دراسةعن ناصیف الیازجي ومقاماته
بقلم:
– الدکتورة سهاد جادري أستاذة في جامعة آزاد الإسلامیة فرع آبادان قسم اللغةالعربیة وآدابها.
و
– الطالبة ابتسام ناصر طالبة ماجستیر في جامعة آزاد الإسلامیة فرع آبادان قسم اللغةالعربیة وآدابها.
في هذا المقال نتطرق إلی حياة و آثار أحد بلغاء العصرالحدیث وأحد المشاهير و الأعلام في اللغة العربية فـي القرن الماضي، و من أثبت أركان النهضة الحديثة فـي المحافظة علی القديم، و تحدي القدماء. و هذا لا يكون إلا الشيخ ناصيف اليازجي.
المفردات الرئیسیة:ناصیف،التقلید،المقامة
المقدمة:
مرت البلاد العربية فـي عصور الانحطاط و جهل و تخلف أبان الحكم العثمانـي لها و انعكس ذلك علی اللغة العربية و الشعر و الادب بشكل كبير و لكن أبناء اللغة عزّ عليهم أن يروا لغتهم تنحدر و تنزلق و تغرقها الرطانة و الركاكة و الهزل فخرج منهم أعلام أدب و فكر راحوا يتدارسون قواعد اللغة و الأدب و اعتمدوا علی القرآن الكريم و المخطوطات و الآثار الأدبية و اللغوية حتی أرجعوا إلی العناد روعتها بمؤلفاتهم الادبية و الشعرية. و ما جمعوه من العلوم العربية و صارت أعمالهم هذه منارة تهدي الجيل و الأجيال اللاحقة.
حیاته:
هو ناصيف بن عبدالله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد الليازجي اللبنانـي المولد الحمصيّ الاصل. ولد فـي قرية كفرشيما من قری الساحل اللبنانـي فـي 25 آذار سنة (1800م-1214هـ). [1]
كان ناصيف نصرانـي من طائفة الرّوم الملكيين، و ترعرع فـي بيت ركن له العلم إليه، فألفه صغيراً. و توسم فيه والده ميخايل النجابة، فتعهّدة، بعنايته و لقنه أوليات اللغة و فنونها و حبب إليه آدابها. [2]
صفاته و اخلاقه:
و من صفاته و اخلاقه، كان معتدل القامة، فوق الربعة، ممتليء الاعضاء اسمر اللون حنطية، أشهل العينين. مهيباً، وقوراً، شهماً كاملا متواضعاً، متأنياً فـي حديثه، قليل الضحك، عفيف اللسان، كان سريع الفهم، قوي الذاكرة، حسن التدين بغير تعرض للمباحث الدينية و المسائل الجدلية.
أما محضرة فكان جليلاً أنيساً لكثرة رواياته و نكاته. إذا حدث أخذ بمجامع القلوب مع البساطة و تجنب الالفاظ اللغوية حتى أن من يسمعه قد لا يظن أنه علی شيء من العلم و كان ثابت الفكر لا يترود فـي أمر باشره لانه لم يكن يباشر أمراً إلا بعد التروى فيه. [3]
و لم يهج أحد و لا هجاه أحد و كان إذا ذكر أمامه أحد سوء أطرق و أغضی كأنه لم يسمع. فلم يسمع له فـي قصائده أو رسائله أنه هجا أحداً و قد قال فيه أحمد فارس الشدياق:
ما كان يجهو و لا يهجي و لا حجبتذكا قريحته أحلاكُ حدثانفلم يضع ساعةً من عمره عبثاًو لم يضَعْ قوله فـى غير إحسان.و ما يثبت لنا ابتعاده عن الهجاء و ترفعه عن كل مايشين قوله:يا ناظمين الهجا خلّوا قصائدكملمن يبين لنا فـى عرضه أثرُإذا ضربتم بسيفٍ قاطع حجراًتثلّم السيف إذ لا يشعرُ الحجر
[4]
و يتحدث عنه معاصروه: أنه كان واسع الاطلاع، كثر النكات والنوادر، يروي القصة بتواريخها و أسماء أصحابها و أمكنتهم.
و كان محافظاً اشد المحافظة علي لهجة قومه، مقلداً لاجداده فـى جميع عاداتهم من الاكل، و الشرب و اللبس، و سائر المظاهر الخارجية. فكان يبدوا امام تلاميذه لابساً عمامة كبيرة سوداء، و جبةً طويلةً، و صرمايةً حمراء، و القفطان علي بدنه ذلك علي قلة من كانوا يظهرون بهذا الزي القديم فـى عصره. و لكنه كان متثبتاً بعاداته هذه لا يتركها، و قد قال: مرة امام تلميذه و ابن وطنه الدكتور شبلى الشميل، علي سبيل المزاح: «لو فقد الشاش لا عتممتُ بالقطوعة» و القطوعة، فـى لغة عامة لبنان، قطعة من الحصير العتيق. الا أنه لم يطلق لحيته قط بل كان يحلقها حتي آخر حياته. [5]
و من صفاته التي ازدان بها و تنوقلت عنه، أنه لم يكن بيتّ حكماً لم يتحقّقه و لا يؤكد خبراً مالم يتمحصه ولا يثبت رواية لم يعد النظر عليها، و كان هذا دأبه فـى حديثه و كتاباته و ذلك لحصافة فـى عقله و شهامة فـى خلقه، معترفاً أن الإنسان موضع النسيان و ما العصمة إلا لله وحده و من أقواله فـى ذلك:
لا تعط حكمك ما بدا لك امره
حتي تقوم علي حقيقة أمره.
و له البيت المشهور الذي جري مثلاً:
من قال لا أغلط فـى أمر جري
فإنها أولُ غلطة تُري.
