رواية «سيدة الزمالك» لأشرف العشماوي
المكان الروائي ليس مجرد حيز هندسي أو جغرافي وإنما يتخطى ذلك إلى أبعاد أخرى عديدة. ولأهمية المكان باعتباره أحد أهم عناصر الرواية، والعنصر الذي يؤسس الحكي لأنه يجعل القصة المتخيلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة كما قال هنري متران، فقد أولاه أشرف العشماوي اهتماما وعناية بالغين في كتاباته عموما حتى أنك تجد المكان حاضرا بقوة بداية من عتبة النص الأولى في العديد من إصداراته من قبيل" تذكرة وحيدة "للقاهرة"، و "بيت" القبطية، وكذلك في رواية سيدة "الزمالك" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2018 والتي ـ لضيق المجال ـ سنتخذها نموذجا. كان المكان مهيمنا و حاضرا منذ اللحظة الأولى، من العنوان"سيدة الزمالك"حيث ارتباط الشخصية بالمكان من خلال حي الزمالك، ذلك الحي الراقي الذي يقطنه في الغالب طبقة ارستقراطية ودلالة ذلك من تكريس بعضا من سمات أشخاصه وطبيعة الصراع المتوقع في أذهان المتلقي، ناهيك عن المصداقية والواقعية التي يخلفهما في ذهن القارئ استخدام مكان حقيقي معلوم. يجب الإشارة هنا إلى ذكاء الكاتب في اختيار العنوان من خلال استغلال الصورة الذهنية المسبقة لدى المتلقي عن حي الزمالك الارستقراطي والإيحاءات التي يخلفها جراء ربطه بـ "سيدة" ليرسخ تلك الصورة المتخيلة لدى المتلقي. كان المكان حاضرا منذ السطور الأولى حين اتخذ من البدروم بعشوائيته وعتمته التي تشبه العتمة التي أصابت "ناديا" نقطة بدء وانطلاقة لرحلة السرد. هذا المكان"المغلق" الموحش ذَكَّرها بطفولتها لكنها هذه المرة لن تصطدم ـ كما كان يحدث في طفولتها ـ بالكراكيب التي خزنها أبوها على مر السنين بلا ترتيب حتى أنها بدت ككمائن تجبر من تقوده قدماه إلى المكان للعودة من حيث أتى، وكأنها وسائل حماية.
يمكن للمتلقي أن يقرأ المكان ودلالاته من خلال جمل وصفية قصيرة رشيقة، حيث الكتابة اللاتينية التي طمست والصدأ والأتربة والأظرف البيضاء التي بهت لونها كلها تكشف أثر الزمن المتغير على ذلك المكان "الثابت"، بينما الأوراق والملفات والأظرف البيضاء التي تحمل شعار النخلة واسم سولومون شيكوريل والمكتب الخشبي والدراجة البلجيكية والسرير الذهبي الذي يتجاوز عرضه الثلاثة أمتار كلها تشي أن المكان يعود لعائلة ثرية أصابها ما أصاب الدراجة الصدئة التي انكفأت على قائميها الأماميين ترثي غياب إطارها الأبيض، والسرير الذهبي المعوج الذي استند على ثلاثة أرجل والرابعة على قوالب طوب. هذا الانكسار لم يأت فجأة إنما سبقته فترة مرض وشت به مئات العبوات من علب الدواء القديمة التي كادت الأتربة تخفي معالمها.
