قراءة في رواية: «إلى أن يزهر الصّبّار» ريتا عودة
العشق ما العشق؟ تراه تلك اللحظة الخالدة لالتقاء توأميّ الرّوح، حين يأتي كلّ من طريق ويذهبُ كلّ من طريق، أسير ذاكرة من رحيق، انّما حرّ طليق.
هكذا تفتتح الكاتبة ريتا عودة روايتها «إلى أن يزهر الصّبّار» الصّادرة عن مركز الحضارة العربية في القاهرة. في مركز الرّواية، التي تقع في 176 صفحة، ثلاث شخصيّات رئيسيّة: رجل وامرأتان. كلّ فصلٍ من فصولها الثلاثة مكتوبٌ على لسان شخصيّة من هذه الشّخصيّات الثّلاث: آدم، حياة وحواء.
تبدأ الرّواية بالحكاية كما رواها بطل الرّواية، آدم، الذي يحكي قصة حبّه لحوّاء بلغة شعريّة عالية، كأنّها قصيدة روائية:
ذات قدر..
رأيتها..
وقعتُ أسير الدّلال في خطواتها..
غرقتُ في بحر أنوثتها..
لكنّ الحبّ أتى أكبر من كلّ القوالب، فاندلق..
كلّما كان الحبّ أكبر.. كانت الغيرة أعنف..
تبادلنا الاتّهامات المعلّبة..
أكلنا من أرغفة الحيرة وشربنا من مياه الغيرة، فأُصبنا بلوثة عاطفيّة انتهت بقرار أبي طردنا من القصر.. ثمّ ألقى بنا كلّ في بقعة لا يعرف واحدنا أين الآخر.
تستلهم الكاتبة قصّة حبّ آدم وحوّاء من الموروثات الدّينية، وتحكي على لسان آدم كيف راح يبحث عن حوّاء في كلّ بقاع الأرض، لكنّها اختفت تماما ولم يعثر لها على أثر. فظلّ يحلم بها إلى أن التقى بحياة، التي بزغت كما الشمس في حياته فأنارت كل خلايا اليأس بشحنات من الأمل.
بذلت حياة كلّ جهدها كي لا تعاتبه على حبّه الأول ولم تستفسر عن حوّاء يومًا، كي تتفادى الوقوع في ذات الوساوس القهرية التي وقعت فيها حواء. خمّنت أن الزّمن كفيلٌ بأن يجعل حبّه لها يمضي من قلبه. لكن، ظلّ هاجسٌ يؤرّقها: ماذا لو عادت حوّاء فظهرت في حياة آدم من جديد؟ سؤالٌ يبقى معلّقًا في ذهنها وفي أذهاننا نحن القرّاء، يثير الشّوق والفضول لمعرفة الإجابة.
إلى جانب قصة الحبّ بين آدم وحوّاء وآدم وحياة، تتطرّق الرّواية إلى مواضيع أخرى، منها سياسيّة واجتماعيّة، حبّ الوطن، الصّراع على الأرض، التّمييز العنصري والدّيني، النّفاق الاجتماعي، قضيّة الهويّة والقوميّة وغيرها. لكن، بالأساس، هذه رواية عن الحقّ والعدل والحرّيّة، محاولة التّمسّك بالحقّ والدّفاع عن الحرّيّة الشّخصيّة.
عندما تقرأ الحكاية كما روتها حياة، وهي تشكّل الفصل الثاني والأطول بين الفصول الثّلاثة، تبدو لك حياة، للوهلة الأولى، أنّها صورة للمرأة القويّة التي تنتفض على القيود، تدافع بشدّة عن كيانها، مشاعرها وقناعاتها، ترفض الانحناء للنفاق الاجتماعي والحبّ في العتمة، تناضل من أجل حرّيّة الاختيار في الحياة كي تحيا بسلام وتصالح مع نفسها ومع الآخرين، إلّا أنّني حين فكّرتُ فيها كثيرًا، وربّما رأيتُ فيها الكثير من ريتا، لكن، تساءلتُ: هل فعلت كلّ ما فعلت وضحّت بكلّ ما ضحّت من أجل آدم أم من أجل نفسها؟ هل كان ذلك دفاعًا عن مبادئها وقناعاتها أم دفاعًا عن الرّجل؟ وهل كان الحبّ يستحقُّ كلّ ما فعلت؟
آدم، الذي يمثّل الرّجل الذي لم ينكسر ولم ينهزم أمام الفقدان، بل نهض من حزنه واستمرّ في حياته، وفي سعيه لتحقيق طموحاته، فالتحق بالجامعة وقاد النشاطات والنّضال السياسيّ من أجل الوطن والحرّيّة الذين يؤمن بهما، وهناك يلتقي بحبيبته الجديدة، حياة، يتزوّجها وتولد لهما ابنتان.
