ماذا يحدث في سوريا؟ ولماذا الآن؟
تتصاعدُ الأحداثُ في شمالِ سوريا، وتحديدا في حلبَ وإدلبَ وحماةَ، حيث تشنُّ جماعاتٌ إسلاميةٌ متطرفةٌ مثلَ "النصرةِ" و"هيئةِ تحريرِ الشامِ" و"داعشَ"، إلى جانبِ جماعاتٍ أخرى كالإخوانِ المسلمينَ ومرتزقةٍ من دولٍ إسلاميةٍ متعددةٍ، هجماتٍ عنيفةٍ. هذه الجماعاتُ، التي سبقَ أن صنفتها واشنطنُ وأنقرةُ على أنها منظماتٍ إرهابيةٍ ورصدت مكافآت كبيرةً للقبضِ على قادتها، تعملُ بدعمٍ وتنسيقٍ تركيٍّ-أمريكيٍّ-إسرائيليٍّ. هذا التصعيدُ المفاجئُ يثيرُ تساؤلاتٍ كثيرةً حولَ انهيارِ الجيشِ السوريِّ في تلكَ المناطقِ وضعفِ ردودِ الفعلِ من حلفاءِ النظامِ السوريِّ، خاصةً روسيا وإيرانَ.
ما يثيرُ المزيدَ من الاستغرابِ هو غيابُ صوتِ هذه الجماعاتِ عن القضيةِ الفلسطينيةِ، رغمَ مرورِ أكثرَ من عامٍ على العدوانِ على غزةَ. يبدو أن نشاطَها يقتصرُ على خدمةِ أهدافٍ بعيدةٍ عن الإسلامِ الحقيقيِّ، إذ تتضحُ علاقتُها بالمخططاتِ التي تسعى لزعزعةِ استقرارِ المنطقةِ لصالحِ قوى دوليةٍ وإقليميةٍ، مثلَ إسرائيلَ وتركيا وأمريكا.
بالرغمِ من اختلافاتِها الأيديولوجيةِ والمذهبيةِ، تشتركُ هذه الجماعاتُ في كونِها أدواتٍ في يدِ أعداءِ العربِ. فقد ألحقت ضررا كبيرا بالإسلامِ والمسلمينَ، محليا ودوليا، وربطت مفهومَ "المرتزقةِ" بجماعاتٍ ذاتِ طابعٍ إسلاميٍّ. كما أن استمرارَ الصمتِ العربيِّ الرسميِّ على هذا التحالفِ، الذي تقودُه تركيا وإسرائيلُ وأمريكا، يسهمُ في تصديرِ هذا الخطرِ إلى دولٍ عربيةٍ أخرى مثلَ العراقِ والأردنِ.
تركيا، التي أرسلت آلافَ المرتزقةِ إلى ليبيا وأذربيجانَ والنيجرِ، تديرُ هذه الجماعاتِ لتحقيقِ طموحاتِها الإقليميةِ. هذا التوجهُ يعيدُ إلى الأذهانِ ما حدثَ خلالَ سنواتِ "الربيعِ العربيِّ"، حينَ أُنفقت ملياراتُ الدولاراتِ لدعمِ جماعاتٍ متطرفةٍ بهدفِ إسقاطِ نظامِ الأسدِ، وفقًا لما اعترفَ به مسؤولونَ مثلَ حمدِ بنِ جاسمَ، ووزيرةِ الخارجيةِ الأمريكيةِ السابقةِ هيلاري كلينتونَ في كتابِها خياراتٌ صعبةٌ. حتى الرئيسِ الأمريكيِّ السابقِ دونالد ترامبَ أشارَ إلى مسؤوليةِ أوباما وكلينتونَ عن تأسيسِ تنظيمِ داعشَ، كما اعترفَ روبرت كينيدي في عامِ 2023 بأنَّ "داعشَ صناعةٌ أمريكيةٌ".
يرى البعضُ أن هذه الجماعاتِ تسعى لإسقاطِ النظامِ السوريِّ وإقامةِ نظامٍ ديمقراطيٍّ. لكن كيف يمكنُ لجماعاتٍ متطرفةٍ، مصنفةٍ إرهابيةٍ، أن تؤسسَ نظاما ديمقراطيا؟ وما هي دوافعُ القوى الداعمةِ لها، مثلَ إسرائيلَ وأمريكا وتركيا، التي لم تُعرفْ أبدا بحرصِها على الشعوبِ العربيةِ؟ علاوةً على ذلكَ، تأتي هذه التحركاتُ مباشرةً بعدَ وقفِ إطلاقِ النارِ على الجبهةِ اللبنانيةِ، ما يطرحُ تساؤلاتٍ عن توقيتِ الهجومِ وأهدافِه.
النتيجةُ الحتميةُ لما يجري في سوريا هي تقسيمُ البلادِ إلى دويلاتٍ صغيرةٍ تسيطرُ عليها جماعاتٌ متطرفةٌ، مما يعيدُ سيناريوهاتٍ مماثلةً في العراقِ، والسودانِ، واليمنِ، وليبيا. كلُّ هذه الدولِ كانت ضحيةً لأحداثٍ مشابهةٍ في إطارِ "الربيعِ العربيِّ"، الذي أظهرَ أنه لم يكنْ سوى مخططٍ لتفتيتِ المنطقةِ وليسَ سعيا نحوَ الديمقراطيةِ.
في خضمِّ هذه الأحداثِ، تبقى فلسطينُ الخاسرَ الأكبرَ. لو كان ما يحدثُ في العالمِ العربيِّ انتقالا ديمقراطيا حقيقيا، لكان ذلكَ في صالحِ القضيةِ الفلسطينيةِ، لأن الشعوبَ العربيةَ بطبيعتِها معَ فلسطينَ. لكن الواقعَ يكشفُ أن ما يجري هو مخططٌ مدروسٌ لإضعافِ الأمةِ العربيةِ. أدتْ هذه الفوضى إلى فقدانِ الفلسطينيينَ دعمَ دولٍ عربيةٍ انشغلت بحروبِها الداخليةِ، أو دخلت في تطبيعٍ مع إسرائيلَ.
حتى الإعلامُ العربيُّ غيّرَ بوصلتَه، حيثُ أصبحَ الملفُّ السوريُّ يتصدرُ الأخبارَ، متجاهلا العدوانَ الإسرائيليَّ المستمرَّ على غزةَ. هذا التحولُ يسلطُ الضوءَ على كيفيةِ توجيهِ الاهتمامِ بعيدا عن القضيةِ الفلسطينيةِ لصالحِ ملفاتٍ أخرى تخدمُ أجنداتٍ دوليةً وإقليميةً.
ما يحدثُ في سوريا ليس مجردَ أزمةٍ داخليةٍ، بل جزءٌ من صراعٍ أوسعَ يهدفُ إلى إعادةِ تشكيلِ المنطقةِ بما يخدمُ مصالحَ القوى الكبرى على حسابِ وحدةِ الدولِ العربيةِ وقضيتِها المركزيةِ، فلسطينَ.