علاقة المكان مع الشخصيات هي ولا شك علاقة تبادلية، ففي الوقت الذي منح الأثرياء من أصحاب الجاه والنفوذ حي الزمالك سمعته، وسُميت عزبة عبد النعيم بهذا الاسم نسبة إلى الحاج عبد النعيم المقاول، وأوبرج الأهرام الذي لم يوله احد اهتماما قبل أن يتردد عليه الملك فاروق ويصبح مكانه المفضل يصبح العثور فيه على منضدة لشخصين أصعب من دخول الجنة لشخصين قضيا عمرهما في استقامة. نجد المكان قد ترك أثره في الشخصيات في الاسم والثقافة والمظهر بصفة عامة، بل أنه امتد إلى الحالة المزاجية، فبعض الأماكن تثير الطمأنينة والارتياح أو ما يعرف بالألفة وبعضها طارد منفر يجلب الشعور بالاغتراب، وما يعتبر جاذبا للبعض يعتبر منفرا لآخرين. ويمكن أن نلمس ذلك بوضوح في النص،فكان عباس "المحلاوي" مثلا وشقيقته زينب نسبة إلى مركز "محلة مرحوم" حيث تقع قريتهم " الفؤادية" على أطرافه، وفؤاد "الاسكندراني" نسبة للإسكندرية، والحاج عبد النعيم القناوي نسبة إلى قنا والسفرجي بشير "النوبي" نسبة إلى النوبة، وخرج عباس من المدرسة الايطالية بقليل من الكلمات الفرنسية لكن بكثير من الكلمات "الايطالية" التي أجادها واتكأ عليها لاحقا في صناعة الحدث الرئيسي وهو سرقة فيلا شيكوريل بالزمالك، وتركت الكراخانة أثرها في عباس فصار يرى كل النساء مومسات، وحين بحث عن وظيفة لم يقترب أو يعمل ببيوت الدعارة بمنطقة وش البركة ودرب طياب رغم خبرته في ذلك. كما تطلب الأمر من زينب حين جاءت إلى القاهرة أن تغير من مظهرها الريفي، فبدلت طرحتها الصغيرة بإيشارب من الحرير الملون وارتدت فستانا من شيكوريل وحقيبة جلد وحذاء أبيضين حتى صارت قاهرية، من يراها يقول أنها لم تزر الريف يوما إلا إذا تكلمت، وتطلب الأمر لاحقا أن تؤهل نفسها وتتعلم فن الاتيكيت لتتمكن من الولوج إلى حي الزمالك والتعامل مع هوانمه. بينما لم يتخل شخصا مثل الحاج عبد المنعم القناوي عن جلبابه وعمامته وعصاه الغليظة.
علاقة المكان لم تتوقف فقط عند الشخصيات بل امتدت إلى الزمن حيث لا مجال لقراءة المكان بمعزل عن الزمان، فالقاهرة بعد أربع سنوات من الحرب ليست هي نفسها بعد أن تغير وجهها وصارت مدينة غريبة منهكة. ونادي الجزيرة في الخمسينيات ليس هو نفسه في الستينيات وما بعدها. ودنيا أحمد عدوية الزحمة ليست كما قبلها، وما كانت مكتبة لبيع الكتب ومحلات لبيع الزهور صارت محلات لبيع الأحذية.. اقتران الزمان بالمكان يمكن من القراءة الجيدة ورصد التحولات والتغيرات التي طرأت على المكان.
ثمة علاقة أخرى بين المكان والوصف،حيث لا تخلو رواية من وصف الأماكن وتقديم بعض المعلومات عنها بهدف معرفي أو لضبط الإيقاع وتعطيل حركة السرد، حيث تعد الوقفة الوصفية أو ما يعرف بالاستراحة ذات وظيفتين أحداهما جمالية والأخرى تفسيرية. ومن تلك النماذج في الرواية ذلك الاقتباس حين اقتاد عباس شقيقته زينب إلى مسيو آدمون لتتعلم كيف تمشي وتأكل وماذا تقول ومتى تصمت، والكلام هنا على لسان زينب: "ذهبنا إليه في حي الزمالك، شقة أنيقة في دور ارضي في عمارة جديدة كبيرة ترتفع خمسة طوابق، وجدنا باب الشقة مفتوحا و بها غرف كثيرة بلا أبواب، سيدات يرقصن أمام أخريات يتابعن باهتمام، رجل رقيع يتمايل معهن بليونة عجيبة، يرطن بكلمات لم أفهمها، رجال ينحنون ويسيرون في خيلاء أمام بعض الجالسين، بعضهم يقلد النساء بصورة مذهلة، ظللت مندهشة لا تقوى عيناي على الرمش للحظة..." في هذا المقطع لم يوقف الكاتب الزمن ليصف المكان فقط وإنما قدم لنا لمحة عن الانفتاح الذي يميز الفضاء الجديد الذي ستدخله زينب. الوقفات الوصفية عديدة في النص ومنها أيضا وصف زينب لنادي الجزيرة حين دخلته لأول مرة. ووصف الشوارع والأجواء قبيل خطاب العرش سواء في الزمالك أو في إمبابة التي بدا الناس فيها أكثر فرحا والأجواء أكثر صخبا.
