عَلَى مِثْلِهَا تَبْكِي السَّمَاءُ
إلى أختي هويدا
زهرة الروح التي قطفت قبل أوانها
ولما تزل تفوح بالعبير
| عَلَى مِثْلِهَا تَبْكِي السَّمَاءُ وَتَجْزَعُ | |
| وَتَبْكِي عَلَيْهَا الأَرْضُ حُزْنًا وتُفْجَعُ | |
| وَتَرْنُو وَرَاءَ النَّعْشِ ثَكْلَى شَوَارِعٌ | |
| تَئِنُّ عَلَى الصَّفَّيْنِ وَجْدًا وَتَدْمَعُ | |
| وَيَبْكِي جِدَارٌ مِنْ وَرَاءِ جِدَارِهَا | |
| وَيَهْذِي رَصِيفٌ فِي الطَّرِيقِ وَيَهْرَعُ | |
| وَيَغْفُو عَلَى الأَحْزَانِ خَلْفَكِ مَسْجِدٌ | |
| يَظَلُّ وَيُمْسِي فِي الضَّرَاعَةِ يَشْفَعُ | |
| يُحَلِّقُ عُصْفُورٌ أَمَامَ حَمَامَةٍ | |
| وَخَلْفَهُمَا سِرْبٌ يَحُطُّ وَيُقْلِعُ | |
| يَرُوحُ وَيَغْدُو جَانِحًا فَوْقَ قَبْرِهَا | |
| وَللهِ سِرْبٌ فِي السَّحَابَةِ مُسْرِعُ | |
| يَطِيرُ بَعِيدًا ثُمَّ يَهْبِطُ قُرْبَهُ | |
| عَلَى دَوْحَةِ الأَشْوَاقِ يَدْعُو وَيَهْجَعُ | |
| يَحِنُّ إِلَيْهَا الدَّوْحُ وَهْيَ بَعِيدَةٌ | |
| وَتَهْلَكُ أَرْوَاحٌ عَلَيْهَا وَتَصْدَعُ | |
| فَلا الصَّبْرُ يُخْفِي مِنْ عَذَابَاتِ أَهْلِهَا | |
| وَلا هُوَ يُبْدِي سُلْوَةً حِينَ تَفْزَعُ | |
| وَلِلصَّبْرِ غَايَاتٌ وَلِلْمَوْتِ رَاحَةٌ | |
| وَلَيْسَ إِلَى الْغَايَاتِ بَعْدَكِ مَطْمَعُ | |
| فَنِعْمَ مَمَاتٌ بَعْدَ طُولِ مَشَقَّةٍ | |
| وَبِئْسَ حَيَاةٌ بَعْدَ مَوْتِكِ تُمْتِعُ | |
| وَهَيْهَاتَ أَنْ نَحْيَا وَوَجْهُكِ غَائِبٌ | |
| وَنُورُكِ لا يَمْحُو الظَّلامَ وَيَقْشَعُ | |
| فَلا طَابَتِ الدُّنْيَا وَحُلْوُ مَذَاقِهَا | |
| وَعُودِيَ صَبَّارٌ وَكَأْسِيَ مُتْرَعُ | |
| تَسَاقَطُ مِنَّا أَنْفُسٌ فَوْقَ أَنْفُسٍ | |
| وَتَهْوِي رُؤُوسٌ تَحْتَهَا وَهْيَ تَخْضَعُ | |
| فَكَمْ مِنْ صَغِيرٍ بَاتَ فِي اللَّيْلِ صَارِخًا | |
| وَكَمْ مِنْ كَبِيرٍ يَسْتَعِيذُ وَيَرْكَعُ | |
| فَلِلَّهِ هَذَا الْمَوْتُ لَيْسَ بِرَاحِمٍ | |
| أَبًا بَاكِيًا ضَعْفًا وَأُمًّا تُرَجِّعُ | |
| إِذَا كَانَ مَوْتُ الشَّيْخِ قَدْ يُوجِعُ الْفَتَى | |
| فَمَوْتُ حَبِيبٍ فِي الثَّلاثِينَ أَوْجَعُ | |
| أَتَغْرُبُ شَمْسٌ مِنْ ضُلُوعِي عَزِيزَةٌ | |
| وَيُشْرِقُ نُورٌ فِي الْقُبُورِ وَيَطْلُعُ ؟ | |
| ثَقِيلٌ عَلَيْنَا الْمَوْتُ حِينَ يَجِيئُنَا | |
| وِلِلْمَوْتِ أَنْيَابٌ تَعَضُّ وَأَذْرُعُ | |
| يَمُرُّ عَلَيْنَا الْيَوْمُ لَسْنَا نُعِيدُهُ | |
