

شاعر الحزن العاقل وناحت المعنى بين الضوء والرماد

أسامة ملحم
1. مقدّمة: الشاعر الذي يكتب من داخل الجرح
في زمنٍ تتكاثر فيه القصائد وتقلّ فيه الأصوات الصادقة، يطلّ أسامة ملحم كصوتٍ نادرٍ يكتب من داخل الجرح لا من حوله.
هو شاعر فلسطيني من كفر ياسيف في الجليل، تشكّل وجدانه في بيئةٍ يتجاور فيها الحلم بالحقيقة، والذاكرة بالمنفى.
تجربته الشعرية لا تنتمي إلى الزخرف أو التزيين، بل إلى الصدق الهادئ، الموشوم بوعيٍ لغويٍّ نادر.
أسامة ملحم لا يكتب ليصف، بل ليطهّر.
قصيدته ليست ثوبًا من كلمات، بل جلدٌ جديد للحقيقة.
هو شاعر يعرف أن الشعر ليس ما يُقال، بل ما يُسكَت عنه.
2. ملامح السيرة والإبداع
من المؤكَّد أن أسامة ملحم واحد من أبرز الأصوات الفلسطينية في قصيدة النثر الحديثة،
وهو أيضًا من القلائل الذين جمعوا بين الشعر الفصيح والعامي بمهارةٍ تُبهر النقّاد والقُرّاء معًا.
شاعرٌ بالفصحى والعامية،
وكاتب نثرٍ متفرّد يكتب النصوص والمسرح برؤيةٍ تمزج بين الواقع والحلم.
له تجربة مسرحية لافتة في عمله “الشيء الأسود الكبير”، وفي نصوصه النثرية حضور درامي داخلي قوي، يُحاكي صراع الإنسان مع ذاته والعالم.
وإلى جانب قلمه، هو فوتوغرافيٌّ بالفطرة — يهوى تصوير الأزهار والنباتات، كما لو أنه يُحاور الجمال في أبسط تجلياته،
ويمنح الطبيعة عينًا تُدرك الشعر في ضوء ورقةٍ خضراء أو انحناءة غصنٍ صغير.
ولعلّ أجمل ما يُقال فيه قبل كل ذلك، أنه أخٌ غالٍ وصديقٌ عزيز، وإنسانٌ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى —
يحمل في سلوكه صدق قصيدته، وفي صمته تواضع الموهوبين الكبار.
3. أعماله وإرثه الأدبي
مدير مجلة “ميس” الثقافية الدورية، وعضو في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين.
صدرت له أعمالٌ متعددة، منها:
سادر، باب الريح، جرة ماء ورد، حبل الرحيق، رسائلها التي ظلت في الدولاب، الرساؤلات، كطاوي ثمان، بالإضافة إلى نصوصٍ ومسرحياتٍ ومقالات أدبية.
في ديوانه «الرساؤلات» — الذي أثار اهتمام النقاد في فلسطين وخارجها — يطرح ملحم تساؤلاتٍ حارقة عن الإنسان، العدالة، والخلاص.
فيقول:
“كل هذه الغلال في الحقول / ولا لقمة تسد جوع جائع؟”
بهذه الجملة الواحدة، يختصر معضلة العالم العربي بأسره: وفرةٌ في الشكل، وجوعٌ في الجوهر.
4. الحزن كمعرفة واللغة كأداة تطهير
عند أسامة ملحم، الحزن ليس بكاءً، بل طريقة في الفهم.
يكتب الحزن لا ليُثير التعاطف، بل ليجعلنا نرى الحقيقة من خلاله.
يُعلّمنا أن الألم قد يكون أداة وعيٍ أصدق من الفرح.
لغته تمشي على حافة الفلسفة،
وفي الوقت نفسه تحمل عاطفة إنسانٍ بسيطٍ يرى العالم من نافذةٍ صغيرة على القلب.
إنه شاعر الحزن العاقل — لا يتباكى ولا يتاجر، بل يُحلّل الحزن كما يُحلّل العلماء العناصر،
ثم يُعيد صياغته شعرًا يضيء العتمة من الداخل.
5. بين الغابة والرائحة: الإنسان الذي لا ينجو من نفسه
في نصّه الشهير «حين خرجنا من الغابة»، يكتب:
“حملنا أغصان الإزدرخت نمحو بها آثارنا، كي لا تلاحقنا الوحوش، فاستدلت علينا عن طريق الرائحة…”
الغابة هنا ليست الطبيعة، بل الذاكرة،
والوحوش ليست الخارج، بل الخوف الذي يسكننا.
حتى عندما نحاول النجاة، تفوح منّا رائحة ماضينا.
بهذا الحس الفلسفي المرمّز، يحوّل ملحم التجربة الفردية إلى تجربة إنسانية شاملة،
ويجعل من النص سيرةً رمزيةً للإنسان في بحثه الأبدي عن الخلاص.
6. الفوتوغرافي الذي يرى بالشعر
ما لا يعرفه كثيرون هو أن أسامة ملحم لا يكتب بالكلمات فقط، بل بعدسة الكاميرا أيضًا.
صوره للأزهار والنباتات ليست محض هواية، بل استمرارٌ لرؤيته الشعرية في الحياة.
في كل لقطة، يلتقط دهشة الخلق الأولى، وكأنه يقول:
“في زهرةٍ صغيرةٍ أكثر بلاغة مما في ألف بيت شعر.”
عدسته ترى ما تراه روحه:
الحنان في الضوء، الحنين في الورق، والدهشة في التفاصيل التي يتجاهلها العالم.
7. اللغة بين الصمت والانفجار
في قصائده، يختصر اللغة إلى أقصى درجاتها، ليجعل من الصمت شريكًا في المعنى.
كل كلمة عنده موضوعة كحجرٍ كريم في بناءٍ مدروس.
لا يستخدم الصور للتجميل، بل للنجاة من الفراغ.
إنه شاعر الاقتصاد اللغوي، الذي يثبت أن الكلمة الواحدة يمكن أن تفتح مجرّة كاملة من الإحساس.
8. الإنسان خلف الشاعر
ربما سرّ محبة من يعرفون أسامة ملحم أنه صادق في الحياة كما هو في القصيدة.
لا يتعالى، لا يتصنّع، لا يخفي إنسانيته وراء الأقنعة.
من يتحدث معه يدرك أنه شاعر قبل أن يقول بيتًا،
لأن في حضوره سكينة الشعراء الحقيقيين الذين يُصغون أكثر مما يتكلمون.
هو مثال نادر على من يجعل الإبداع أخلاقًا قبل أن يكون مهارة.
9. خاتمة: شاعر لا يطلب الضوء بل يصنعه
أسامة ملحم هو أحد الأصوات النادرة التي تكتب لتُعيد ترتيب العالم لا لتصفه.
في شعره تتلاقى الفصحى والعامية، الفكر والوجدان، الصورة والكلمة، والإنسان بكل هشاشته وجلاله.
إنه شاعر الصدق والعزلة والاحتمال — شاعرٌ يثبت أن الشعر لا يزال ممكنًا في هذا الزمن المرهق.
هو شاعرٌ بالفصحى والعامية،
كاتب نثرٍ ومسرح،
فوتوغرافيٌّ يُحبّ الضوء،
وصديقٌ يُحبّ الإنسان.
إنه ببساطة: أسامة ملحم… إنسان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.