فمن البيتين المتقدمين يتبين جودة أخلاقه و لين عريكته و تواضعه، و قد نقل عنه كان قليل الكلام و لا سيّما بما لا يعنيه. [6]
و أما فقالوا فـى صفاته: جامع كل الصفات الحميدة، عاقل، عادل، حليم، شجاع، فاضل، كريم، دَيّن، عفيف، مهاب، شهم، يقظ، فطن، صادق، رزين، خدوم، جبار، فتاك، صبور، غيور. [7]
هذا الشيخ ناصيف فـى بساطته الخارجية، و لم تكن صفاته الداخلية أقل بساطةً و صفاء نيتاً، فقد كان ثابت المحبة، مخلص الصداقة، رقيق القلب، مبالغاً فـى أجتناب السخت. كما ذكر عنه ابنه الشيخ ابراهيم «لا يعطى مالاً و لا يأخذ مالاً بالربـى». [8]
فهو عميد بيت اليازجى و ركن من أركان النهضة العلمية فـى سوريا و هو أشهر من نعرف به. [9]
تاريخ الاسرة اليازجية:
و إذا كانت الاسرالملكية فـى التاريخ تبني عروشها و ممالكها علي الحروب و القتال و نصال السيوف و التي تفني و لا تدوم امام أسنة و نصال أقوي منها و لا يبقي بعد ذلك إلا آثار و الاطلال التي تبكي التاريخ المندثر لأصحابها، فأن الأسر الأدبية تبنـى مجداً لا يفني و لا يندثر. بل يبقي و يدوم بما فيه من علوم الأدبية فـى جميع الأزمنة. و من هذه الأسرالعربية و بالأخص فـى القرن التاسع عشر الأسرة اليازجية. التي من خلال نوابغ و علمائها فـى العلوم الادبية خدمت الادب العربـى.
و كانت هذه الاسرة فـى بداية القرن التاسع عشر تقطن قري حوران جنوب سوريا (حالياً محافظة درعا) فهاجر افراد منها إلي مدينة حمص و راحوا يكتبون للولاة و الحكام فأطلق عليهم اسم الكاتب و هو باللغة التركية (اليازجى). دُعي بها أحد جدود الشيخ ناصيف إذ كان يكتب لبعض عمال الاتراك، فـى أواسط القرن الثامن عشر.
هاجر جدّهُ سعد المذكور من حمص مع جماعة من ذوية نحو سنة 1690م لحيف لحقهم فـى تلك الديار فتوطن اناس منهم فـى ساحل لبنان فـى الجهة المعروفة بالغرب و آخرون فـى وادي التيم و تفرق بعضهم فـى مواطن اخري و لا تزال بقية اسرتهم فـى حمص و نواحيها و هم عشيرة كبيرة من ذوي الوجاهة و اليسار.
فأصبح جدُّه كاتباً للأمير احمد المعني آخر حاكم لبنان من المعنيين و نال حظوة عنده فلقبه «بالشيخ» لوجاهته و علمه و القرن الثامن عشر كتب آل اليازجى للأمراء الأرسلانيين و الشهابيين و كان عبدالله اليازجى والد ناصيف كاتباً للأمير حيدر أصبح هذه اللقب يدور مع افراد الاسرة. [10]
نشأته :
فولد فـى الاسرةاليازجية طفل كان مستقبله من اسباب التطور العلوم الادبية.
فلئن كان نشأ فـى كنف أبيه الطبيب الأديب فغرس فـى نفسه بذور حب العلم و الادب. و كانت وسائل التعليم إذ ذاك محصورة فـى جماعة الاكليروس، فتلقي القراءة البسيطه علي يدى القس متي من قرية بيت شباب، رعاه صغيراً و لقّنه مبادئ القراءة و الكتابة. [11]
و كان والد الشيخ من مشاهير أطباء عصره فـى مذهب ابن سينا، و ربما كان يتعاطي الشعر فـى السوانح النادرة و يميل إلي العلم و تذوق الادب، فبث فـى فؤاد ولده حبها و حمله علي الدرس، و لما أتقن القراءة، و أصبح يستوعب ما يقرأ،اقطع إلي الدرس و المطالعة علي نفسه برغم قلَّة الكتب المطبوعة و ندورة المخطوط منها يتلقف زبدتها و يستسيغ فوائدها و ساعده علي ذلك حافظة حادّة و ذكاء مرهف. [12]
فتأدَّبَ ذاتياً، و كان استاذه الكتاب و مدرسة المكتبة.
فجَل اعتماده علي كتب يستعيرها من المكتبات الخاصة، فمنها ما يقرأها مرة فيحفظ زبدتها و منها ما ينسخها بخط يده.