أما حوّاء فهي تمثّل المرأة العاشقة، الغيورة، الحمقاء، التي تنذر نفسها لحبيبها مهما ضاع واختفت آثاره، ومهما فقدته تبقى في بحثٍ دائمٍ عنه وتعيش على أمل الّلقاء به. طوال هذا الوقت تحاول أن تبقى متمسّكة بحلمها، أن تبقى على قيد الحبّ وتجد الرّجل الذي سكن قلبها وروحها، تحيا لأنها تحبّ آدم، لا تهتمّ بمصلحتها ولا راحتها الشّخصية، لا يشغلها ذلك، انّما تستحوذ عليها فقط فكرة أن تكون بالقرب من آدم، وأن يدرك أنها بحثت عنه وأنّها حاربت من أجل الوصول إليه، كي تكون له عونًا، وهي مستعدّة في كلّ لحظة أن تضحّي بنفسها من أجله. والسّؤال الذي يراود الذهن: هل يستحقّ الرّجل كلّ هذه التّضحية؟
الرواية، كما ذكرت، مكتوبة بضمير المتكلّم، على لسان الشّخصيّات الثّلاث التي تروي الحكاية من وجهة نظرها. هذه التّقنيّة التي تسمح طوال الوقت بوجود فجوة بين ما تعرفه الشّخصية الرّاوية وما نعرفه نحن القرّاء. لذلك، حين قرّرت حوّاء ترك دير الرّاهبات الذي لجأت إليه، بحثًا عن آدم من جديد، دون القدرة على العودة إلى ذلك المكان الذي كان مأوى آمنًا لها على مدى سنوات وحدتها ووحشتها، احتواها وساعدها كما لم يفعل أحدٌ من قبل، ذهبت لتجد آدم وتكون له عونًا في مأزقه، دون أن تعرف ما نعرفه نحن القرّاء عن مدى حبّه لزوجته الجديدة، والتّضحية التي قامت بها حياة لتكون مع آدم. في تلك اللحظة، يشعر المرء برغبة في إمساكها من كتفيها وصدّها عن فعل ذلك، وإفهامها بأن آدم لم يعُد يحتاجها، لم يعُد يحتاج عودتها، لأنّ ذلك سيربكه هو وعائلته. لكنّ لحظة عودة حوّاء للقائه من بعيد، لحظة التقاء العيون في قاعة المحكمة، لا شكّ كانت من أكثر اللحظات تأثيرًا في الرّواية.
الرّواية مليئة بكميّة كبيرة من الاقتباسات والمقولات الفلسفية، التي أشارت الكاتبة إلى مصادرها أحيانا، وأحيانا أخرى لم تُشر، كما تحفل بمقاطع من قصائد وأغنيات واقتباسات من الكتب المقدّسة إلى حدّ المبالغة، وربما تكاد تُثقل أحيانا على القارئ، وليس من المؤكّد أنّ لها دائما مبرّرًا في سياق القصة، انّما واضح أنّه نهجٌ اتّبعته الكاتبة. لكنّ القارئ يدرك أن بإمكانه ببساطة أن يمرّ على هذه المقاطع بتصفّح سريع ويفهم القصة دون قراءتها. أحيانا كنتُ أتمنى التّخلّي عن الكثير منها، لكن محبّي الشعر والنثر لا بد سيجدون المتعة في قراءتها.
ما يميّز هذه الرواية هي لغتها الشعريّة العالية، خاصّة في بداياتها، ثم تبدأ الكاتبة بالانتقال منها إلى لغة السّرد الرّوائي وتتحوّل إلى لغة تقريريّة في بعض المقاطع، خاصّة حين تتطرّق إلى المواضيع السّياسية، فتشعر كأنّك تقرأ خبرًا في جريدة، وذلك ما يُضعف الرّواية. لكنّ الرّواية جاءت في معظم أجزائها جميلةً وممتعة بشاعريّتها ولغتها الشّعريّة الجميلة التي تبرز شغف ريتا وعشقها للّغة العربية، وفي كل مرحلة من مراحل الرّواية، لا يمكن إلا أن تقدّر تلك اللغة وتلك الجدّيّة، الحكمة، والعمق الذي كُتبت به الرواية، وذلك الالتزام الأخلاقي والاجتماعي العميق في كتابة ريتا.
ريتا، التي قرأت غسّان كنفاني، غادة السّمان، نزار قبّاني، توفيق زيّاد، محمود درويش وسميح القاسم منذ صغرها، شدّتها كتاباتهم وتأثّرت بهم، صنعت صوتها الخاص بها، ونسيجها الخاص بها، لا شكّ تركت في هذه الرّواية بصمتها الخاصّة التي لا تشبه بها أحدًا، تميّزها هي دون غيرها، وأثبتت أنّها كاتبة وشاعرة قديرة ومتمكّنة من أدواتها وصاحبة مشروع أدبيّ خاصّ، مخطّط له جيّدًا وجدير بالقراءة والمتابعة.