أيها الصديق، لأنه واحد متشابه، ينسخ نفسه ويتمدد ببله غريب عجيب ]..[ نحن لا نعرف إذا كان الحمير يشعرون بالشحوب أثناء النهار.."
"هل سبق لكِ أن رأيتِ العالم حبة رمل وإن الطريق الذي تسلكينه ليس أبعد من عينيك لأنفك؟!".
"وحين لم يعد حضرة العدل، نهضت فجلست مكانه، جلت بنظري في المقاعد الفارغة ]..[ التفت خلفي، رأيت الميزان وكفتيه المتساويتين، فضحكت بهستيريا"..
"قال الحارس: لقد حضر المالك، والمياه مقطوعة "يردُّ بسخريةٍ في سره نجّاني من الغرق"..
"مر المالك، رجل قصير ونحيل، تساءلت: "كيف يمتلك عمارة طويلة"..
2 ـ المنحى الاعتقادي الخرافي الذي يمثِّلُه الناس فيرفضون التغيير ويجاهدون ويجتهدون من أجل الابقاء على الذهنية الشعبية تلك التي يغيبُ عنها الوعيُ الواعي أوالنزعة الواقعية.. فقد رفض ـ صاحب القضية ـ اللجوء إلى الجهل والخرافة لحل قضاياه لأن الشيخ أو مولانا برأيه ليس لديه سوى ربطَ الحجاب حول العنق ثم البصاق في الوجه أو سلخ الجلد لاخراج الجان..
3 ـ النظام الاجتماعي السائد من زيفٍ ونفاق وأقنعة وألقاب وادعاءاتٍ وخرافات ومساحيق تجميل.. إلخ..
هذا النظام مثَّلَه كلٌّ من المدير، الناشر، الحارس، المالك، الجار وزوجته، الملك، حضرة العدل، الموظَّف، السكرتيرة، البقال، الشاعر، القاضي، المجرم، الطبيب، الأب المتسلط، الرجل التقي بالثوب الأبيض، وكل إنسان في المجتمع..
حيث لا أحد يتصرَّفُ على طبيعته وإلاَّ هرب الجميع كما قال الراوي الذي في مكانٍ آخر نجده يخاطب الفراغ قائلاً:
"أيها الفراغ الملعون المقيت.. كم أنت سيد متجبر ومستوطن أيها الدكتاتور، أكتشفك الآن رغم حكمتي الطويلة، وأراك منتشيا بينما تنحني لك الرؤوس، أيها المنتشر في كل الأمكنة، مهما صغرت أو كبرت، ما زال غبار الصحراء يغطي الوجوه، وما زالت البنات تتعرض للوأد، وما زالت القلوب صلدة غليظة، مئات السنين من الكلام ولا أرى حرفا يتشبث بمعناه، لا في أول الكلام ولا في آخره، ولا أدري ماذا تقول المخلوقات في سرها، لكنني أشك في ما تجهر به"..
من ـ المـيـزان ـ
4 ـ التفاوت الطبقي والفكري والروحي والجمالي والأخلاقي والابداعي..
لنأخذ على سبيل المثال مفهوم المرأة الذي لدى الغالبية لايتجاوز الحسي الراسخ في الذاكرة الشعبية أما لديه فقد تجاوز ذلك إلى مستوى الأسطورة بموجب الأوصاف الجمالية والأبعاد الخيالية التي نسبَها إليها، بل منحها مجموعةً من القيم المطلَقة ماجعلَها ترتقي في أبعاها الدلالية الرمزية لتدلَّ على الحرية بكل زخمها وعنفوانها..
"كيف تتوحد بجسد امرأة وتشعر في ذات اللحظة أنك تتعبد في محراب عشقها، بل كيف يغلفكما ماء جسديكما وتشعر أنك عانقت روحها حد التلاشي"..
أما عن الفصل والتفاوت الطبقي:
"هذه مياه لقوارب الرخام، وأخرى لقوارب الخشب، وهذه أسماك ملوكية، وتلك مملوكية"..
وعلى لسان القيصر: "تحدث بقلبك كما تشاء، ولنبضك حد يجب ألا يتجاوزك وإلا ما معنى أن يكون الناس طبقات"..
وعن التفاوت الابداعي، فهناك الكثير من المواقف والحوارات التي حدثتْ بين الشخصيات والراوي بحيث الأولى كانت دوماً في وادٍ والثاني في عالمٍ آخر..
"أعلم أني غريب، ولكنك لا تستطيع حرقي، لأنك ستحرقها"..
"كنت أحاول أن ألدكِ ففشلت، ولكن من يدري، قد أنجح في محاولة أخرى"..
"سأتركك لدهشتك، كلا لم يكن حلما، أنت تراه بأم عينك، ستراه كثيرا، وسأخرج لك من بين سطور الكتب التي تدعي كتابتها، ويدك لم تلامس نقطة من حبرها".
"لن أعيدها إليك، لقد خيبت ظني، وقرأتها وفق ما يروق لك، ولذاكرتك العمياء، لو قرأتها بعناية لأبلغت الشرطة.
لن أخوض في التحليل الموضوعي لهذه الأمثلة وغيرها كثير، فهي مشاهد ورؤى مائلة تبقى من خصوصيات الكاتب وتفاصيل سيرته وشذرات تفكيره ووعيه، لكأنه يريد القول (ها أنا والعالَم)..
