عتبة المعرفة الأولى
قبل عدة أشهر وضمن البرنامج الدوري لنادي السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان، تم عرض مجموعة من مشاريع التخرج لطلاب المعهد العالي للسينما في القاهرة، ولربما من الجائر الحكم الآن على قدرات مخرجيها من خلال تلك الأفلام القصيرة، وفي هذه المرحلة تحديدا حيث لا زالوا في طور صياغة للرؤى، وبناء الشخصية، والأسلوب الإخراجي الخاص بهم، غير متناسين الإمكانيات المادية، والتقنية المحدودة المتاحة.
لذلك وإن جاءت هذه الأفلام في اغلبها متخبطة ومفتقدة إلى رؤيا واضحة، فهي تبقى أحكام غير نهائية، ولأعمالهم القادمة اليد في تغيير ملامح هذه الصورة.
من الأفلام القليلة المتميزة كان فيلم " شجرة التوت " للمخرج خالد حماد، وهو يروي في ربع ساعة عن ثلاثة أطفال، في إحدى قرى الصعيد يتجاوزون كل تحذيرات، ومنع الأهل لهم من الاقتراب من شجرة توت في طرف القرية، يقال بان جنية مؤذية تسكنها، اعتقاد عام يسود القرية، ثنايا فضاءاتها لا تنفك عن ترديده، فأنى ذهبوا هناك من يؤكده لا بل يرسخه، فها هو عجوز القرية الضرير، وذاكرتها لا يكف عن أن يروي للأطفال حكايا مختلفة عن فقده للبصر، في كل مرة كان الجني يقف وراءها، غير انهم رغم هذا وذاك، لم ينثنوا عن تجاوز المحظورات، رغم العقوبات التي تحل بهم جراء ذلك في كل مرة، ليجدوا أن تلك الجنية التي ما أن تمس إنسان حتى تفنيه، ليس سوى امرأة عجوز طبية تنصب لهم الأرجوحة، وتطعمهم من ثمار تلك الشجرة - شجرة لا تبوح بسرها إلا لمن حصنهم حلم، ورغبة في هتك الأستار.
فهولاء الأطفال دفعتهم شهوة المعرفة، وروعة الكشف إلى التمرد وعصيان الأوامر، كانت صلابة أقدامهم تكذب ارتعاشات قلوبهم، فارتادوا الأرض المحرمة، لاماطة اللثام عن سر هذه الشجرة، وسر الجنية التي تسكنها، فتناولوا ثمارها غير عابئين بالعقاب المنتظر. إنها نفس الشهوة التي دفعت بآدم وحواء إلى التمرد، وعصيان مشيئة الخالق بأكل ثمار المعرفة - العصيان شرط وعي الإنسان لذاته - فرسخت حقهما في الاختيار، وثبتت إقدامهما على العتبات الأولى للحرية، فكلما أبحرت القصص بعيدا عن مرافئها، نمت هالة غموضها لتصبح بحجم اغترابها، فلا تطال قداستها سوى تمرد يد لم تألف الطاعة بعد، لتحرر الذاكرة من وطأة التاريخ، فمن يعيد لتلك الذاكرة بصرها غير دهشة طفل تحمل العالم معها إلى تخوم المعرفة.