شهادة حول الشاعر عبد الناصر لقاح
أعرف الصديق الشاعر عبد الناصر لقاح منذ اثنتين وثلاثين سنة ، وتخليدا لروح هذه الصداقة الطويلة الأمد أقدم هذه الشهادة، القراءة الخارج نصية التي أعتبرها مدخلا أو عتبة لولوج عالمه الشعري.
ع
– عتبة اللقاء
في صبيحة يوم اثنين من الأسبوع الثاني أو الثالث من شهر أكتوبر من سنة 1978 فتح باب الفصل الذي كان يضم تلاميذ السنة السادسة من الثانوي ليدخله ضيف يحمل ييسراه محفظة جميلة خلته مفتشا للتعليم لولا ورقة محمولة في يمناه تعلن أنه وافد جديد على الفصل واسمه عبد الناصر لقاح.
أذكر هذا لأننا غالبا وفي هذه الفترة من الشباب لا نحمل كتبنا في محافظ جميلة مثل التي يحملها الوافد الجديد، ولكن في الغالب نتأبطها أو نخفيها تحت ملابسنا دلالة على ما كنا نظنه نزقا.
بعد أن سأل أستاذ العربية الوافد الجديد عن سبب التأخير في الالتحاق بالفصل، دله على مكانه الذي لم يكن سوى المقعد المجاور لي. ودعاني إلى إمداده بالدروس التي فاتته.
رحبت بمجاوري الجديد: أهلا بالسي عبد الناصر.
لقد انتقلنا إلى مدينة وجدة للتو وهذا هو سبب تأخري في الالتحاق بالمؤسسة.
ضحكت في داخلي لأن رد مجاوري علي كان بلغة فصيحة خلته للمرة الثانية طالبا مشرقيا.
بعد مرور الأيام والأسابيع كان السي عبد الناصر يفاجئني كل مرة بمفاجآت جديدة مثل اكتشافي قدرته الكبيرة على حفظ أشعار القدامى والمحدثين.
لكن المفاجأة الكبيرة كانت يوم عرض علي قراءة بعض أشعاره فاستغربت كيف لتلميذ لم يتجاوز السابعة عشر ربيعا يقول شعرا جميلا. وأنا الذي بالكاد أتقاتل من أجل حفظ نصوص شعرية مقررة لم أتذوقها حتى جاء هذا الشاعر الواعد فغير ذوقي ورؤيتي للشعر.
اكتشف الفصل كله بفضل الأستاذ السعيدي رحمه الله أن بين ظهرانينا شاعرا وتنبأ له بمستقبل شعري واعد ودعاني إلى ملازمته.
منذ اليوم الأول من لقائنا لم نفترق أبدا، حتى انتقلنا إلى كلية الآداب حيث كان لكل واحد منا عالمه الخاص، لكني كنت أتتبع نشاط عبد الناصر الشعري من خلال أنشطة الكلية أو من خلال أنشطة فرع اتحاد كتاب المغرب.
التحق بأرض الكنانة للدراسات العليا، والتحقت بالرباط للغاية نفسها. كانت تصلني أصداؤه الطيبة من هناك عن طريق الذين رحلوا معه إلى مصر. أو عن طريق أخيه الشاعر محمد لقاح. وكان من ثمرات هذه التجربة مجموعته الشعرية الأولى (اشتعال السرو).
بعدها التحقت بكلية الآداب بوجدة، والتحق هو بكلية الآداب بمكناس، وفي سجله مجموعة شعرية ثانية هي (ديوان الأرق). والتحاقه بمدينة مكناس كان بالنسبة لي قبل ذلك التاريخ، فقد سجل بحثه لنيل الإجازة تحت إشراف أستاذ من مدينة مكناس هو المرحوم عبد الله منير الذي توفي إثر حادث مروع معروف.
أدركت بعد هذه المدة الطويلة أن فراسة الأستاذ السعيدي لم تخطئ، فقد تنبأ بنبوغ شاعر اسمه عبد الناصر لقاح، ولكني لم أدرك أن فراسته كانت تتنبأ بالأكثر، فها هو الشاعر يقرن صفة الشاعرية بأستاذية من مستوى رفيع.
