
لسان البحر..
بعد أن أنهى عمله وبعد صلاة العصر تحديدا، وكما هي عادته في كل يوم اثنين وخميس من رحلة العمل الشاقة إلى بلدة "الفريديس" الساحلية، يذهب وديع حاملا تعبه على ظهره إلى البحر... مساومات على البضائع التي يبيعها، وامتعاضه من كثر كلام نساء البلدة.
قرّر أن يلقي بكل هذه الأشياء إلى البحر... لا يدري وديع لماذا يلجأ للبحر ؟!.. لكن قبل أن يتفوه بكلامه إليه تسبقه عاصفة غضبى من الأسئلة التي تجول برأسه دائما... لماذا هو مغيب عن مكانة نفسه أو حتى عن بيته وأصدقائه، فأصدقاؤه إما أن يكونوا الآن بين أحضان بيوتهم وحواريهم، أو النوادي الثقافية، أو في المكتبات، أو يقضون أوقاتهم أمام شاشات التلفاز.. إلا أنه الوحيد بينهم يشكو همه للبحر.
البحر...
اعتاد وديع بهذه الهيئة الهزيلة على هذا الموقف من وقت قريب جدا، والبحر صار في ذهنه ثيمة أساسية لأنه بحد ذاته رمز محمل بقيم الخير والعطاء والجمال، أو ربما لأن الناس الذين يعيشون بجانب البحر وجدوا فيه انعكاسا لحياتهم الثقافية، والاجتماعية، وتفاصيل حياتهم اليومية.
يتذكر وديع بشكل سريع.. يوم أن ذهب إلى بحيرة طبريا في الجليل الأعلى، كان يبلغ من العمر ست سنوات، وبعد أن نجا من الغرق بأعجوبة، لولا لطف الله به.
الماء بشكله المستدير سكنه منذ نعومة أظفاره حتى قبل أن يحقق ويدعم الروابط المتينة بعوالمه الخفية والحقيقية والمتخيلة.
يشعر وديع دائما بأن البحر هو صديقه الحنون، رغم أن البحر لا يبادل الناس بطريقة متشابهه شعورهم بنفس الطريقة.. فهو يضحك ويقتل.
هو صديقه الحنون إن غاب عنه الحبيب، وهو ملاذه إذا غابت عنه أمه الغالية وهو عزاؤه الوحيد إذا غاب عنه أخوته...
البحر...
للبحر عدة لغات.. الكل على الشاطئ يستخدم لغة خاصة تليق بحجم المشاعر التي يمتلكها، أناس وعشاق تعبث في وجهه وتقرصه وتدغدغه عن قصد، وآخرون يتحسسون أنامله، ويقفزون على ظهره.
يتلفت ويحدج بعينيه إلى الشاطئ، وهو ملئٌ برجال ونساء وأطفال وشيوخ بوجوه شاحبة كأنه توقيع التاريخ عليها، هناك العربي المعروف بهيأته وتكوينه الجسماني وبشرته المائلة إلى السمرة، والشوارب الكبيرة.
وهناك اليهود وأبناؤهم وزوجاتهم.. اللواتي يلبسن لباس البحر الذي لم يكن يتعود على رؤيته إلا من خلال مشاهدته بخفية للأفلام المصرية، إلا أنه هذه المرة بات حقيقيا.
وراحت عيناه تتفرس فتاتين من أولئك القوم، وهما ملقاتان على رمل الشاطئ، تتبادلان الحديث بلغتهم الخاصة، وكل واحدة منهن تدهن على جسد الأخرى مادة مضادة لأشعة الشمس الحارة، حتى تحتمي الواحدة منهن من الشمس.
وقد غزته الشهوة الجنسية، وهو في وضع لا يسمح له أن يمارس عادته الجنسية القبيحة، وقد بلغ وديع من العمر سن البلوغ.
وبتنهيدة عميقة اعترته.. تتلاشى هذه المشاعر بمضي ثواني الساعة، لكن الفتاتين سرعان ما غادرتا المكان.
راح وديع يمشي على جانب الشاطئ بخطى ثابتة خفيفة الحركة كما لو أن قدميه سلحفاة بحرية.. كان يدرك بذهنه وبعقلة وبقلبه أنه إنسانا صاحب طموح، يريد أن يطرق أبواب الأمل.. هو شوق في قلب شاب في مقتبل العمر يريد أن يسبق حركة الأيام، ويعرف لماذا هو موجود على هذا الكوكب، وما هي الرسالة الإنسانية التي يريد أن يؤديها.
كان البحر في نفسه دلالات رائعة التناقضات.. جميلة الصور أحيانا، وصور قيمة الرؤية، متلاحقة الوجوه، له متعة غريبة تسكن الوجدان.. كحضور أنثى في حياته.
وهو ينحني بظهره ليعانق بسّبابة إصبعه رمل البحر وهو في لحظة يريد أن يخط ويكتب اسم حبيبته، إلا أنه سرعان ما يتعثر إصبعه عن كتابة حرف واحد.. وهو لا يعرف حتى الآن ما هو وجه حبيبته وشكلها.. وحتى لو كان له حارسة قلب فأن البحر سيأتي عليه ويمد لسانه ويمحوه.. كل هذه الأمور افتراضية حتى لا نظلم البحر.
يقف من جديد على نفس هواء جديد.. يصرخ بالمكان، ينادي البحر، يبصر بالمكان من جديد، يرى منظرا لم يشاهده من قبل على مناطق قريبة من الشاطئ رغم زيارته المتكررة للبحر.. كومة من الحجارة والقبور القديمة.. راح يسأل عنها.. هل تحدث عنها أستاذ التاريخ.. لا يتذكر، لا يصل إلى جواب، إلا أنه قد بيت سؤاله في ذهنه حتى يسأل جده صالحا عن ذلك المنظر.. صاحب العقود الثمانية من العمر.
يعود وديع إلى البحر، وقد ألمت بجسده رعشة إحساس تنطوي على الأسى، وهو لا يدرك هذا الشيء.. ربما مجرد شفقة على البحر.
يخلع عليه فرحه.. تارة وحزنه وقلقه تارة أخرى، مثلما تخلع طفلة بريئة كل إحساسها ومداعباتها في حضن أمها، وككل مشاعر مراهقة وكل رغبات أنثى وكل طموحات إمراة في كسب حنان رجل شرقي، وهو ما يزال بهذه الحالة يخترق بهذا الهم كهولته، وهو في عمر براعم الورد من وقت إلى آخر.. هذا المخلوق الذي ينعش فيه ذاكرة الروح والجسد.
إنه ذلك الحنين إلى الماضي والوقوف لحظات صمت مفكرا في حركة الكون والأشياء.. ذلك الشوق الذي لا يهدأ بداخله.
للبحر.. في كل نفوس البشر دلالات رائعة التناقضات، جميلة الصور.. مليئة بالحياة والموت، الناس يصطادون السمك، ويستخرجون المعادن منه.. كما أنه يحترف لعبة الموت.. إن لم تكن هواية.
لم يدرك وديع يوما من الأيام إلى الكتابة والشعر، لكن رمل البحر كان ورقة بيضاء كبيرة متناثرة على رطوبة الرمل، وعلبة الحبر المنداحة بكبرياء على إحدى صخوره الرمادية الصغيرة.. وهو يمشي بخطواته الثابتة الواثقة.. كان يكتب ألف قصيدة وقصيدة وسيمفونيات العشق الخالدة لأرضه.
عقلية وديع مملكة واسعة الخيال، أفرادها وحراسها أفكاره البسيطة وخيالاته الغريبة وأدواته ذات الخصوصية التي يحبها.. وهو يدرك أنه سيرى البحر للمرة الأخيرة.
إن في البحر سرا أغرب وأكبر من كونه بحرا .. وأجمل من طائر نابلس الجديدة سلاف، فمساءات وديع الجميلة التي كان يعشقها سرعان ما كانت تتلاشى في غموضه.. أما قرص الشمس الأحمر الأرجواني الذي كان دوما يجذبه سرعان ما يلتهم احمراره فيسقط غائبا في أعماقه في لحظة المغيب المجنونة، وهو يستعد للعودة إلى القرية غير متناسٍ ذلك السؤال الذي اختزنه بذهنه عن طبيعة الأشياء وكومة الحجارة والقبور القديمة، ومن أي بلد جاء هؤلاء الغرباء الذين يختلفون بعادتهم وسلوكياتهم وألوان بشرتهم المختلفة حال لقاء جده صالح.