و لا يزال كثير من تلك الكتب باقباً إلي اليوم محفوضاً عند اسرته و هى جملية الخط علي القاعدة الفارسية و بعضها يبلغ عدة مئات من الصفحات. [13]
فنشأ ناصيف ميالاً إلي الادب و الشعر، و أقبل علي الدرس و المطالعة بنفسه و تدرج علي يد أبيه عبدالله ثم انكّب علي المطالعة، و ما كاد يبلغ اواسط العقد الثانـى من عمره حتي أخذت دائرة صيته تتسع فـى إنشاء الرسائل و نظم الشعر و هو فـى السادسة عشر من عمره. [14]
الكثيرة لمعظم الكتب، تأليفات فـى الصرف و النحو و البيان و اللغة و الشعر. [15]
ناصيف و الملوك:
في دير القرقفة:
تألق نجم الشيخ ناصيف و هو فـى السادسة عشرة من عمره، و قد عرف عنه من تيقظ الخاطر و العلم و الجمال الخط. و عني بالخط عناية خاصّة فجوّده و برع به فاتصل خبره إلي البطريك الكاثوليك أغناطيوس قَّطان الخامس فـى دير القرقفه قرب كفرشيما مسقط رأس اليازجى فدعاه ليكتب له فـى ديره. [16]الواقع علی هضبه من هضبات کفرشیمافبقي عنده مدة سنتين. ثم انتقل البطريك الي الزورق فـى كسروان فعاد ناصيف بعياله إلي بيروت، يعكف علي المطالعة و الحفظ، و يطلّع علي اسرار الموسيقي، و يتلقن الطلب الاختبارى عن أبيه و ينظم الشعر. [17]
عندالامير بشير الشهابـي:
وتدامت شهرته فی انحاءلبنان فاستدناه الامير بشير الشهابـى الكبير المعروف بالكبير أو الماطي، هو أعظم امراء بني شهاب حكام جبل لبنان فـى الاجيال الاخيرة و هم عرب يتصل نسبهم إلي قريش، قدموا بلاد الشام فـى صدر الاسلام و ما زالوا يتناوبون الاحكام فـى لبنان و وادي التيم مع الاسر الاخري من الامراء و غيرهم تحت رعاية الباب العالـى إلي أواسط القرن التاسع عشر. [18]
هذا و للأمير الشهابـى بشير الكبير تأثير حسن فـى الحركة الأبيّة فإنّه قرّب الشعراء و الكتّاب، و أجازهم. و كانت المحاضرات تجري فـى حضرته، فستحثّ قرائحهم للنظم و النثر. و من شعرائه بطرس كرامة، و نقولا الترك، و الشيخ ناصيف اليازجى. [19]
فالامير قرب الشيخ إليه و جعله كاتب يده، و كاتم سره و مع أنه لبث فـى خدمته نحواً من اثنتي عشرة سنة أى إلي سنة 1840م و هى السنة التي خرج فيها الامير بشير من البلاد الشام منفياً. [20]
و هذا شاعره و كاتب ديوانه ناصيف اليازجي يرفع عقيرته ضاماً صوته إلي صوت شاعر الأمير الكبير و غيره، فتتألف من هولاء جميعاً جوقة لم يشهد مثلها بلاط من بلاطات ملوك ذلك أما أيام الامير فكانت شغل شعرائه الشاغل، تفتق وقعاته قرائحهم، و تخلق لهم كل يوم موضوعاً جديداً. و سعادته يسمع ما يقال مغتبطاً يهب مما نهب. و كذلك هي الحرب خير للناس و شرها لآخرين. ينظر الشعراء إلي حصة الاسد فيسيل لعابهم. و أميرهم جواد لايبخل عليهم بما يسند قلبهم فلا يبقون علي الريق. [21]
و مدح الشيخ فـى الأمير ما كان إلا قليلاً و ربما كان ذلك احتراماً و كرامة للأمير. و حين أنتصر الأمير بشير علي مقاوميه فـى الحروب التي وقعت سنة 1240هـ الموافقة لسنة 1824م مدحه فـى قصيدة نابضة و مطلعها:
يَهنيكَ يَهنيكَ هذا النَّصرُ و الظَفَرُ
فانعم إذَن أنت، بل فلتنعَم البشرُ
و لعلها من خير القصائد التي مدح بها الامير بشير و هو ما زال شابّاً غض الإهاب. و نلمح بها تقليداً للمتنبـى و قد كان يحبه حبّاً شديداً. [22]
و بعد نفي الامير من البلاد لم ينس ناصيف اميره المالطي فأرسل إليه قصيدة مدحية اصدق وصف للحال بعد نفي الامير. [23]
طال شوقى لطول هذا البعاد
فنري هل لذلك من ميعادكلما أقبل الرجاء ثناهالدهر عنا، فكلنا فـى الطرادخمدت نار ذلك الحى، ويلاهو من لـى من جمرها برمادو استقرّت تلك الا باطح من ركض المطايا، و من صهيل الجيادلم تصبنا أيدي العداة بسهمٍفرمانا بأعين الحسادأيها الراحل الذى ضرب الاطناببين القلوب و الاكبادما سمعنا براحل أوحش الاحبابعند ارتحاله و الاعادى.
[24]
فـي بيروت (حياة الدرس و التأليف):
و وقعت الحرب الاولي بين الدروز و النصاري سنة 1841م، فكان الشيخ ناصيف فـى جملة المهاجرين إلي مدينة بيروت. فراقت الامير فاكسبه رضاه و عطفه و حفظ له ذكراً طيباً، حتي إذا ما مرت أربع سنوات، استدعاه إلي بيت الدين، و كان ذلك سنة 1828م. [25]
هناك تألق نجمه و طال صيته فـى العالم العربـى، فأقبل علي مراسلته و اطراء أدبه رجال العلم و الادب من شتي و الادب من شتي الاقطار العربية حتي لهج بذكره القطران الشامى و المصرى. هذا و للأمير الشهابـى بشير الكبير كان تأثير حسن فـى الحركة الأدبيّة، فأنه قرّب الشعراء و الكتاب، و أجازهم.
و كانت تقصده ركائب الزائرين من كل صقع و فيهم العُلماء و الوزراء و فـى جملة من زاره منهم محمد عزت باشا أحد قواد الجنود السلطانية فمدحه بأبيات ارتحالية يقول فـى مطلعها:
أعطي محمد عزةٍ من فضلهِ
شرفاً لساحتنا بوطأة نعله.
[26]
فکان بيته مباءة العلماء، و مرجع الفتاوي الأدبيّة و عكاظ الـمحاظرات العلمية و المطارحات اللغوية.