| وَإِنَّا ـ وَإِنْ شِئْنَا الْخُلُودَ ـ لَنُصْرَعُ | |
| يُطَافُ عَلَيْنَا بِالْكُؤُوسِ مَلِيئَةً | |
| فَتَشْرَبُ إِنْ شِئْتَ وَإِنْ شِئْتَ تَمْنَعُ | |
| وَيَأْتِي الرَّدَى مُرَّ الْمَذَاقَةِ بَغْتَةً | |
| فَنَشْرَبُ كَأْسَ الْمَوْتِ حَتْمًا وَنَجْرَعُ | |
| فَقَدْ كَانَتِ الدُّنْيَا تُحِيطُ بِبَهْجَةٍ | |
| فَتَضْحَكُ أَرْوَاحٌ وَيَسْعَدُ مَرْبَعُ | |
| وَيَبْسُمُ وَرْدُ الرَّوْضِ حِينَ تَفَتُّحٍ | |
| فَتَطْرَبُ أَكْوَاخٌ وَيَهْنَأُ مَسْمَعُ | |
| وَنَقْطِفُ زَهْرَ الْقُطْنِ وَهْوَ مُنَوِّرٌ | |
| فَتَنْعَسُ أَهْدَابٌ وَتَرْتَاحُ أَضْلُعُ | |
| وَكُنَّا صِغَارًا لا نُفَارِقُ بَعْضَنَا | |
| تُسَابِقُنِي لِلْبَيْتِ لَهْوًا وَتُسْرِعُ | |
| وَنَصْعَدُ صَفْصَافًا وَنَقْتَاتُ تُوتَةً | |
| عَلَى جِذْعِهَا الْوَانِي تُهَفْهِفُ أَفْرُعُ | |
| وَتَضْحَكُ مِلْءَ الثَّغْرِ حِينَ أَشُدُّهَا | |
| وَأَحْمِلُهَا عَطْفًا وَلِلسَّقْفِ أَرْفَعُ | |
| تَرُدُّ يَدِي مَكْرًا وَتُبْعِدُ شَعْرَهَا | |
| وَتُلْوِي بِرَأْسِي جَانِبًا ثُمَّ تَدْفَعُ | |
| وَتَمْضِي تَحُثُّ الْخَطْوَ نَحْوِي تَشَوُّقًا | |
| وَتَرْجِعُ مِنْ خَلْفِي إِلَى حَيْثُ أَرْجِعُ | |
| فَكَانَتْ حَبِيبًا لا يُفَارِقُ مُهْجَتِي | |
| وَكُنْتُ أَخَا وُدٍّ يَصُونُ وَيَمْنَعُ | |
| فَمَا بَالُهَا صَمَّتْ عَنِ النَّاسِ أُذْنُهَا | |
| فَلا نَطَقَتْ حَرْفًا وَلا هِيَ تَسْمَعُ | |
| تَبَدَّلَ حُسْنُ الأَرْضِ حُزْنًا وَغَيَّرَتْ | |
| سماءٌ فضاءً وَالْحَدَائِقُ بَلْقَعُ | |
| تَفَرَّقَ شَمْلُ الأَهْلِ بَعْدَ تَوَحُّدٍ | |
| وَكَانَتْ تَضُمُّ الأَبْعَدِينَ وَتَجْمَعُ | |
| تُقَرِّبُ مَظْلُومًا وَتُبْعِدُ ظَالِمًا | |
| وَتُطْعِمُ مِسْكِينًا تَصُومُ وَيَشْبَعُ | |
| وَتَحْنُو عَلَى طِفْلٍ يَتِيمٍ تَضُمُّهُ | |
| إِلَى صَدْرِهَا الْحَانِي تَرِقُّ وَتُرْضِعُ | |
| وَتَأْوِي الأَيَامَى حِينَ تُغْلِقُ بَابَهَا | |
| رِجَالٌ عَلَى ضَيْمٍ تَعِيشُ وَتَقْنَعُ | |
| فَيَا لَكِ مِنْ أُخْتٍ يَعِزُّ وُجُودُهَا | |
| عَلَى زَمَنٍ فَيهِ الذَّلِيلُ مُمَنَّعُ | |
| يَفِرُّ ضَعِيفٌ ، وَالْجَبَانُ مُؤَمَّنٌ | |
| وَكَرَّ قَوِيٌّ ، وَالشُّجَاعُ مُرَوَّعُ | |
| يَصُونُ الذَّلِيلُ الْمُسْتَرِيحُ لِبَاطِلٍ | |
| وَمِنْ تَعَبٍ حَقُّ الْعَزِيزِ مُضَيَّعُ | |