ذات ذلك المساء البلوري الطّلة الصافي الساحر، كان يفترش رمال البحر، وهو في حالة تناقض مع حركة عقارب ساعته، حتى لا يدركه الوقت في طريق العودة.. ويرجع بيته باكرا، إلا أن سحر البحر والمكان والإحساس الغريب.. يقول: ربما الزيارة الأخيرة لي.. يسرح بالبحر مرة أخرى.
وكل زوايا المكان ممتلئة بالحب، مفعمة بالفرح والسرور، وقد بدأ عمال البحر في الاستعداد لتنظيف ما خلفه زوار البحر من نفايات حاجياتهم.
وقد غاب وديع في لحظة من النوم مسيطرا عليه نسيم البحر أجمل احتلال ، ذلك التعب من عمل اليوم الذي اغتاله، وهو يستل روحه بغطاء ثقيل من الرمل الناعم.. إذ بعامل من العمال يركل وديع بعصاه، طالبا منه أن يفيق من نومه، لأن موعد إغلاق بوابات البحر قد حل.
وقد عرف العامل أن هذا الفتى عربي من شكله وملامح وجهه.. وهذا العامل العجوز ينحدر من قرية عربية قريبة من الساحل وهي قرية "جسر الزرقاء".
يسأله : من أين أنت يا فتى؟
يجيبه وقد أفزعه من نومه.. هيا ، هيا من أين أنت، وماذا تفعل هنا ؟ يرددها عليه مرتين وأكثر بصوت عالٍ شديد اللهجة، ولسانه العريض الذي يبعثر جسده في كل زوايا المكان كأنها أمواج تتمايل كخصر راقصة مخمورة.
يصرخ بوجه وديع، هذه منطقة خاصة باليهود السياح، من سمح لك بالدخول، وكيف دخلت هنا؟
أجابه وديع بصوت مبحوح وسرعان ما تشكلت على وجهه علامات الخوف والارتباك.. من البوابة الرئيسة، ومع الناس، واشتريت التذكرة من الشباك.. مجيبا.
صرخ بوجهه مرة ثانية وبطريقة أحد، هيا انهض وإلا.. وإلا ماذا قالها وديع.. أحضرت لك البوليس..
يتوسل إليه.. لا ، لا أرجوك.. أنا المعيل الوحيد لأسرتي.
صار هذا الزمن.. زمن تغير التاريخ وانقلابه على رأسه، وفقدان الانتماء وقطع الجذور عند نسبة عالية من عرب عام 1948م، وهو زمن رصد التحولات، وهؤلاء أبناء القرى العربية التي صمدت أثناء تلك الحرب المشئومة، حيث اتبع الغالبية العظمى منهم اليهود، وصاروا خدمهم.. وقد تبدلت معادلة أن تحب ما تملك إلى أن تكره ما تملك، وتسلم كل شيء ثمين مقابل أن تزيد نفسك ذلا وتواطؤا من أجل حفنة من المال القذر.
إلا أن العامل سرعان ما تدارك ما يقول، وقد بلغ من العمر السنين، ملاحظا تقاطيع وجه وديع المهزوزة، رافقا بحاله، جالسا إلى جانبه، محادثه..
لماذا تأتي البحر وحدك..ألا تخاف البحر ؟ ألم تدري يوما يا بني بأنه مثل طفل ماكر، يلتهم كل من يحبه.
مال الرجل برأسه، واضعا يده على كتف وديع مبتسما هذه المرة، قائلا:
لقد عملت بالبحر منذ كان عمري عشر سنين.
يا بني.. الكل منا يعشق البحر ، ويكرهه أحيانا.. أنا أقضي أغلب ساعات يومي فيه أكثر مما أرى أولادي وأصدقائي وجيراني وأحبائي.
يقطع على الرجل العامل حديثه...
ربما بحكم قرب قريتكم منه.. يسخر الرجل من حديثه مدبدبا على كتفه مثلما ينقر الحمام حبات القمح.. نحن نختلف عنكم، نحن لنا وطنان.. وطن الأرض، ووطن البحر.
