الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمد العمراني

فلس.. الطين

يستظل الشيخ عواد من حر الشمس بشجرة زيتون قرب وادي غزة، يقص شريط ذكرياته لأحفاده وهم متحلقون حوله، هو لهم مأوى الطين بحجم السماء، ووطنا بجذور الزيتون وطعم الزيت البلدي، يعزف لهم أجمل المقاطع، يلعب معهم لعبته المفضلة؛ (فلس الطين)، يزرع الأطفال المثابرون شتلات الزيتون فيجدون نقودا في وعاء الشتلة قبل زرعها، كانت عيونهم تبرق انتظارا للآتي، كل طفل يجمع فلسه ويضعه في حصّالة الطين خاصته، تكبر الشتلات وتكبر معها أوعية الطين، يشترون ويغرسون زيتونا جديدا، تنمو تفاصيل اللعبة، يبني لهم الجد مزيدا من حصالات الطين بالفلوس التي جمعوا، ثم يبنون منازل الطين، في لعبة لا نهائية.

أخذ الجد "عواد" نفسا عميقا من قرار دواخله، كأنه يحفر عن شيء منسي في جب قلبه، روى لهم حكاية زرقاء اليمامة. ثم قال: هذا الطين يا أحفادي، ليس بقعة جغرافية، بل وطنا وهوية، وندبة في الذاكرة، هذا الطين تكوين إرادتنا وصلصال طهارتنا، وشفاء حريتنا، انظروا ثمة في الجهة الأخرى حيث حدائق السرو والكرم كنا ننشد قصائد السلام والحب، ونعزف تقاسيم خالدات إلى أن بزغ شجر يتحرك نحونا، لم نصدق زرقاء بلدتنا، كانت أشواك الغرقد تنمو في كل شبر مجتثة البرتقال والصنوبر والزيتون.

في الجهة الأخرى خارج السياج، لم يكن من شيخ ولا أطفال ولا لعبة "فلس.. الطين"، ولا زرقاء ولا وطنا ولا هوية، ولا تكوينا، ذلك الشيخ الحكاء العازف عواد مجرد وهم أزرق، لم يكن سوى شبح متخيل، لم تكن من أرض، أو شجرة زيتون ،أو برتقال، أو صنوبر، كل ما هنالك تراب وأشواك وغرقد وقصائد مختلفة وأنقاض وطرقات مهدمة.

كان الصحافي كوهين مشتتا بين المدن والقرى الفارغة - إلا من أشباح المغتربين والراحلين - حاملا قلمه، متشبثا به كزئبق هارب، مثل من يقبض على جمرة مشتعلة، ارتبكت أفكاره، توتر ذهنه، لا يدري كيف يداري القلم، وكيف يكتب عن الهوية والذاكرة والحياة، أمور لم يكن ليملكها يوما، فكيف يتجرأ ويلتقط التفاصيل، وكيف له أن يحدس ما يحدث في الواقع سبقا صحفيا؟

قرفصَ على حافة صخرة وبقي يراقب مشهدا في صفاء تام لشيخ يحكي ويعزف على عود خشبي مصنوع من الأرز، استل كوهين من حقيبته مذكرته، ابتغى تدوين قصاصة ملهمة، تجول في دورب اليومي ومتاهاته، أخذ هاتفه، تفحص مواقع التواصل، قرأ نشرات الأخبار وبدأ كتابة مقاله القصصي:

رأيت - فيما رأيت- أحد الأجداد يلعب مع أحفاده لعبة غريبة، ويقول لهم: هذا التراب يا أحفادي، ليس بقعة جغرافية، بل وطنا وهوية، وندبة في الذاكرة، هذا الطين تكوين إرادتنا وصلصال طهارتنا، وشفاء حريتنا، هنا في حدائق الزيتون والكرم كنا ننشد قصائد السلام والحب، إلى أن بزغ شجر يتحرك نحونا، لم نصدق زرقاء بلدتنا، كانت أشواك الغرقد تنمو في كل شبر مجتثة البرتقال والصنوبر والزيتون. هذه الأرض لنا وليست للأعداء، سنخضبها بألوان السلام، ونحمل أفنان الزيتون ونرفع رؤوسنا وليخسأ العالم الأزرق.

توقف كوهين، تكهّن أن يدا خفية تسري بقلمه، وأن وجهَ الجد الفلسطيني دمغ ذاكرته بلا هوادة وتبدى له قَدَرًا طافحا، كأنه يسكن قلمه وفكره وأوراقه، كان يسمع نداء عميقا وعزفا فريدا من تحت الأرض التي يقرفص فوقها، آخر الكلمات: أيها الغريب الذي يسمع النداء ويحل فيه صوتي، كيف تعيش بلا ذاكرة؟

أيها القراء العهدة على الشيخ الذي كان يحكي للأطفال تحت شجرة الزيتون مبتسما حكاية فلس.. طين، ناشِدوا فيلسوف الطين ذاك إن استعصى التأويل، هو يدرك تماما أنه لما كان يحكي قصة الطين والفلس والإعمار وزرقاء اليمامة، كان يغزل ذاكرته، ليغذي الصغار برحيقها، ويدري أن الشمس لابد مشرقة، وأن الأطفال منتبهون بإمعان لما ستؤول إليه الحكاية، كما أنه متأكد تماما أن المراسل الصحفي الذي فرّ منه القلم رغم تمسكه به مثل زئبق هارب، قد توترت أفكاره وخبلَ حدسه فلم يستطع مداراة قلمه، ولا كيف يكتب عن الهوية والذاكرة والحياة والأمور التي لا يملكها؛ لذلك قرفص حائرا يراقب مشهد الشيخ، ويستل من حقيبته مذكرته وهاتفه ويكتب عن الجد عوّاد الذي تحلّق حوله الصغار يستمتعون بحكاية "فلس.. طين" وزرقاء في زمن الأعداء الجدد.

يدري الجد كذلك في حلقته الصغيرة تلك أن هذا المراسل جريء وقارئ أنموذجي لروجي جارودي ونعوم تشومسكي ونورمان فينكلشتاين وإدغار موران، وأن الحقيقة تنكتب من عمق جذور الزيتون، وأن من يملك الحاضر قد يكون وهما في المستقبل، وأن الذي يملك ذاكرة لن يتركها للنسيان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى