

سلم الخاسر
وأنا اعتزم الكتابة عن الشاعر العباسي سلم الخاسر آليت أن أبدأ بالإشارة إلى أنني كنت انوي الكتابة عن المتنبي،لكن أرجأت ذلك إلى أجل آخر لسبب واحد وهو أن ديوان المتنبي لا يفارقني أناء الليل وأطراف النهار، وهو الآن معي في غرفة نومي رفقة ديوان أدونيس: (أغاني مهيار الدمشقي)، لِما أكن لهذين الشاعرين من تقدير واحترام، ولأنهما الشاعران المفضلان عندي،فالمتنبي هو القائل:
كم سألنا ونحن أدرى بنجد
أطــويل طــريقنا أم يطولُ
وأدونيس هو القائل:
أبحث في العيون الكحيلة
عن ريشة جميلة
شاعرنا اليوم من العيار الثقيل، وهو شاعر عباسي حتى النخاع، لا نعرف الضبط متى ولد ولا متى مات، لكن المرجح هو أنه مات قبل هارون الرشيد، وبما أنه كان صديقا لأبي العتاهية وصديقا للمغني الشهير إبراهيم الموصلي اللذين تعرف ولادتهما بالتدقيق فالمرجح أنه كان في سنهما أو قريبا من ذلك، وعليه تكون ولادته بين 120 و130 هجرية. وتوفي سنة 186 هجرية (المرجع:سلم الخاسر شاعر الخلفاء والأمراء في العصر العباسي ـ تأليفالدكتور نايف محمود معروف).
الشاعر هو سلم الخاسر، يرجع نسبه إلى حميَر باليمن، وسلم هذا من تلامذة الشاعر بشار بن برد ومن أصدقاء الشاعر أبي العتاهية. وقيل في سبب تسميته ب: "الخاسر" أنه ورث مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورا أو دفاتر شعر،ويقال أنه بعد ذلك مدح المهدي أو الرشيد وبلغه اللقب الذي لقب به فأمر له بمبلغ مائة ألف درهم وقال له:
كذِّبْ بهذا المال جيرانك،فجاءهم وقال لهم: هذه المائة ألف درهم التي أنفقتها وربحت الأدب، فأنا سلم الرابح،لا سلم الخاسر.
تجمع الروايات أن سلم كان شاعرا ماجنا، كمجموعة من شعراء عصره، وحينما مات رثاه أشجع السلمي قائلا:
يا سلْمُ إن أصبحتَ في حفرةٍ
مــوَسّــدا تــربــا وأحــجارا
فُـــربّ بــيــت حــسَنٍ قــلته
خــلّفتَه فــي الــناس ســيّارا
إلى أن يقول فيه وعنه:
لو نطق الشعر بكى بعده
عــليه إعــلانا وإســرارا
وكان سلم رجلا كريما، وكان يعشق احتساء الخمر ويتهافت عليها، يقول فيها:
وصهباء تعمل فــي الناظرْنِ
شربت على الريـق سَلسالها
وقد كنت للكأس والغانيات
إذا هــجَــر القـــومُ وصَّــالها
وسلم كان يتجلى إيمانه وصفاء عقيدته أحيانا،فها هو ذا يقول:
ولا تسأل الناس من فضلهم
ولكن ســـــل الله من فضله
وقد عبر عن مكانته الرفيعة وعزته القعساء غير مامرة ،فانظر إليه وهو يقول:
وكم قد رفعت ستر الملوك
وزاولت بالشعـــــر أزوالها
ونلت مجالــــس مشهورة
يُنالُ الكـــرام بمــن نالــها
ولما حصل بينه وبين صديقه الحميم أبي العتاهية شنآن كتب هذا إليه قائلا:
تــعالى الله يا سلْمُ بن عمرٍو
أذلّ الحرص أعناق الرجالِ
هب الدنيا تصير إليك عفوا
أليس مصير ذاك إلى زوالِ
فرد عليه سلم:
(ويلي على الجرّار ابن الفاعلة الزنديق،زعم أني حريص وقد كنز البدور وهو يطلب،وأنا في ثوبَيَّ هذين لا أملك غيرهما).
وكتب إليه يعنفه:
مــا أقــبح التزهيد مــــن واعظ
يــزهّــد الــنـــــاس ولا يــزهَدُ
لــو كـــان في تزهيده صادقا
أمسى وأضحى بيتَه المسجدُ
وإضافة إلى أبي العتاهية كانت له ملاسنة شعرية ـ إن جاز التعبير ـ مع الشاعر مروان بن أبي حفصة. حول الأعطيات.وحصلت مناوشة بينه وبين الشاعر أبي الشمقمق،وهاجى الشاعر والبة بن الحباب.
ولما قال بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتـــــــــكُ اللهِجُ
أعجب سلم بالبيت وتمنى لو كان له وظل يردده في خلواته ،إلى أن صاغه في قالب آخر قائلا:
من راقب الناس مات غما
وفـــاز باللــــــذة الجسورُ
فصار بيت سلم سائرا بينما بيت بشار أصبح خاملا،ومن ثم أقسم بشار أن لا يفيد سلم بأي شعر مستقبلا.
ونحن نتحدث عن الشاعر سلم الخاسر نشير إلى أن أبا محمد اليزيدي قال فيه:
عقّ سلمٌ أمـه سفَها
وأبا سلْم على كِبَرهْ
ويبدو أن سلم ألح على اليزيدي في أحد مجالس الفكاهة أن يهجوه ،ففعل هذا رغم ما عرف عن اليزيدي من تعفف عن الهجاء.
ونسأله الله تعالى أن يبلغنا ما نصبو إليه،فلا معوّل إلا عليه.