فهبط الشيخ ناصيف إلي بيروت يعلِّم فـى الكلّية الانجيليّة السوريّة هى اليوم «الجامعة الاميركية» و الكليّة البطريركيّة و المدرسة الوطنيّة إلتي أنشأها العلامة بطرس البستانـى الكبير سنة 1863م. [27]
و كان العضو العامل القوىّ الذى أيده الدكتور عالي سمث فـى إنشاء الجمعية السورية.
و حينما دعي الشيخ إلي المدرسة الوطنية، علم فيها أرجوزته فـى النحو و اشتغل فـى تصحيح معجم البستاني «محيط المحيط» و لكّن تصحيحه لم ينل إلا الجزء الاول.
و صحَّح الكتب فـى مطبعة الأميركان و عمل علي تنقيح ترجمتهم للكتاب المقدس. [28]
و من تلاميذه، الدكتور يعقوب صروف منشيء «المقتطف»، سليم تقلا منشيء «الأهرام»، و سليم البستانـى محرر «الجنان»، و عبدالله البستانـى صاحب «البستان»، و خليل الخورى صاحب «حديقة الاخبار» و خليل غانم، و أسعد طرادو سواهم من فحول الكُتَّاب و أعلام الأدب.
و كان لانقضاء عهد الامير، كما كان لوجوده، فضل علي الأدب العربـى فـى لبنان، إذ استراح الشيخ ناصيف من مشاكل الديوان و مشاغله، فانصرف إلي التأليف طابعاً علي غرار القدماء. [29]
مرضه ووفاته:
و لم يزل الشيخ ناصيف محور تلك الحركة الفكرية حتي ليلة الثلاثاء 16 آذار سنة 1869م، فشعر بدوار و ثقل شديد فـى الرأس مع ضعف فـى البصر و الذاكرة و ألم مبهم فـى الحواس، عقبته سكتة نزيفية انتهت بعد 36 ساعة بفالج نصفى عطّل الشطر الايسر من الجسم. فجزع طلابه و مريدوه، و خافوا علي تلك الجذوة ان تخمد. علي ان الامل لم يلبث ان عدّ قليلاً إذ افاق الشيخ بعد ايام، و في عينيه أسائر سلامة العقل، و لكنه لم يكن قادراً علي الكلام. [30]
و لم يمض القليل علي ذلك حتي انحلت عقدة لسانه و امكنه الافصاح عن مراده، فاقبل يملي بعض الابيات التـى كان ينظمها و هو فـى تلك الحالة. و ظلَّ علي ذلك نحو سنتين.
و كمنه ما برح ينظم الشعر و يتلقي السائلين و المستفيدين إلي أن فاجأه القدر المصاب الأليم بوفاة ولده البكر الشيخ حبيب فـى 31 كانون الاول 1870م، و هو فـى ريعان الشباب.
و كان أبوه يعلّق عليه الآمال الكبيرة لطيب أخلاقه، و سرعة فهمه، و ما حوي فـى صدره من المعارف الكثيرة. فضاع ذلك الامل.
فحزن الشيخ حتي لم يمكنه الصبر بعد، بل كان دائم الحزن، دائم البكاء، فوقع ذلك الحادث عليه وقوع الصاعقة و لم يعش بعد ذلك إلا أربعين يوماً.
و فـى شباط 1871م حدث له سكتة دماغية قوى علي احتمال تأثيرها مدة اربعة ايام، افاق بعدها منتعشاً قليلاً. و لكنها راجعته مساء الثامن من شباط المذكور، فأطفأت ذاك المصباح المنير. [31]
أدبه:
عاش اليازجى فـى عصر كانت اللغة العربية و أدبها فيه قد بلغا حضيض الانحطاط. و لم يكد يبلغ اشده حتي أخذت بعض أشعة الحضارة الجديدة تنفذ إلي المشرق العربـى. و اليازجى كان من أحد رواد النَّهضة الادبية الحديثة الذى كان له يد طولي فـى اقالة اللغة من عثارها و اعادة القوة و النشاط اليها. [32]
و يجب علينا أن نشار بأن اليازجي كان من أحد و أبرز الشعراء الذى انتموا علي الكلاسيكية فـى الادب (Classicism) و هو نـمط أدبي قديم يعتبر ذا أهمية رغم حدوثه قبل العصر الحاضر. و كانوا يَدعون إلي تقليد الأدب القديم لأنه ليس فـى إمكان المحدثين أبداع ما وضعه المتقدمون. أما المحدثون فقد رأوا من ناحية أن الأفكار القديمة و ثنية و منافية لفكرة الوحدانية.
و إن الأدب الكلاسيكى اعتبر العقل أساساً لفلسفة الجمال فـى الادب لأنه بالذات ما هو إلا إنعكاس للحقيقة. [33]
و كانت ابرز اهتمامات الادب الكلاسيكى، فـى مضمار القصة و المسرحية و الرواية.
ملفته للنظر فـى الشعر اللبنانـى و هى ما أسميه «تأثره بالوراثة» كأن يكون للشاعر أب أو أخ- أو أخت احياناً ينظم الشعر كما هى الحال عند ابراهيم اليازجى فهو ابن شاعر ناصيف اليازجى و شقيق الشاعر خليل اليازجى، أول من نظم مسرحية شعرية فـى العربية عنوانها «المروءة و الوفاء» و له شقيقة شاعره هى وردة اليازجى. و هولاء الكبار ورثوا ذكائهم من أبٍ كان له يد فـى الادب و اللغة و قدم لنا من دواوين الشعرية التي تشتمل الاكثار من الحكمة و ضرب الامثال.
فبرع الشيخ ناصيف فـى العلوم اللغوية، من صرف و نحو و معانٍ و بيان و بديع و عروض و قافية و اللغة و اتقن المنطق، و تمّ له اطلاع واسع علي الطبّ و الفقه و الموسيقى. [34]
و نحن إذا عرضنا سلسلة تلك «العلوم» المتعدّدة، نجد إن الشيخ ناصيف وعاها كلها علي طريقة الاقدمين، و ألَّف فـى اكثرها تآليف تختلف طولاً و أسلوباً، و قيمة. و لكي يسهل علينا درس تلك المؤلفات.
