زياد العناني في ديوانه الجديد "شمس قليلة" ينقد سلطة الحقيقة
لم يغادر الشاعر زياد العناني في ديوانه "شمس قليلة" عوده الأبدي المتشكل حنيناً غامضاً إلى نقطة أقدم أكثر جمالاً في سيرة الفقد التي دوّنها في خمسة دواوين سابقة : "خزانة الأسف"، " في الماء دوماً وأرسم الصور"، " كمائن طويلة الأجل"، "مرضى بطول البال" و" تسمية الدموع" ، حيث تنسل حروف قصائده خيوطاً من حنين وبياضها نشيجاً لا ينتهي.
يبحث العناني في نصه الجديد عن مضامين شعرية مبتعداً – أحياناً قليلةً – عن فقده، فتراه يهجو الحرب التي تأتي على الغاية – رمز الطبيعة نقيض النظام الإنساني – كلّها، أو الطاغية حين يسقط مغشياً على الدولة ويمضي، إلاّ أن هذه المضامين لا تعدو كوْنها هامشاً لمتن أكبر، وهو هامش يرتبط أيضاً بشكل خفي بوجود يسقط أصدقاءً وأشياء حميمة...الخ.
وقد احتملت لغة الديوان أفعالاً تكثف الخسارات الموصوفة كالأفعال التالية: ذهب، فقد، بكى، غاب، سقط، ولّى، رحل، حنّ، تذكر، اختفى، مات، قتل... الخ، وتتكرر هذه الأفعال وغيرها مرّات عديدة وبصيغة المفرد والجمع والغائب والمخاطب والمتكلم دالة بهذا التكرار على حضورها اللاواعي في بنية النص، إضافة إلى المجازات والتراكيب التي تندغم في ذات البناء اللغوي للقصيدة.
يلتقط العناني عدداً من الشخوص الذين سكنوا ذاكرته زمناً ليعودوا إلى قصيدته عودة حارّة كأنهم يتألمون للتو: فها هو إسماعيل ينتحر بسقوطه من شباك العمارة ليترك المحققين حيارى، أو عبد الرحمن الذي طيّرت الهزائم العربية عقله وهو لا يزال يحلم بإمرأة! كل أولئك ويضاف لهم نماذج إنسانية أخرى قريبة وحيّة يحاول الشاعر بتذكرهم إعادة إنتاج مشهد الغياب.
فيما يحضر الموت في قصيدة العناني بقوة وفي مواضع عديدة، وهو في الأغلب انعكاس لإحساس عارم بالخسارة، شكل مادي ومعنوي، للفقد يأخذ أكثر من أسلوب قد يكون أشدّها مرارة في قصيدته "إلى سعيد الصالحي":
أقذعت في هجائك ليس لأنك تستحق الهجاء
فقط .. بل لأنك متّ من دون أن اعلم.
أي عليم أنا؟ وأي ملائكة حول ياقتي
ولماذا لم أدر بعد كلّ هذا الحزن
أن شمسك قد غربت لأنام ملء دموعي.
وكإشارة عميقة يتجه العاني إلى أصدقائه محاولاً تعزية نفسه بمقاربة مأساته كما في قصيدة "النائم قرب ثمالته" المهداة لإلياس محمد سعيد، أو في قصيدته "إلى أحمد راشد الثاني" حين لا يجد على جنبه الأيمن سوى قصيدة هي كلّ ما تبقى منها ومن لياليه المحرمة.كذلك في قصيدته "ذئب هرم ووحيد" التي رأى ألاّ تحمل إهداء لعلّه ساوى في لحظة ما بين صديقه الذئب وبين نفسه، حيث الذئب في النص بلا رجس وبلا خطيئة يعتدّ بها.
المرأة لدى زياد العناني تسكن في الغياب، وتتجلى في مقولته: "في الحقيقة .. لا شيء نحبّه ونحتفظ به"، فتراه ينقّب في نظرته للكون من حوله وفي معايشته لتفاصيل حياته عن الأثر التي تتركه المرأة لتدّل عليها فيهيم بذلك الأثر أو تلك الرائحة! عندها تظهر المرأة شاهداً أساسياًَ على خسارات زياد المتلاحقة، فهي رغبته المستحيلة ودليل ضعفه وألمه السرمدي.
وتبقى علاقة زياد مع المرأة في نصّه ملتبسة فهي أيقونة الجمال أو الرغبة التي يحلم بالاقتراب منها وتبقى بعيدة، وهو يساويها أيضاً بقصيدة مدللةٍ ناضجة، ولكنه يعود في لحظة نفسية مشحونة بمشاعر الانكسار إثر عودته بعد امرأتين إلى أمه في قصيدة "عربات ناقصة" يساوي بين الحب والقتل، كأنه يضمر بالمطلق الفقد كنتيجة أكيدة للحب:
سبحان عطرك يا البعيد
لماذا تركت للنساء فينا
أكثر من دعوة للقتل
تطلق في بادئ الأمر
على أنها من أجل الحب.
ويزاوج العناني بين صورة المرأة وصورة الوطن في كثيرٍ من قصائده لعلّه يرى في افتقاد كل منهما ذات القلق الوجودي، إذ يعيش المسافة بين واقع خالٍ منهما ومخيلة تفيض بصور مثالية، مستشعراً المفارقة التي تستوعب تماماً حالة الفقد كما في قصيدة "أعمال ليس":
ليس لي بلدٌ
ليس لي قبرٌ
وليس لي حتى امرأةٌ
إذا مت
تركض في الفراغ
مبددةً
نعيها.
ينظر العناني إلى الوطن كباعث لاستنفار الغرائز دفاعاً عن سلطة تأسر حريات مواطنيها، أو أنها تقيم حروباً يسقط فيها شهداء وضحايا بحثاً عن بطولة واهمة. فيتسائل في قصيدته "شمس قليلة" التي حمل الديوان عنوانها:
هل كان على حقٍ
هل كان الحق على حقٍ
في دولة الشمس القليلة؟
وتنفذ قصيدة العناني لرؤية نقدية عميقة وإن كانت تتخفى وراء مباشرتها وإستدخال أحداث ومراحل تنتمي للسياسة العربية والمعاصرة ورموزها داخل النص، فينتقد صورة الأب البطركية وسلطة الحقيقة المطلقة التي تلغي آخرها على الدوام في "شمس قليلة":
ماذا تريد يا أبي؟
في الشرق يبدأ الحوار
هكذا:
الآخر حين يموت
الآخر كيف يموت.
يعتبر كأس الشراب والحانات دالات عميقة على الرغبة بالبوح والمكاشفة، وصولاً إلى لحظة صفاء نادرة مع نديم أو فكرة ما يبكي عندها العناني على قابيله وهابيله معاً. فجلسات الشراب تبعث على تذكر سيرة الفقد كاملةً ومن ثم تبدو مفتتحاً مناسباً لكتابتها، يقول الشاعر في قصيدة "كأس دامعة":
الخيال نفسه
يتمطى هنا
ميزة أن تمرر روحك
في الجمال أو الخراب
قبل أن تترك بستان الكون منفرجاً
لشهوة الحطاب.
يستدعي العناني ماضيه عن طريق الذاكرة أو الحلم أو جلسات الشراب أو الحنين ومخاطبة الغيّاب وصورة الأب والمرأة الغائبة المنشودة، كل ذلك ليعلن أنه يفتقد الزمان والمكان الذي تعيش فيه الآن قصيدته.