ورغم تعدد الأمكنة في الرواية من أماكن منفتحة كالقاهرة والإسكندرية وحي الزمالك وإمبابة ونادي الجزيرة، إلى أماكن منغلقة محددة هندسيا كـ شقة عباس وبيته في الفؤادية، وأيضا ما يعرف بالمكان المعادي الذي لا يخضع لسيطرتك مثل السجن. و الكراخانة، ذلك المكان الفسيح المطل على الغيطان والذي يتردد عليه أناس أشكال وألوان ويخضع لسلطة الآخر ولا يستطيع أحد من قاطنيه السكن في قلب الإسكندرية ولا التجول بحرية في شوارعها،كما أن حُفره ضيقة لا تتسع إلا لطول رجل بالغ وشخصين متجاورين ويبيت عباس مع "سبعة" أفراد في أحد غرفه، حتى أنك تحار في تصنيفها بين مكان جاذب لطلاب المتعة وطارد لفتيات أجبرن على البغاء ومهادن كما هو الحال لعباس الذي لم يكره العمل فيه كما لم يحبه. وغيرها من الأماكن متعددة التصنيفات إلا أن الفضاء الذي تشكله تلك الأماكن مجتمعة يمكن أن يقسم إلى قسمين من منظور اجتماعي أو كما أطلق عليه " لوتمان" " الحد" والذي يفصل بين فضاءين أحدهما للأغنياء والآخر لباقي الشعب وقد عبرت زينب عن ذلك بقولها:" نقسم البلد نصين، حتة للباشوات والهوانم وحتة لمركز الشباب". وهذا يقودنا إلى أن المكان لدى الكاتب لم يتوقف عند بعد جغرافي يصف فيه بعض التضاريس ولا بُعد نفسي سواء بالألفة أو النفور والاغتراب وإنما أيضا كان البعد الاجتماعي حاضرا بقوة في النص.
فعباس الذي لا يملك إلا جلبابا واحدا، وجوربا به الكثير من الثقوب، وقميصا اشترته أمه من سوق المستعمل وبهت لونه على مر السنين وينتظره حتى يجف، وحذاءً ممزقا من الجانبين، حين رأى لأول مرة ما يمكن أن نطلق عليه الفضاء الآخر شعر أنه كان ميتا وتمنى "الحياة" الأبدية في هذا الفضاء الجديد، وعبر عن ذلك في هذا الاقتباس:
"انبهرت من كم القصور والفيلات والهدوء الذي يلف المكان بالتضافر مع أغصان شجيرات ضخمة، منثورة بكثافة لا تخلو من دقة على جانبي الطريق التي مررنا بها، وصلنا إلى بوابة حديدية ضخمة، بجوارها لافتة خشبية أنيقة مدون عليها بالعربية والفرنسية"فيلا قلب النخلة" وقتها شعرت أنني أريد الحياة هنا للأبد، طاف بذهني أن اهرب وأبلغ عنهم ثم أعمل لدى الخواجة شيكوريل بدلا منهم جميعا".
وكان رد فعل زينب مشابها حين جاء بها عباس إلى القاهرة لأول مرة، وقالت: " لم أتخيل أن الدنيا فيها كل هؤلاء البشر بملابسهم الغريبة وهذه السيارات وتلك الأبنية ولا كل هذه المتع". وحين هددها بالعودة إلى محلة مرحوم تشبثت بالبقاء في القاهرة حتى أنها وعدت عباس بالطاعة العمياء وقبلت يده من أجل أن يبقيها في القاهرة ولا يعيدها إلى قريتها.
إن المكان الروائي عند العشماوي يتجاوز الإطار الضيق المكبل بالجغرافيا والحدود الهندسية إلى فضاء أرحب، نابض بالحياة، مرصع بالدلالات، محفز للتأويلات. وهذا النص تحديدا يحتاج إلى مزيد من الدراسات لإجلاء مكنوناته واستخراج جمالياته.