و نأتي ببعض من مؤلفاته فـى تلك العلوم جميعاً:
كان اول ما ألف الشيخ ناصيف فـي علم الصرف:
1- لمحة الطرف فـى أصول الصرف
و هى أرجوزة قصيرة مشروحه بقلمه و تأتي فـى سبع عشرة صفحة، ألفها سنة 1854، و جعلهاكحجر الزاوية الذى هو ركن البناء مقتصراً علي المهمات القريبة المأخذ. و أقتصر فيها معرفة ما تهم من هذا العلم
2-الجمانة فـى شرح الخزانة
لخزانة ارجوزة مطوَّلة فـى علم الصرف، علَّق عليها شرحاً، سماه «الجمانة» و جمع فيها مبادئ هذا الفنّ و الشروح من كتب أيّمة ذاك العلم، مقتصراً علي ما يحتمل وقوعه فـى الاستعمال دون الشوارد و المفروضات.
. أما فـي النحو فللشيخ ناصيف:
3- طوق الحمامة
وهو مختصر نثري يقع فـي عشرين صفحة صغيرة طبع فـي المطبعة المخلصية سنة 1865م.
4- اللباب فـي أصول الاعراب
أرجوزة قصيرة فـى مباديء النحو مع شرحها بقلم المؤلف. طبعت فـى بيروت سنة 1889م فـي ثمان و عشرين صفحة.
5- نار القري فـى شرح جوف الفرا
جوف الفرا ارجوزة مطولة واسعة جمع فيها المؤلف ما تفرَّق فـى كتب النحاة المختلفة، فأدي للمبتدئين خدمة جليلة لاسيما بشرحه الذى سماه نار القري. خدم بها المتأدبين الآخذين بعلم العربية، خدمة تذكر فتشكر. فهو أول كتاب عصريّ صنف فـي موضوعه.
و للمؤلف كتابان فـي الصرف و النحو معاً:
أ- الجوهر الفرد: موجز وضعه للطلبة الأصاغر فـى خمس عشرة صفحة صغيرة الحجم طبع فـى المطبعة المخلصية ببيروت سنة 1865م، ثم شرحه ابنه الشيخ إبراهيم و طبعه فـى بيروت سنة 1888 بعنوان «مطالع السعد فـى شرح الجوهر الفرد»، و قد اختصرت فيه قواعد العربية فـى الصرف و النحو أختصاراً لا يمكن أن يختصر بأكثر من ذلك.
ب- فصل الخطاب فـى اصول لغة الاعراب: مطوَّل نثري مقسوم إلي كتابين: كتاب التصريف و كتاب النحو انهاه المؤلف سنة 1847م.
و له أيضاً فـى المنطق كتابان:
أ- قطب الصناعة فـى أصول المنطق: رسالة نثرية تفع فـى سبع و ثلاثين صفحة صغيرة الحجم، اقتصر فيها علي المبادئ المهمّة فـى أنواع القضايا و ضروب القياس، فرغ منها سنة 1857م طبع أربع مرَّات فـى بيروت فـى المطبعة الأميركية.
ب- التذكرة فـى أصول المنطق: أرجوزة صغيرة جعل فـى صلبها أركان المنطق، ألحقت برسالته «قطب الصناعة» فألفت خمسين صفحة من الحجم الصغير.
و له فـي البيان مؤلفات:
1- عقد الجمان: كتاب نثرى فـي المعانـى و البيان و البديع، ألحق به بحثاً فـى العروض و القافيه سماه نقطه دائرة.
2- اللامعة فـى شرح الجامعة: أرجوزة فـى علميَّ العروض و القوا فـى تقع فـي 127 صفحة صغيرة الحجم أنهاها سنة 1853م و شرحها ولده الشيخ حبيب و طبعت فـى بيروت سنة 1869.م
3- الطرز المعلم: و هو أرجوزة قصيرة فـى البيان تقع فـى 35 صفحة جمع فيها نظماً و شرحاً المبادئ المهمة فـي البيان.
فـي الطب:
الحجر الكريم فـى الطب القديم: و هو أرجوزة قصيرة و آتي فيها ببعض النصائح و الفوائد و ذكر الطرق المعالجة الاختبارية و تتألف من أربعة و ثمانين بيتاً من الزجر.
[35]
مجمع البحرين: و هو كتاب مقامات بلغت الستين و نسج فيها علي منوال مقامات بديع الزمان الهمذاني و الحريري [36]
مؤلفاته فـي الشعر:
1- نبذة من ديوان الشيخ ناصيف اليازجى: مصححة بقلم ولده الشيخ ابراهيم، و هو يقع فـى ثلاث نبذات و طبع فـى بيروت سنة 1853م و تقع فـى 128 صفحة متوسطة الحجم.
2- نفحة الريحان: و لها طبعتان: الأولـى فـى مطبعة العمومية فـى بيروت سنة 1864م و تقع في 138 صفحة متوسطة الحجم. مصححة بقلم ولده الشيخ ابراهيم.
3- ثالث القمرين: يقع فـى 146 صفحة و له طبعتان و أيضاً مصححة بقلم ولده الشيخ ابراهيم.