كنت أحد أعضاء اللجنة المنظمة لعكاظ وجدة الشعري منذ تأسيسها سنة 1996، كنت خلالها حريصا على استدعاء الثالوث المكناسي: علال الحجام – المرحوم بنسالم الدمناتي – ورفيق الدراسة عبد الناصر لقاح.
في كل مهرجان كان يحضره عبد الناصر كنت أكتشف حديده الشعري وهو يهدي إلي تباعا: شهوة الأشجار (1996) - جداول الروح (1997) - أشجار نصيرة الجذلى (1998)
كانت مؤتمرات الاتحاد أو المهرجانات الشعرية سببا آخر في تجدد اللقاءات بيننا، وفي كل لقاء جديد أرى ناصرا جديدا .
هذه نظرة مختزلة عن صداقة تزيد عن اثنتين وثلاثين سنة - أتمناها أن تدوم - تجمعت لدي خلالها مجموعة من الملاحظات عن تجربة عبد الناصر الشعرية أبدؤها بـ:
ب
– الملاحظة الأولى: التراكم الذي أنتجه عبد الناصر لحد الآن خمس مجموعات شعرية سبق ذكرها إضافة إلى مجموعة شعرية للأطفال بعنوان (مرية تضحك مرية تبكي)، ومجموعة من النصوص الشعرية التي لم تجمع بعد، إضافة إلى مجموعة من الرسائل والأبحاث العلمية في مجالات مختلفة.
هذا التراكم الإبداعي والنقدي يجعل اسم الشاعر عبد الناصر لقاح حاضرا في كثير من البيبليوغرافيات والأنطولوجيات والمختارات الشعرية الوطنية والعربية.
وليس لورود اسم الشاعر وبعض قصائده ضمن هذه المؤلفات البيبليوغرافية سوى معنى واحد هو حضوره في الساحة الشعرية الوطنية والعربية.
د
الملاحظة الثانية: يستأنس أغلب الشعراء – والشباب بخاصة – بوضع مقدمات لمجاميعهم الشعرية، وأكثرهم مدين لصديق أو أستاذ أو شاعر أو ناقد بتقديمه لجمهور القراء.
وخلافا للمعهود واقتناعا منه بأن الشاعر يقدم نفسه للمتلقي دون واسطة خلت مجموعات عبد الناصر الخمس من أي مقدمة.
وفي المقابل لا يرفض ما حرمه على نفسه فيقبل بطيب خاطر التقديم لبعض الشعراء الشباب إيمانا منه بضرورة تشجيعهم والأخذ بأيديهم، ونموذجنا هنا تقديمه لديوان (حروف للتحايل على العدم) لمينة عزة الحميدي.
ن
– الملاحظة الثالثة: تخلو مجموعاته الخمس من الإشارة إلى دعم مؤسساتي. فلم تتحمل أي جهة (كلية – جامعة – اتحاد كتاب – وزارة الثقافة ...) مسؤولية نشر أعماله الشعرية، وهو أمر ينم عن عفة الشاعر وأنفته، كما يكشف ابتعاده عن طرق أبواب التزلف والقربى.
ا
- الملاحظة الرابعة : تشير إحدى مجموعات عبد الناصر إلى ظاهرة الاشتراك في عمل إبداعي واحد. وهي ظاهرة معروفة ومتداولة. وفي الشعر المغربي نماذج كثيرة بين شاعرين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر.
والمميز في (جداول الروح) المجموعة المشتركة بين المرحوم فريد الأنصاري وعبد الناصر أنها ليست تجميعا لديوانين في عمل واحد كما هو معهود في الأعمال المشتركة غالبا، بل يضم قسما يشترك فيه الشاعران في نصوصه الشعرية. وطبيعة هذا الاشتراك في النص الواحد نادرة وصعبة.