يا ولدي، للبحر عوالم كثيرة نحن نجهلها أكثر مما نعلمها.
يحادثه وهو يفرك وجنتيه من سيلان العرق على وجهه مخاطبا وديع، لقد علمني البحر معنى الحياة، يكمل حديثه بتنهيدة عميقة، ربما لأنه لا يجيد القراءة والكتابة، لقد علمني أولى نغمات الكتابة – وأنا لا أجيد الكتابة ولا القراءة.
ومع البحر عشت نوعا من الأحلام، أنا كل ليلة أحلم بكوابيس بشعة لا تسمى حتى لا تفزع منها، لكن أنا أدري أنك تريد بعضا منها، مبتسما له وديع مجتازا حالة الارتباك والخوف التي ظهر عليها.. نعم متوسلا إليه.
العامل: هي صوت أمواجه.. تخرج منه هذه الكلمات خافتة، باهتة اللون..مكملا حديثه، لكنني كلما نهضت من نومي، أتحسر عليها، وأشعر بالحنين إليها.
تخيل يا وديع ! رغم قسوة الأحلام.. يبتسم ابتسامة صفراء تظهر على شفاه، قائلا أتذكر عندما كنت في ريعان الشباب أني طلبت من صديقي أن يكتب رسالة لحبيبتي ويذكر فيها البحر، ولقد تعهد لي في ذلك الوقت أن يكتبها.. وهذا ما حصل.. وباعتقادي أنها هي تلك اللحظة التي شعرت منها بالنشوة الحقيقية..معنى ذلك أن يعشق الرجل، لكن الفتاة لاقت حتفها في حادث طرق مروع، وهي عائدة من مدينة الخضيرة، وما زلت احتفظ بالرسالة..مضى على هذه القصة حوالي ثلاثين سنة.
يتابع حديثة ووديع في حالة ترصد لكل كلمة يتفوه بها العامل الشيخ، نحن نولد على هذه الأرض ونصبح شبابا ونشيخ، إلا البحر، البحر منذ قديم الزمان وهو على حاله، صابرٌ، مرابط على ساحل هذه البقعة الكونية، ولا تعتقد أننا نقدس اليهود.. لكنها الحاجة يا ولدي، منهيا حديثه، وطالبا في الوقت نفسه ألا يتأخر، لأن بوابة البحر ستغلق بعد دقائق عدة، تاركا وديعا يسبح في بحر التأمل.
وفجأة، يكتشف شيئا من أسراره، تنفجر بداخله كلمات كثيرة، لكن سرعان ما تدفن في أعماقه من جديد، وهو يفكر في عظمة هذه الغرفة المائية، وهو يكتب على رمل البحر حروفا لا تقرأ كما لو أنه مثل طفلة تعبث بأناملها على كرّاسة رسم، ويداه تفرك عينيه ، وقد تدفقت منهما الدموع، ودموع لا تعد، وشيخ كبير السن يعمل في البحر صار كغيره في هذا الزمن بلا عنوان.
لماذا لا يستطع وديع ولو للحظة إجابة العامل ابن بلدة "جسر الزرقاء" في البداية، كانت كلمات ذاك الرجل تشعل لحظات مميزة من عمر الكون، وتسكنه دهشة.
صارت حكاية وديع والعامل العجوز حكاية رملية، وقصة ذلك الرجل قصة هي بحد ذاتها قصة بحرية رملية متفردة، يترك وديع البحر من غير رغبة، راكبا سيارة الأجرة عائدا إلى مدينة أم الفحم التي تفصل مناطق الأرض المحتلة عام 48 و67 وهي المنفذ الوحيد والقريب لقريته، وكل ذهنه في البحر، وشعوره بأنه يطفو بقارب شراعي في عرض البحر.
ينطلق من أسئلة الطفولة ليدخل عالم البحر مجددا وهو محمل بالدهشة وهو في السيارة، محاولا الوقوف على أسرار العلاقة الكامنة بينه وبين شاطئ البحر...