4- فاكهة الندماء فـى مراسلة الادباء: و مجموعة شعريةٍ ضَمَّنت نبذةً من قصائد الشاعر التي دارت بينه و بين ادباء عصره و لها طبعتان. [37]
مقامات الیازجي:
فن المقامة من أهم فنون الادب العربـىّ، و خاصة من حيث الغاية التي ارتبطت به، و هى غاية التعليم و تلقين الناشئة صَيغَ التعبير، و هى صيغ حلَّيت بألوان البديع، و زيَّنت بزخارف السجع، و عُنِيَ أشدَّ العناية بنسكها و معادلاتها اللفظية، و أبعادها و مقابلاتها الصوتية. و بديع الزمان هو الذي مهَّد الطريق و عَبَّده لظهور هذا الفن، و خلفه الحريريّ، فتبيَّن المعالم و الصَّوَي بأوضح مما تبيّنها سلفه، إذ كان أوسع ثقافة، و أحكم صياغة، و أقوي تعبيراً، فإذا هو يصل بالفن إلي القمة التي كانت تنتظره، و إذا مقامته تصبح المعجزة الخارقة التي لا تُسبق و لا تُلحق علي مر العصور.
و عكف عليها الطلاب و الأدباء فـى جميع الأقاليم العربية يتدارسونها و يحفظونها و يُرَتَّلونها علي نحو ما ترتَّل الأناشيد الدينية.
ولم تَعُقهم عن إعجابهم بها حواجز الصناعة التي اقامها الحريرى من كنايات و أمثال و ألغاز أحياناً، بل ظلوا خاشعين، مشدوهين. [38]
و كُثرَ مَن قلَّدوا الحريريّ و احتذوا علي مثاله، ولكنهم كانوا دائماً يعقون علي السَّفح من دونه، إذ كانت أجنحتهم من الضعف بحيث لم يستطيعوا أن يحَّلقوا فـى الافق الذى حلَّق فيه، و بذلك ظل اسمه يلمع و يتألّق طوال تسعة قرون.
و فـى مستهل القرن التاسع عشر المتصل بعصر الانحطاط و تفشي الرطانة فـى كلّ نظر عربـىّ قام فـى لبنان جماعة حرصوا علي اللغة العربية و آدابها فراحوا يتلقفونهما و يتدارسون ما وقع لهم من كتب مخطوطة أو مطبوعة فـى أوربا أو الآستانة يحيون آثار ما اندثر من نتائج افكار العلماء و الأيمّة الأفذاذ، و ما زالو يقلِّدونهم و يطرَّسون علي منوالهم حتي استقامت لهم اللغة و دانت لهم البلاغة، فشرعوا ينظمون و ينشرون، فأرجعوا إلي الضاد روعنها و بيانها بأسلوب لا يخلو من السجع المملّ أحياناً، إلا أنه يترفَّع عن الركانه و ضعف التركيب، و طريقتهم هذه المسجّعة قد حرصت علي مفردات اللغة و سلامة الذوق و سلوك النهج القديم إلي الترسّل فـى الكتابة فقلَّدوا ابن المقفّع و سهل ابن هارون و الجاحظ و الصابيء و القاضى الفاضل، و لا أعدو الحقيقة إن لبنان كان حصن الضاد و فيه نبغ غير واحدٍ من حملة لواء العربية و فـى جملتهم الشيخ ناصيف اليازجى الحورانـىّ الاصل و الحمصّي المنزح و اللبنانـى الموطن و المولد. [39]
علم من أعلام البيان و سيّد من سادة العلم و أركان النهضة العلمية فـى لبنان و هو أستهز من أن يعرّف لما كان له من القدح المعلّي فـى اللغة و الشعر و الأدب و هو أوّل من راجت كتبه اللغوية فـى المدارس العربية من النصاري.
انقادت له اللغة العربية فتمكن منها و تمسك بجذورها، فما شردت عنه خاطرة و لا ندّت عند بادرة إلا أخذ بتلابيبها و تمرّس بأسرار الفصحی و سبرغورها و وقف علي حقائقها و دقائقها و احتذي حذو أئمتها الأعلام. فما قصّر عنهم بشيء.
إن لم نقل بذّهم فـى كثير من النواحي التي قلما تأتّت لهم من حيث الاختصار و الترتيب بلغة جامعة مانعة، فتحدّي أمتن منشئ العرب بإنشائهم و عارض أفخم شعرائهم. [40]
مقتفياً أنبغ علمائهم فـى علومهم المختلفة من صرف و نحو و بيان و بديع و منطق و طبّ و قد حصّل معارفه هذه علي نفسه حتي غدا أول نابغة مسيحي فـى القرن التاسع عشر للميلاد. تجاوب صدي اسمه فـى الأقطار العربية فراسله کبار الأدباء و عيون العلماء و نظروا إليه نظرة احترام و اعتبار.
فكان أكبر عامل فـى النهضة الحديثة. و هو بشهادة أبناء جيله «أنه كان من نوادر الدهر و أفراد رجال العصر الذين باهت بهم الأيام و نشرت مأثرهم بأسنّة الأقلام»
فهو فـى طليعه الذين بعثوا اللغة الفصحي بعد هجوع طويل و أظهروا محاسنها كما يتضع لمن طالع كتب و خبرها و تخرّج عليه. فكان حجة فـى اللغة و الأدب. فوضح لنا ان للشيخ ناصيف اليازجى مرتبة خاصة فـى النهضة الأدبية فـى القرن التاسع عشر و رفعوا لبنان إلي مرتبة الريادة الأدبية و الفكرية مع نخبة بارعة من الأدباء و المفكرين و المؤلفين.
