قراءة في المجموعة القصصية «حكاية ملاك»
متماهية مع الواقع، غائرة في المتعة
أقدم هذه المجموعة القصصية الماتعة للقراء كقارئة فحسب، بعيدا عن النقد الأدبي أو التحليل والتأويل، إنما هو هاجس المتعة والغوص في الخيال، لأن الخيال درب التبانة للمعرفة.
تتألف المجموعة القصصية للكاتبة إسراء أبو زيد من 11 قصة قصيرة، تضم 96 صفحة من الحجم المتوسط 15-21 سم. ولقد اختارت الكاتبة أن تعنون مجموعتها القصصية بـ "حكاية ملاك" والذي هو عنوان القصة الأخيرة في مجموعتها القصصية.
أثناء القراءة لهذه المجموعة القصصية تجد نفسك سرعان ما ترمي بك إلى منعرجات مازجة بين الواقعية والتخيل والتراث، والتي تكشف الكاتبة الستار فيها عن بعض واقعية مصر ونسائه ورجاله وعن الحب الذي هو شعلة تتقد بها جذوة الحياة الإنسانية وروح المكان وزاد الرحلة، كما تسرد لنا عبر شخوصها تاريخ مصر ومحافظاته وعاداتهم وتقاليدهم والأعراف التي تسن قوانين بعض قراه ومحافظاته. وتلفت الكاتبة نظر القارئ للطبقات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والدينية التي تؤلف أطياف هذا المجتمع الرائع ليكون فسيفساء فريدة تختلف نظرة كل طبقة منها للأخرى.
إن أغلب القصص معجونة بطينة الواقع والذاتية واللغة واللهجة العامية أحيانا، طينة متداخلة ومركبة وفائرة وسلسة أعطت بعدا لكل معاناة الشخوص ومخاضهم بعدا إنسانيا محضا، والتي آثرت الكاتبة أن تجعل لغتها بسيطة مفهومة على مستوى الخطاب السردي لاستيعاب مستوى كل قصة.
على مدار 11 قصة تسرد الكاتبة لواعج نساء ورجال يشرقون بالحزن ويضيئون بالحب، عن أحلامهم التي أجهضت في مهدها وصارت غبارا تذروه الرياح، عن ذاكرة موشومة بالألم حركتها كحركة البحر والواقع في تعقيداتها، أمواج متلاحقة من التناقضات والتمفصلات العاتية التي تحدث سجالات داخلية في الشخصيات المُركبة التي تحب التضاد.
وتنساب أحداث كل قصة انسيابا جاعلة الأدب في قلب العلاقات الإنسانية المشوبة بالغوص في الذات عاكسة مرآة النفس التائهة في كهوف الغربة المعقدة، المتمسكة بأذيال الأمل هذا الأخير الذي يصير أحيانا في بعض قصص المجموعة القشة التي قصمت ظهر الأحلام. وغالبا ما يتحف القدر الشخصيات برحلات متعددة لتكتشف أغوار نفسها التي تمتلك وجوها متباينة تعيها حينما تطأ أقدامها أرضا لم تحط الرحال بها من قبل.
ولقد نمنمت الكاتبة سرد الحكايا نمنمة بديعة زاوجت فيها بين الواقع والعادات والتقاليد والأعراف التي تأسر العديد من العائلات، والتناقضات الصارخة في عوالم النفس والمنتفضة بزفرات الرؤى الوجودية الواقعية.
لترفع الكاتبة الستار عن تاريخ مصر وبعض محافظاته وعن وجه الصعيد الحازم الشديد الذي يقدر الغريب ويحترم الضيف، تبين ثخومه وأغواره ذلك الوجه الطيب الخجول المتجرد من بهرجة المدن المكتسي بالكرم وعذرية أراضيه الفائرة بالجمال والخصب والقوة، بروح الشجر، جمال يمزج بين رقرقة النيل على صفحة سمار سوهاج ووجه يثأر لكل من قطف (الدقاشة) الخاصة به دون إذنه، وانتهك قدسيتها، لا يهم كم من الدماء ستروي عطش الثأر الذي لا يمتشق كبرياؤه إلا بخط دم يُضَخ في عروقه لتكتمل صورة أفيائه بالأنفة والرجولة الكاملة.
بين ضفاف هذه المجموعة القصصية تسترسل الكاتبة في الحديث عن الحب وتشير إلى أن الوقوع فيه ليس اختيارك أنت إنه اختيار يخص عالم القلب الذي لا قوانين له لا خطوط حمراء لا منطق لا عُمْر لا مكان ولا زمان، لا فوارق اجتماعية أو علمية أو اقتصادية أو دينية، إنه الطوفان الهادر إنه الحب، ذاك المنعرج الذي لا مكابح لعجلاته في علاقة الرجل بالمرأة إنه السياسي المحنك والربان الماهر الذي يقودك إلى النجاة أو الهلاك، الساحر الذي زرع وهم الرؤية في قلوب عذارى حبلن بالأحلام وأنجبن البؤس والمرار باسم الحب من أجل الحب فقط الذي انتهك حُرماتِهن وأنجبن به ويلات وخيبات ملقاة على الأرصفة متشردة في شوارع البؤس قاطنة في ملاجئ الوصم بالعار بقبلات جافة لم تمطر ربيعا قط، بل إنه الالتقاء الخريفي المتأخر مع الربيع الصاخب الذي لم تنضج ثماره بعد، وحالما تكتمل لوحة الجمال في الحب يأتي هادم اللذات برشقته الصاروخية فراق أو موت، وتلقي الكاتبة الضوء على أغوار المفارقات المضنية في علاقة الرجل بالمرأة، والآهات الدفينة في سرداب التناقضات المتلاحقة وذكورية المجتمع العربي والنظرة المقيتة للمرأة كأنها قطعة من أثاث البيت ليس لها فكر وكيان مستقل، ليأتي شرخ الطلاق ذلك الخنجر الذي يطوي عمر الزهور في غمده.
لتنهي الكاتبة مجموعتها القصصية ب "حكاية ملاك"
الحب الذي غدرته القلوب العجفى وهرمت الإنسانية على مداره، وشاخ على سواري السفن وصار عرجونا في وجه القمر.
وأنهي هذه القراءة بجملة تسربلت على لسان الكاتبة الرائعة إسراء أبو زيد:
"الإنسانية دين يا عم ملاك".