وهو يسأل، لماذا صّب الله ملحا فيك ؟ّ !.. في كل الأزمان تبقى العيون ساهرة، فمن جهة البحر تأتي سفن الأعداء الغازية، وكذلك تلوح بشارة أشرعة الأحبة البيضاء بعد طول غياب، ومن جهة البحر تأتي سكاكين رياح الشتاء الباردة، ووحده في الصيف يخلع قميصه يطوح به خاليا في الهواء.. يكشف عن صدره الرحب الحبيب، يشرع ذراعيه الطويلتين، يحتضن الأجساد المشتاقة للضياع في أعماقه، يطفئ ظمأها، تترطب، تنتعش، تتقافز تتراقص مبتهجة.. تسبح بحمده !
لكن البحر قطع وعدا للتاريخ، وكان الوعد مشبعا بالآه، بعد أن حمل قطعان الغرباء على ظهره، وجاء بهم إلى هذه الأرض.
وديع في عمر الورد، ولا يعرف من أين وكيف نبتت به تلك الأسئلة، وهي تكوي جسده المشحون بشحنات الصدمة من عجلة التاريخ، وكم أصبح أسود اللون في نظره، وهو يلقي بلومه على البحر.. كم أصبح متآمرا في نظره.
عندما سأله ذلك العامل الشيخ عن اسمه، قال له: وديع.. كما ولو سيطرت على وجه الرجل حكاية قديمة، قائلا: اسم قديم منحوت على منارات البحار.. اعتادت عليه.
لا يعرف ولا يدري الإنسان كيف يأتي بالأسئلة الصماء، ولا كيف تنبت في عقله تلك المشاهدات والأسئلة والإجابات الافتراضية، تلك الأشياء المحروقة المكوية بلهيب أشعة الساحل الصيفية، وكيف يّضيع القبطان سفينته في عرض البحر... وكيف يسعى البحر جاهدا إلى لملمة ظله في وضح النهار.
يتذكر وديع بشكل غير عادي حديث جده سليمان.. أسئلته وتعليقاته على تلك الغرف المائية الطبيعية، وقد تجاوز وديع سنواته الطرية مع الحياة، وراح يوازن بين تعليقه على البحر، وتعليقات رجل هرم يعشق البحر.
" لماذا مياه البحر مالحة ؟!" وإجابات تقليدية: هكذا خلقها الله.. إلا أن وديع لم ترق له نظرية جده عنه.
فالله خلق كل شيء على طريقته، كما أنه خلق الإنسان بعينين اثنتين، والسماء مرتفعة عالية، والشجر أخضر، والعصفور صغير.. خلق مياه البحر مالحة.
والله لم يخلق الشر، وإن أصبحت كلمة الشر جامعة لها معان كثيرة يحترف الإنسان في ترجمتها على أرض الواقع، إلا أن الخير في هذا الزمن ظل بحالته الفردية.
وربما لهذا يلبس البحر ثوبا أسود في الليل، يُشعل فوانيسه القليلة، يئن ببكائه ؟ !.
هّم وديع في نفسه قائلا: لو كان خليل معي لشاركني رؤية البحر.. خليل في حياته لم يشبع من البحر مجالسة وسياحة، ولعبا، وتأملا، وتخيلا بعظمة قدرته المائية، ومعجبا برشاقته، مبهورا بشاربه الطويل الأرجواني، وشوقا لمسامرته، وحلما لرؤيته مرات عديدة، إلا أنه كان يكتفي برؤية المياه في غرف مصطنعة أثناء ذهابه إليها في الرحلات المدرسية، وقراءة قصص البحار سندباد، وبإصراره على متابعة المسلسلات البدوية والقبائل العربية وحبه لفنون الصحراء.
لأن خليلا لم ينم لمعرفة سلوكيات الماء الرجراج المتحرك، ولم ينم من جهة أخرى عن معرفة سلوكيات الرمل ومجرات الكثبان الرملية الزاحفة، ولا متاهات مستوى الرؤية البصرية التي تغرق في البحر.
تهمس في نفس وديع أحداثا كثيرة، مخاطبا البحر قبل عودته إلى قرية عانين.. أريد أن أشبع منك يا من ملكت قلبي، وهو في لحظة نسي أن يحضر زجاجة ماء من مائه، من تلك اللحظة تأكد أن البحر هو صاحبه الحقيقي والأحب، ذلك الساحر الأزرق الشاسع المتلألئ الذي حار به، رغم موقفه، تاريخه، ولا يستطع منه فكاكا. ولا يريد أن يقطع صلته به.
