قرابة
كلما رآه، في فرح أو ترح، قال بعد السلام والتحايا، بلهجته المختلفة أصلا كأنها تعتعة،
متأثرة بلفظ الفرنسية مكوّرة الشفتين:
تعال. أنا بخرفك وانت بتكتب.
كررها له حتى التفت. هل يسخر من الكتابة التي لا طائل منها ماليا؟ أم يتعمد هذه
الطريقة ليخبره شيئا من الخلف؟
يرد عليه موضّحا:
يا قرابة، القصص مش خراريف.
غالبا لم يقرأ له شيئا، مع ذلك وصلته الأمواج وثمة شيء من قلقلة وصدى.
بدوره له خرافيته. درس تخصصا نوعيا من الفيزياء وعندما عاد، غالباً، ضيّقوا عليه
في الجامعة، فلم يعمل محاضراً هناك، ولا شيء في تخصصه، الذي يحتاج دولة
متمكّنة حقاً ذات سيادة فعليه، ليعمل فيه.
أقرب شيء أن اقترح على أهل القرية مشروعا يزوّدهم بالكهرباء الرخيصة المستقلة
عن الكهرباء الاسرائيلية وسمسرتها العربية. طبعا طار صواب جميع "الكبار"، من
مختلف أنواع "الكبر"، في المحافظة بأسرها إذا لم يكن فلسطين كلّها. طاقة رخيصة
ومستقلة تهديد اقتصادي وامني واجتماعي للاحتلال والسلطة معا.
أعاد الدكتوراه مرّتين.
في الثانية لم يستطع اليهودي ذو الجنسية الغربية أن يحبطه. عاد ولم يجد عملا.
استدعته المخابرات الاسرائيلية وعرضت عليه أن يعمل معها، في مفاعل أو مختبر ما.
طبعا لم يقبل وعاد يخرّف الناس عما حصل معه. تمرمط إلى أن وجد وظيفة شكلية في
هيئة للطاقة والبترول (شكلية أيضا) حيث لا عمل فعليا وهناك حدّ من الراتب يعتاش
منه. في هذه الحالة، لا بد أنه وصل إلى نوع ما من التسويات (العامة)، مقابل العمل،
غالبا أن يلتزم الحياد العام.
ويخبره أنه يلعّب الشدّة، الورق، على الحاسوب طوال الدوام وأنه يظلّ يشرب القهوة.
لطالما كرّر أنه لو ظل راعيا ولم يتغرب فترة طويلة للدراسة والعمل حيث بقي عازبا
إلى وقت متأخرـ لكان أفضل له. لم ينجز شيئا بمقاييس الناس، فماذا تعني الفيزياء
النووية عند الجهلاء؟ وبالكاد لحّق نفسه وتزوّج وأنجب الأولاد.
أخبره، مسرّباً له فكرة، أنه يستطيع العمل في الفيزياء النظرية من بيته ولا يحتاج إلى
معدات. يسكت، يصرف وجهه، ولا ينبس بحرف.
وفجأة، على غفلة من السياق، يردّد كأنه حكيم أو هازل:
تعال أخرّفك، وانت بتكتب.
خراريفه يعرفها سلفا. يعيد بناء تاريخ البشرية وفق مادية/ علمية تشكك في الأنبياء
والنبوات وتجعلهم مجرد بشر جنحت الأساطير بهم -أو التطورات والحاجات- نحو
الدين. تمكّنت منه النزعة العلمية ولا يؤمن إلا بها كأنها إله، بينما عنده تظل نسبية
ومجرد أداة. يردّ عليه:
الكتابة ما بتطعمي خبز يا قرابة.