5 ـ الاتجاه العقلي أو النزعة الواقعية والذي مثَّلَته الشخصية المحورية في محاولةٍ لاخراج الناس من سبات الدهور، فأعطتهم حياةً حافلةً خصبة مقابل احتراقها وموتها في كل لحظة بين الزماني والمكاني والرمزي والخيالي والخطابي المباشر...
"دعني أكمل لك ما لم تره عينك، وتقرأه بصيرتك.."..
"القيصر: إذا نُفي عقلك، ابتعدت عن كونك إنسانا"..
"العجب في أنك تراني، ورغم ذلك لا تفهمني، كيف تكون جسراً للكلام ولا تعرف منابعه بل وتجهل مصبّه.."..
"بعد أن أكون قد سحبت بعيني المسافات شارعاً شارعاً، وتلة تلة، وبيتاً بيتاً، وغرفة غرفة، وسريراً سريراً، وامرأة امرأة، لأفتح عينيها عليَّ وأكتب اسمي على راحتها بشفتي، وأمنحها حنوي عليها، وخوفي، ورعشتي، وأعصابي، وأغنياتي التي حفظتها صغيرا، وعندما تغمض عينيها، أكون قد مهدت لأطرافي الخدر"..
6 ـ المرأة.. وقدَّمَ لها الكاتب على امتداد صفحات روايته قراءةً مستفيضةً منبثقة عن وعيه واحساسه وخبرته بطقوسها وإشاراتها وألغازها وتجلياتها وتحولاتها..
تلك القراءة لم تكن بعيدةً عن الأنساق والنظريات وحسب بل تجاوزتها إلى حدود الغرابة واللامفَكَّرِ فيه والمسكوتِ عنه..
إنها سطوة الشعر أو الشاعر على الروائي أو لنقلْ تداخل فذوبان فتلاشي الشعر بالرواية..
حيث كتابةُ السرد تحوَّلَتْ إلى حركة وإغراء بالمعنى، أي اللعب على الكتابة لصالح الكتابة، فكانت تلك اللغة العابرةُ والمخترِقةُ لفضاءاتِ الابداع والنقد والتي حولت المشاهد والأحداث والوجوه واللوحات إلى thèmes أو مواضيع للادراك الجمالي المقرون بالتخيُّل المعرفي..
"أكتب عن امرأة لا تشرح لي سرها، إنها بالنسبة لي، أكبر سر في هذا الوجود، ولا أريد اكتشافه أو التعرف إليه، هي المعرفة الوحيدة التي تضر بي.. أكتب عن امرأة شلال، تتجدد كلما سقطت حبة مطر على أي أرض في هذا الكون، لا أعني شكلها، ولكن روحها.."
"لو كنتِ امرأة حقيقية، كالتي يُكتبُ عنها، لكنتِ التزمتِ لصمت،
بل لو كنت ذكية لابتعدتِ عن الباب"..
الروائي الراوي وبهدف تحريرالحس الجمالي لدينا، وضعنا أمام أفقِ غامر بكشوفات الأمكنة والفضاءات وذلك من خلال فلسفتهِ، جنونه، خياله، وتأملِّه تفاصيل اليومي وجمالية العابر..
"ستحارب هذه المرأة من أجلك، ستحرق نفسها كي تذيب ثلج العائلة، ستصرخ كي تهتز الأصنام المصنوعة من التمر والمنتصبة خلف الستائر السوداء"..
"شتراوس في أقصى حالات جنونه، كنت أرى الفرقة الموسيقية، بدأ السقف يتسع والضوء يتسلل، والآلات الموسيقية تسبح في الفضاء، وشتراوس يقف على بساط الريح، يحرك بعصاه القصيرة الرفيعة، فتقترب النجوم من بعضها بعضا ثم تبتعد، كأنها ترقص الفالس فوق الخليج العربي".
وبذلك يقتربُ الحب من المس ليكتملَ العنوان فيؤلِّف البؤرة التي انطلَقَتْ منها أحداث الرواية، في مختلف مساراتها وأبعادها معتمدةً على الفلاش باك.. ولن أستطيع رؤيتها، لأنها في عمق تكوينك"..
وعلى الشعرية لدى الخطيب من حيث القواعد الجمالية التي ميَّزَتْ كتابته المحتَمية بالتخييل، والتي تهدف إلى اجتراح لغةٍ مختلفةٍ لم تسقط سهواً بل وقد قصدها الروائي لتكونَ واصفة وموصوفة في آنٍ معاً..
"كنت أتأمل الدائرة الذاهبة في لذة الغياب، بالشعرالمنفلت المبعثر، بالتمتمات:
لم يولد أحد من قبل ولن يولد، فتعلق بالماء الأبيض، وتألق كاللوز الأبيض، وتراقص بالثوب الأبيض، قد يزحف ماء الصدر إلى العينين، قد يتلاشى المشهد في الضدين، أو قد تمشي في جهتين، فاربط رأسك، واكشف صدرك، وازرع في رئتيك بذور الصدمة، وفي نبضيك شموع العتمة، واربط شفتيك بقفل الدمع.
مشاركة منتدى
11 شباط (فبراير) 2008, 02:09
لو تكرمتي علينا
اريد رابط يوصلني الى نص رواية انور الخطيب مس من الحب
لان محاولاتي في البحث عن النص الرواية بأت بالفشل
مشكوره اختي