ودواعي الاشتراك كثيرة منها الصداقة أو انتماء المشتركين إلى مدينة واحدة أو مؤسسة عمل واحدة أو مذهب فني واحد أو للتغلب على تكاليف النشر القاهرة.
لكن أمر الاشتراك في (جداول الروح) يفوق هذه الدواعي، ولا يمكن لأي كان أن يكشف سر هذه الجداول والأفراح التي سرت بين روحي الشاعرين.
ص
الملاحظة الخامسة: خلافا للذين لا يجدون أنفسهم فينتقلون كالفراشات بين هذا الجنس وذاك ويصبحون كمن له (سبع صنايع والرزق ضايع) أخلص عبد الناصر في إبداعه لجنس الشعر وللفصيح منه بخاصة.
ولم يمنعه إخلاصه هذا - وباعتباره باحثا جامعيا – من ‘سهامه في بعض القضايا النائية عن الشعر ، وهو أمر يؤكد انفتاحه على مجالات معرفية أخرى دراسة وبحثا وإخلاصه للشعر الفصيح إبداعا.
ر
الملاحظة السادسة: باستثناء ديوان الأرق هناك ظاهرة تثير الانتباه كثيرا، هي ولوع الشاعر عبد الناصر بالأشجار في عنونة مجموعاته لدرجة أطلق عليه صديقه وصديقنا الشاعر حسن العابدي مجنون الأشجار.
ويظهر هذا الولوع \ الجنون جليا من خلال عناوين مجموعاته:
– اشتعال السرو – شهوة الأشجار – أشجار نصيرة الجذلى
واللافت للنظر هنا أن عبد الناصر لا يعنون مجموعته (شهوة الأشجار) من خلال قصائد المجموعة ولكنه يختارها من قصيدة منشورة بالمجموعة الأولى.
بل إن العنوان يتكرر بين ثنايا نصوصه كما في قوله:
ويرحل في شهوتيها
شجرا عاليا كالوعود (من ديوان الأرق ص 40) .
ل
الملاحظة السابعة : يهيمن على عناوين قصائد المجموعات الخمس عالمان مقترنان:
عالم الأشجار: نقرأ في (مجموعة اشتعال السرو) القصائد التالية - شهوة الأشجار - ينافقني الورد سرا - اشتعال السرو - لوعة النرجس.
ونقرأ في (شهوة الأشجار): آخر الورود
وتتضمن (جداول الروح): ينافقني الورد سرا وهي قصيدة نشرت سابقا بالمجموعة الأولى.
أما (أشجار نصيرة الجذلى) فتتضمن: أشجار الأمومة – آخر الأشجار – شجرة الغزل – رسالة إلى شجرة – شجرة الهيام – شجرة الانسجام – أنفاسي على شجر الجسد – شجر الغياب – شجر التعويض
وعالم عبد الناصر الثاني من خلال عناوين قصائده: هو الأهل والأحباب والأصحاب.
وتتصدر الأم هذا العالم من خلال قصائد خاصة: أغنية لأم خالدة – أمي – له أمه ولي أجداث كل الأمهات – هي – أشجار الأمومة – آخر الأشجار.
وحضور الأم بهذا الحيز الأكبر في شعر عبد الناصر جعل بعض دارسيه يطلقون عليه لقب شاعر الأمومة.
ثم يأتي باقي أفراد العائلة:
الأب: من خلال قصيدة أبي( اشتعال السرو)
الابنة: من خلال قصيدة (سهير)
ابنة الأخ: من خلال قصيدة (حسناء)
الأخ الأكبر: من خلال قصيدة يحدث أن
الأخ الثاني : من خلال قصيدة الانطفاء
وأخيرا الأصهار والأصحاب.
قلت عالمين مقترنين لأن عالم الأشجار يقترن بعالم العائلة: أشجار الأمومة – أشجار نصيرة - أنفاسي على شجر الجسد ... أو لنقل إن كل شجرة تمثل فردا من أفراد الأسرة . وبذلك تتشكل شجرة العائلة.