و من أبرز النتاج الفكرى للشيخ ناصيف مؤلفه الصادر تحت عنوان «مجمع البحرين» و برر لنا به الشيخ نزعته الكلاسيكية و نعني بها المقامات التي سارت علي نمط الذى وصغه بديع الزمان أو التزمت بتقليد نموذج قديم سبق اليه المقاميون من بعده. [41]
مقامات «مجمع البحرين»:
و هو كتاب يشتمل علي ستين مقامة علي غرار مقامات الحريرى و بديع الزمان الهمذانـى يقوم الاطار الفنـى للمقامة علي شخصيتين مختلفتين هما: شخصية الراوى و شخصية البطل فالراوى الذى ینتمی إلي طبقة اجتماعية متوسطة هو الذى يمهّد غالباً لظهور البطل، يتابعه حيثماحل، و هو فـى كل هذا يُحسن طريقة تقديم البطل الذى يكون عادة شخصية ساخره فصيحة ذكية بليغةتنتمی إلي طبقة اجتماعية متدنية، و لديه قدرة عجيبة علي التّنكّر فهو يجيد لبس الأقنعة، فتارةً نراه ناسكاً واعظاً و أخري نديم كأس، و مرة ثالثة فقيها و هكذا و هو فـى كل هذه الاحوال يعتمد علي الفصاحة و الذكاء و الحيلة و الخداع لنيل هدفه ممن يخدعون لمظهره.و اتخذ ناصيف راوية هو سهيل بن عباد و بطله هو ميمون بن خزام،وهو أديب شحّاذ من نوع أبـى زيدالسَّروجى وأبـى الفتح الاسكندرى. و ألصق به فـى كثير من المقامات ابنته «ليلي» و غلامه «رجبا» علي نحو ما صُنع الحريرىّ بأبي زيد إذ عرضه فـى كثير من مقاماته، و هو يتشاجر مع زوجتة أو مع تلميذه و تابعه أما الراوى فهو رجل راحل أو فعترب و فـى رحلة الاغتراب يصادف البطل أو يلتقي به فـى حدث من الاحداث.
أما البطل فهو مستول بارع فـى الفصاحة و الأدب مجيد لأساليب الاكداء يجوز حيله علي الناس و لكنه لا ينفك من حبائل سهيل بن عباد ذلك الخبير بتصرفاتة و ألاعيبه المجيد لاكتشافه فـى اخر الأمر.
واليازجى لم يكتب خمسين مقامة فقط كما كتب الحريرىّ، بل زاد عليه عشراً و أسماها «مجمع البحرين» أخذا من الآية الكريمة فـى القرآن: (و إذا قال موسي لفتاه لا أبرح، حتي أبلغ مجمع البحرين) و يريد بالبحرين النظم و النشر. [42]
و مما يذكره المقدسى عن «مجمع البحرين» قوله: «و الذى يطالع مجمع البحرين يجده مجموعة من الغرائب البديعية، والصناعات الشعرية، و المعلومات اللغوية و النحوية، و الأوضاع الطبية و الفلكية،والأمثال العربية، والألغاز اللفظية. كلُّ ذلك فـى جو من البداوة يشعر القارئ فيه أنه يعيش بين مضارب الأعراب، أو فـى عصورالعربية الأولي، بعيداً عن عصرالكاتب و بيئته وسيودها كما يسود مقامات الحريريّ روح التشاؤم و سوءالظن الناس و الاعتقادبذهاب المكارم،وانتشارالمآثم،وانه لذلك لابد للعاقل من استعمال المكروالحيلةوالتذرع لبلوغ الامانـى بأيه وسيلة ممكنة.»
و «مجمع البحرين»: هومجموعةمقامات بلغت الستين و قدقال مؤلفه فـى مقدمةالكتاب إنه اراد «إن يجمع فيها مااستطاع من فوائدعلميةوأدبيةولغويّةودينيه والغرائب و الشواردوالامثال والحكم والقصص...، ونوادرالتركيب،و محاسن الاساليب،والاسماءالتي لايعثرعليهاإلابعد جهد». [43]
و قارئ هذاالكتاب يري فيه الرموزوالأحاجي والحوادث التاريخية والتفاصيل الدقيقة.عن عادات العرب و مفاخرهم وغزوهم ومأكلهم ومشربهم وملبسهم ومعاملتهم للطارق ليلاً و للزائر نهاراً.وجمع فيه بين دفتیه الغريب والشارد،وامتطي بُراق الفكريطوف بأبطال روايته الصحراء فلم يدع شاردةأوواردةإلاّذكرها.
وعلي الجمله فإن كتاب «مجمع البحرين»دائرةمعارف لغوية جمع من العلوم العربيةماقصَّرعنه غيرواحدٍحتي غدامرجعاً فـى علوم اللغة حقيقتها و مجازها، بالإضافةإلي تاريخ العرب و أخبار أيامهم. [44]
وهذه المقامات فـى جملتهاتقدَّم للقارئ المتعةوالفائدةولاسيَّما من حيث مخزونهااللغوىّ،الثَّري وفيهاكثيرمن شعرناصيف ممانفطرمن تعليم العربيَّةوفنونهاوآدابها و ما نظمه ناصيف فـى مقاماته من شعراغفل بعض النُّقادفيه غرض التَّعليم،ولذلك عابواعليه ذوقه فـى النَّظم،وفـى إنكارفضله ونشاطه فـى تقديم العربيَّة للناشئة فـى مطلع عصرالنَّهضةالعربيَّة بوصفه واحداً من رجالاتها.
وقدعاب بعض نقادنافـى العصرالحديث علي لشيخ ناصيف تقليده للأقدمين، فأنكر هنرى باريس عليه الإبداع كالشدياق، و بذلك نعتوا أدبه علي أنه أدب تقليدى خالٍ من التجديد.وكتابته المقامةضرب من التحدى لمن قال بأن اللغةالعربيةذابت أصالتهاوماتت فيهاروعةالأدب العباسى.
فاليازجى أثبت قدرةالعربيةوأصالتهاوأنهابألف خيرو لم تمت،وماالمقامات الستون التي حدرّهاإلاّدليلٌ علي ذلك.