حتى جيب وديع وحقيبته التي يحمل بها البضائع غير قادرة على حمل البحر، ولا حتى في قلبه.. لأن البحر جامع قلوب العشاق جميعها، طالبا منه ومتوسلا إليه في لحظة تنطوي على الأسى أن يطمئنه على صحته وعافيته حين يصل بيته مع نوارسه ذوات الأجنحة المكسورة.
ويستبيح وديع طيف الحياة قائلا:
" سأشتاق إليه يا وطني، وإلى وجه أمي، وإلى غلال القمح، وإلى شمسه الحارقة، وإلى دفاتري المدرسية، وإلى مملكة البحر".
ولمّا خلص من حديثه سلّم عليه ، وقرأ عليه السلام.. سلام يا صاحبي..
لا يقفل البحر يوما بابه بوجه العشاق والمحبين والمخلصين والثائرين على النفس وخلجاتها وسيئاتها، أبدأ ظل وديع هناك، نائما على ظهره، يحلم كأنه صخورٌ مرجانية، رمادية اللون ثابتة، محبا، وفيا، طبيعيا صافيا نقيا، إلا أنه عاتبه مرة واحدة في عمره، يوم تغير عليه لونه، وقَلب إلى ذلك اللون المشئوم الأسود.
في تلك الفترة من عام 48م، تغير لون البحر، يوم احتقن وأصيب بإعياء شديد، عندما أجبر على أن يحمل الغرباء.. البحر في نظر وديع مجبر ومكره على فعل عمل لا يريده.. يوم بدأ ذلك النهار بالأزرق وتحول بنفسجيا، برتقاليا.. اشتعل البحر ظلما.. وبالنهاية فاض بلون الدم...
وحكاية وديع ككل حكاية رواد البحر، ذلك أنه يهب رزقا، ويضع موتا، ويستريح بينهما الشاب الوديع كالشيخ العجوز.. وأصبح هؤلاء أصحاب البراءة مقاولي أحزان، وعذاب ويحترفون، ويستخدمون تقنيات العذاب بإتقان شديد.
وكما لو أنها صفة خاصة تختلف عن أشياء الطبيعة بأنها أكثر قسوة، أنها تفتئ الوحدة البصرية، والمادية عند تفكير الإنسان من الحياة، وموقفه منها.
لم يفكر لحظة واحدة عند البحر مردوده المادي من يوم عمله، وكم كسب من المال، وشعوره المقيت بأن تجارته بائسة، لأنه يعمل حتى يسدد ديون أبية المستحقة للناس من سنوات تجارته الفاشلة.
لأنه يعتقد أن البحر هو الوحيد القادر على أن يحمله إلى أفاق المستقبل الموعود، عند هذا المعنى فقط يمكن للمرء أن يتخيل إلى أي مدى يمكن ليد الإنسان أن تطال الأشياء، وأن تعبث بكتلة الوجود.. في هذا الكوكب الذي نحيا فيه وعلى وجهه.. على البحر تباعدت كل الناس.. على أطرافه تواجدت المدن، والحياة والحب والكره والخير والشر.
على ذرى مياهه وألوانه تباعدت كل المدن، ومدن تطل على الماء المتدرج الفيروزي الرجراج للبصر إلى الكحلي الغامض على اليابسة بلونها اللحمي المتدرج.. الرمل الوبري المستكين للرطوبة إلى الأشقر الحامل بسمة القدم والخلود.
ومثلما كانت اليابسة تربط مجاهلها إلى صدورها، لأنها تحب أسرارها قبض أطرافها.. كان البحر يختلق الموج ليبعد عن المريدين حقائقه الثاوية في عمق القيعان، وتصعب عليهم الرحلة.
مطلب ومنى وديع أن ينعم العالم بسلام، وتكثر قصص العشاق مع البحر.