ق
الملاحظة الثامنة: تسألني رفيقة حياتي كل يوم أتحبني: فأجيب مراوغا: الحب اكتشاف وليس اعترافا وتسألني أحيانا متى ستهدي إلي مؤلفا من مؤلفاتك، فأجيبها مراوغا ثانية حتى يحين الوقت. ولن يحين ذلك الوقت أبدا لأن الإنسان العربي بصفة عامة يتحرج في البوح عن حبه ويتحفظ في الكشف عن اسم رفيقة حياته، لذا ترى بعضنا ينادي رفيقته بكنى أو ألقاب من قبيل أم فلان أو أم فلانة.
أذكر هذا لأن صديقي عبد الناصر على النقيض مني تماما، فالحب بالنسبة له اعتراف، لذلك فهو لا يتحرج ولا يتحفظ في الإعلان عن حبه صراحة دون لف ولا دوران منذ نصوصه الأولى، وإن كان هذا الكشف مر بمرحلتين:
الأولى اكتفى فيها باللقب: نقرأ في مجموعته الأولى (اشتعال السرو): إلى زوجتي أم سهير التي وضعت بين يدي كل الاحتمالات الشعرية
المرحلة الثانية صريحة: نقرأ في إهداء المجموعة الثالثة: إلى نصيرة التي لم تدخر جهدا في نصرتي عاقلا ومجنونا تقديرا لهبتيها الرائعتين: سهير ومرية
ويجعل الشاعر عبد الناصر مجموعته الخامسة مجموعة خاصة بأشجار نصيرة الجذلى .وإهداء خاصا: إلى نصيرة وحدها.
وأسجل هنا الملاحظات التالية:
- حضور الزوجة يهيمن على مجموعاته الخمس كلها ولا يقتصر على العنوان والإهداء.
– من أسمى تجليات هذا الحضور أن تصبح أما ثانية كما في قصيدته أمي الأخرى.
– ومن أغرب الصدف هذا الترابط اللفظي المتين بين اسميهما.
فهنيئا لك بهذا الاحتفاء الصريح المعلن، وهنيئا لك بهذا الحضور المميز في أشعار عبد الناصر، التي خلدت اسمك كما خلدت أشعار العرب أسماء هند وليلى ولبنى وأميمة وفاطمة. وخلدت قيسا جديدا اسمه مجنون نصيرة.
ا
الملاحظة التاسعة: مجموعات الشاعر لم تنل حظها الكافي من البحث والدراسة. وأشير هنا إلى:
– نيل مجموعة شهوة الأشجار حظها الأوفر من الدراسة أكثر من أخواتها.
وأشيد هنا بالقراءات النقدية الجادة:
– خمس قضايا في ديوان شهوة الأشجار لبنيونس عميروش .
– قراءة في ديوان الشاعر عبد الناصر لقاح لأحمد لطف الله
– شهوة المعرفة شهوة الأصل: قراءة في شهوة الأشجار لحسن العابدي.
– مجموعتا (اشتعال السرو) و(ديوان الأرق) لم تنالا حظهما من الدرس والتحليل لسوء توزيعها أو عدم وصولها إلى القراء – في نظري - . لذلك فالشاعر مدعو إلى إعادة طبعهما .
– تغيب دراسة جامعة مانعة تشتغل بشعر عبد الناصر لقاح في كليته ، كاشفة عن مظاهر تطوره ، محددة عوالمه الذاتية والموضوعاتية ، مبينة خصوصيتها الممكنة. هي دعوة صريحة لرد الاعتبار لهذا الشاعر الأصيل.
ح
الملاحظة العاشرة: ظلت تراودني في سفري من وجدة إلى مكناس فكرة تكريم الشاعر عبد الناصر لقاح بمدينة مكناس، وساءلت نفسي لماذا لا تفكر مدينة النشأة والدراسة حيث الأهل والأحباب والأصحاب في مثل هذا التكريم والاحتفاء البهيجين، لكنني اكتفيت مهنئا:
قد اخترت الآن مدينتك
واختارتك مدينتك
فطوبى لك ناصرنا
وطوبى لك مكناسةَ الزيتون
وطوبى لنا أجمعين.