| فَأَنْتِ ـ وَإِنْ حَنَّ الْفُؤَادُ ـ وَدِيعَةٌ | |
| يَجُودُ بِهَا رَبٌّ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ | |
| أَرَاحَكِ مِنْ هَمِّ الْحَيَاةِ وَجَوْرِهَا | |
| وَفُزْتِ بِرِضْوَانٍ وَوَجْهُكِ أَنْصَعُ | |
| يَطُوفُ عَلَيْكِ الصَّابِرُونَ بِجَنَّةٍ | |
| وَكَفُّكِ مَخْضُوبُ الْبَنَانِ مُرَصَّعُ | |
| فَطُوبَى لِعَبْدٍ فِي مَنَازِلِ رَبِّهِ | |
| يُمَازِجُ حُورًا فِي الْجِنَانِ وَيُمْتَعُ | |
| وَلَسْنَا ـ وَإِنْ شِئْنَا الْحَيَاةَ ـ خَوَالِدًا | |
| وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمَ الْفَرَاقِ يُوَدَّعُ | |
| فَلَيْسَ امْرُؤٌ يَسْطِيعُ رَدَّ قَضَائِهِ | |
| إِذَا جَاءَ مَنْظُورًا عَلَى الْبَابِ يَقْرَعُ | |
| يَدُقُّ عَلَيْهِ الرُّوحَ حِينَ يَرُدُّهَا | |
| إِلَيْهِ سَرِيعًا فِي يَدَيْهِ ، فَتُنْزَعُ | |
| وَإِنْ طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ عُمْرُهُ | |
| فَلا بُدَّ أَنْ يَأْتِي رَحِيلٌ وَيُسْرِعُ | |
| تَجِيءُ مَنَايَانَا عَلَى حِينِ غِرَّةٍ | |
| وَتَضْرِبُ مِنَّا مَنْ تَشَاءُ وَتَصْرَعُ | |
| وَتَنْشِبُ فِي الأَرْوَاحِ مِنَّا أَظَافِرًا | |
| وَيَدْخُلُ نَابٌ فِي الْعُرُوقِ وَإِصْبَعُ | |
| وَتَخْرُجُ رُوحٌ فِي إِبَاءٍ عَزِيزَةٌ | |
| تَذَلُّ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَخْشَعُ | |
| وَتَلْتَفُّ سَاقٌ فَوْقَ سَاقٍ وَتَرْتَقِي | |
| إِلَى اللهِ نَفْسٌ تَسْتَغِيثُ وَتَضْرَعُ | |
| وَيُحْمَلُ جُثْمَانٌ وَيُلْقَى بِحُفْرَةٍ | |
| يُوَارَى عَلَيْنَا بِالتُّرَابِ وَنُقْمَعُ | |
| وَيَحْثُو عَلَيْنَا فِي بُكَاءٍ صَدِيقُنَا | |
| وَيَنْأَى بَعِيدًا ثُمَّ يَسْلُو وَيَرْجِعُ | |
| يَضِيقُ عَلَيْنَا الْقَبْرُ حِينَ يَضُمُّنَا | |
| وَكُنْا نُغَنِّي فِي الرُّبُوعِ وَنَرْتَعُ | |
| فَإِمَّا إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانِ جَنَّةٍ | |
| وَإِمَّا إِلَى نَارٍ نُسَاقُ وَنُسْفَعُ | |
| فَلَيْسَ مِنَ الأَهْوَالِ لِلْمَرْءِ مَهْرَبٌ | |
| وَلَيْسَ لَنَا إِلا إِلَى اللهِ مَفْزَعُ | |
| فَلا تَحْزَنِي يَا أُمِّ إِنْ يَغْلِبِ النَّوَى | |
| وَإِنْ غَابَ نَجْمٌ أَوْ تَبَاعَدَ مَطْلَعُ | |
| سَتَطْلُعُ شَمْسٌ مِنْ دَيَاجِيرِ قَبْرِهَا | |
| وَتُشْرِقُ بِالأَنْوَارِ يَوْمًا وَتَسْطَعُ |