ومثلما كانت القرية التي ينحدر منها وديع تغري بالنشوة والحب الريفي في الليالي المقمرة، فيرتفع البوح وتنغرز الأسرار في قمم الجبال، ويأتي الربيع قبل موعده،كان البحر يبدي قسوته في ضعفه، وينسج متاهته على مهل، وطمأنينة رقراقة على السطح، فتنسل حيازيم السفن تبدح الماء، يُسكرها مقدار من (اليامال)، تمسه نسمة غريبة تنوي في ظعنها المائي طي الأزرق، وسرقته لينكشف ستر الأرجوان السامي رمز اشتعال القلب – ففي الحب شيء من الجنة- وهو كحب سلاف للبحر.
عندها تسقط كل المجرات في نسج الإخطبوط... ويضحك البحر.. ومتى يضحك البحر قد يقتل !.
ويتراءى للمرء أن ثورات الرياح والعواصف والغبار وهيجانات الموج، وصراخ الرعود، وحِدة البروق، وتبدلات الضوء الواضح المبصر إلى الرمادي الأسود المضّلل.
هذه الثورات كانت ولا تزال انتقامات الطبيعة من الإنسان الذي سعى بجرأة الساحر ولا يزال.. إلى مصادرة الارتواء بين البحر والريف.. فلا البحر قادرٌ على وصل القرية ولا القرية المدنفة بقادرة على تحمل عطش الزيتون أيام الصيف اللاهبة.
البحر كان ولا يزال المفتاح إلى العالم الرحب، مثلما هي القرية الواقعة على قمة جبل مسنن وهي مفتاح إلى كل المجاهل.
ومن يرى البحر لا يتخيل أن على أطرافه البعيدة أمداء مفتوحة، قَدر ما يعتقد أن على تلك الأطراف مدنا وموانئ تضج بالناس والحياة، بخلاف قرية عانين التي لا يمكن تخيل حياة على أطرافها للبشر سوى أشجار الزيتون المحفوفة بمخاطر أسطورية.
وأي مصادفة أوقعت سلاف، وأسرتها في يد هذا الفتى المخلوط بالذكريات.. صباح مشرق جميل وفتاة تأتي من دمشق الصغرى "نابلس" من مدينة تنضج بالعشق والوئام، لم تلهب وجهها أشعة شمس البحر ذات يوم في هذا الجزء المنسي من العالم.
تأتي سافرة رائعة كأنها عروس بحر، ووحده البحر قادر على أن يصنع الحب، هو وحده إذا وهج الحب الذي زرع فيه للمرة الأولى.. ووجه الحياة لأناس يبعثون كل صباح عطلة للبحث عن العادة المفقودة في وطن معلب في علبة سردين.
وراحت سلاف تلعب، وتداعب البحر، وتحكي قصة رحلتها إليه لزميلاتها في المدرسة، وهي تأن في لحظة صمتها عليه، وهي تروي حكاية عادية.
وهدير الموج الذي يتهاوى أمامها ملأها سحرا هائم الزفرات، وبينما كانت الشمس تميل نحو المياه بتكاسل ممتع، وكأنهما يتغازلان بأجمل لغة من الهيام.. بل هما على موعد للاتحاد.. مما يعكس على الأمواج ألوانا هلامية تنتشر لترسم صنوان مرافئ فرح، وغابت في اللاوعي وهي تحكي قصته الذي طغى على الوجود من أمام عيناها، وهي تحس بأنها الحياة في لحظة حب ممزوجة بالحيرة المرتسمة على هذا الكوكب... فحنت إليه.. إلى عالمه، إلى سحر وجوده.
حنت إلى العينين المتعبتين، وهي تأخذ صورها التي التقطتها في البحر، وتأخذ كل صورة على حدا، لترتسم فوق عيناها مياه البحر وتملأ وجهها الجميل، والوجود كله، وهي تقبل صورها.. تتقاذف أمواج البحر ثائرة من صورها، فتقبلها مرة ثانية.. فتنعش ذاكرتها يوم أن كانت الشمس تتلاشى خلف المياه مخلفة وراءها إحساسا بالحسرة، وبقعة حمراء خافتة.. أحست بالأسى للحظة للأشياء الجميلة التي تمر سريعا كومضات الضوء.
كان كل شيء يرحل من أمامها، وديع يرحل عن البحر، وهي قد رحلت من وقت بعيد، والشمس والمياه الراكدة ترحل في لحظة واحدة، وهي تتأمل صمت البحر وحيرته وبحبها له... وهي تعيد جمع صورها من جديد وحفظها في خزانتها الخاصة.. لكن العالم الجميل لا ينتهي مع أي رحيل عن البحر.
لأن الناس كلهم في ذلك الوقت قد ذهبوا للبحر وعايشوه وصاحبوه وكبروا معه.. إلا أن وديعا عكس سلاف تماما، فقد تحدث عن مقدار ما كسبه من يوم عمله، وصار البحر عنده يوم أقل من عادي، رغم معانيه الكثيرة التي عرفها واندهش بها، وهمه الوحيد تسديد الديون المتراكمة على أبيه، والحلم بحياة كريمة فقط، دون أن يتحدث عن تلك الغرفة المائية العجيبة.
وإن تذكر البحر ذات يوم في حصة الجغرافيا أمام معلم المادة الذي لم يزره طوال عمره، قال له وديع أمام زملائه الأربعين في فترة الدراسة الثانوية في مدرسة القرية " البحر عشقي العظيم، وأنا مبلل به منذ الطفولة".
وفي سنوات لاحقة، وقد نضجت الفتاة بسرعة فائقة، وقد دخلت الجامعة.. جاءت الصدفة على أن يلتقيا في عمل في مجال دراستهما.
وبمجرد حديثها عن البحر بمحض الصدفة خلال حوار طويل عن أخبار القسم والكلية.. حاقت وديع الصدفة من ذلك المارد المائي وتلعثم عن الكلام.
إلا أنه في صبيحة اليوم التالي أسمعها شعرا أمام حسنها البريء.. متغزلا بها، خجولا في الوقت نفسه.
لهواكِ أسرار وصمتك ساحر..
ألم تدري بأن البحر طفل ماكر..
وغاب في الزحام بعد أن قطعت عليه زميلته في الدراسة حديثه، وكما هي سلاف بحبها للشعر، قالت: لزميلتها سناء بطريقة تنطوي على الدعابة : "انت شو بفهمك".. وقد طلبت من وديع أن يكمل إلا أنه قد غادر مسرح العرض ذاهبا يقتنص المزيد عن عوالم البحر من خبرات (حنا مينة في روايته مذكرات بحار، وغابرييل غارسيا ماركيز في رائعته أجمل غريق في العالم).. وبهذا تنضج سلاف ومن معها من عوالم خفية في نظر وديع لأنها تعشق البحر، لأنها مثل حورية فائقة الجمال، وبيدها تمتلك القدرة على انبعاث الموج.
لكن، كان على وديع أن يقتل البحر يوم ذهب إليه، لأن سلاف ستظل تبكي وتنشد أسطورة البحر المحاصر.. وهي ما زالت تجهل حكايته.
سلاف ووديع... صارا على علاقة متبادلة مع البحر، هذه العلاقة التي تحتمل رومانسية الطرح، كما تحتمل علميته وأكاديميته.
البحر كائن أزلي متميز بفاعليته يحمله العشاق على عنصر التجديد.. في هذا الوقت المجنون والناس الذين يسكنون الحبر يهذون البحر.. وعاشقان اثنان يتحدثان عن قصة ذلك الطفل الماكر.
البحر سيظل هامشيا، ضيق الفضاء عند وديع عكس سلاف تماما.. وستموت وهي تزخر بحبها للبحر، وهو الهارب من الهروب.. المتمسك ببقايا العصور المنهكة.
لكن أي خنجر حفر قلب وديع، وأي أنشودة يريد أن يتغنى بها، أم هو إعلان التحدي على من عشق البحر، وأي موت سوف يسبق موت لحظة من العمر، وأسئلته التي أحضرها لجده ستوضع في سلة القمامة، وتلقى في لجج الإهمال.
وكما هو النور يمزق أحشاء الظلام، وليس نور الحياة الطبيعي وإنما عينا وديع، والحي بمن فيه بيته وغرفته.. ما زال ظلامهما منعكسا على عينيه.. كأنها سطور رواية "لفولكا" تفوح بعبث البرابرة وطموح اليأس وهمجية العشق.. ربما كل هذه الأمور لن تعفيه من مساءلة أمه.. لماذا تأخرت عن عودتك للبيت، وكم حصلت من مال بعد طول غياب....