فاقترن اسم اليازجى باسم الحريرى وبديع الزمان الهمذانـى لِشكل الثلاثةقائمةمثلّثة لهذاالفن الأدبـى عند العرب.
وهوفـى كل هذه الأحوال يعتمدعلي الفصاحةوالذكاءو الحيلةوالخداع لنيل هدفه ممن ينخدعون بمظهره.
ولانبالغ إذاقلناإن مقامةاليازجى تقليددقيق لمقامات الحريرى،فهى تطابقهامن جميع الوجوه،تطابقهافـى صورة الراوى والبطل،وتطابقهافـى أن البطل أديب مستوَّل، و تطابقها فـى أساليب تنكره وخصوماته مع ابنته وغلامه،و ما يكون هناك من قاض ينظر فـى الخصومات. و يعتمد فـى مقاماته فـى أسلوب علي قالب السجع،وعلي الاكثارمن استخدام المحسّنات البديعية واللفظية بأنواعها المختلفة، و علي توظيف الغريب كما هو الحال فـى مقامات الحريرى بصفة خاصة. [45]
و إن كنا نلاحظ أن الحريرىّ يتفوق فـى الطرفين جميعاً، فسجعه أخف، و شعره أرشق و كأن المادة اللغوية ذللِّت له بأقوى و أروع مما ذُللِّت لليازجى، علي الرغم من أنه حاول أن يكون صورة منه.
و كان بطل مقاماتة الشيخ ميمون بن خزام، و روايته سهل بن عباد و هما اسمان و هميان. و كما ذكرنا سابقاً فبطل المقامات اليازجية لا يكاد يختلف عن ب الحريرى كما هما يتصفان بنفس الصفات، و لكلّ منهما راوية و غلام يلازمه و يشاركه فـى وقائعه. [46]
فقد عرف كيف يصوغ نموذجه علي نموذج الحريريّ، و يظفر لنفسه بجملة الخصائص و الصفات الحريرية.
حتي القرآن الكريم الذي اقتبس الحريريّ منه اقتباساً واسعاً جاراه فيه اليازجيّ، و ربّما تفوق عليه فـى كثرة ما اقتبس منه بل إن اسم مقاماته استعاره كما مرّ بنا من لفظ القرآن. و قد جعل بطله يتوب فـى مكة ثم فـى المدينة و المسجد الأقصي.
و كأن اليازجى يتخلّي عن كل شىء فيه ليصنع المقامة بالذوق الحريرىّ و علي السنن التي وضعها لها. حتي عصره لا نجد له أي صَديً فـى مقاماته، و بني الحريريّ كثيراً من مقاماته علي المواعظ و الأدعية فتبعه اليازجىّ فـى غير مقامة يعط و يذكر، و يدعو الناس إلي العمل الصالح، و رفض الدنيا و متاعها و انتظار ما عند الله و ثوابه، و الأمل فـى جنته و رضوانه.
وكذلك البلدان التي اقترحها لها أسماءً لا نجدلها أي أثر فـى عمله، فليكن اسم المقامة الشامية و المصرية و اللبنانية. فهذا الاسم لا يعني عنده شيئاً، إنما هو بصدد صورة أدبية عامة يعرضها و تصادف أن الحريرى و بديع الزمان من قبله سميامقامتيهما باسم البلدان فاستنَّ سنتهما و اتبع قاعدتهما. [47]
و تشمل هذا الكتاب (مجمع البحرين) ستون مقامة، كما ذكرنا فـى ما سلف و نأتى بهما علي ترتيب المؤلف وما مضامينها بصورة وجيزة.
1- المقامة البدوية: تتضمن تعرُّف سهيل بالخزامى و ابنته و غلامه و حيلة الخزامى مع اللصوص.
2- المقامة الحجازية: تتضمن دعوي الخزامىّ أنه خطب لابنه و احتياله بتحصيل المهر.
3- المقامة العقيقية: تتضمن قيام الخزامىّ خطيباً علي جنازة.
4- المقامة الشامية: تتضمن دعوي الخزامى معرفة الطب و محاورته أحد حذاق الأطباء.
5- المقامة الصعيدية: تتضمن ادّعاءَ ابنه الخزامى انه بعلها و أنه غرّها بالغني و اختصامها علي ذلك.
6- المقامة الخزرجية: وفيها اسماء المطاعم و النيران و الساعات و الرياح برد العجوز و خيل السباق.
7- المقامة اليمنية: تتضمن احتكام الخزامى و رجل علي ناقةٍ استأجرها منه ثم محل به و حاول أخذ الناقة.
8- المقامة البغداديه: و فيها مناداة ليلي فـى بيع اللبن و إِيراد مسائل نحويه.
9- المقامة الحلبية: تتضمن تعلق بعض الرجال بليلي و تظاهر أبيها بأنه رجل فارسى و أحتيالهما علي الرجل بسلب ماله.
10- المقامة الكوفية: و فيها محاورة فـى مسائل نحوية.
11- المقامة العراقية: و فيها الأبيات التـى إَذا طُرحت أنصافها صارت هجاءً و ذكر أبحر الشعر و أجزائها و أنواع القوافـى و ما يتعلق بها.
12- المقامة الأزهرية: و فيها الإلغاز بلفظى العين و النون و لغزٌ فـى اسم الصوت و إِيراد مسائل فـى العروض و الصرف.
13- المقامة التغلبية: و فيها أبيات الهجاءِ التـى تتحول بالتصحيف مدحاً و تعديد مشاهير العرب و خيولها و ذكر أبياتها و آنيتها و أزلام المسير.
14- المقامة الهزليّة: تتضمن احتيال الخزامى و ابنته علي سهيل بدعوى أنها زوجته و تخيله عنها بالسهيل بالطلاق بعد أن أخذ منه مهراً مضاعفاً.
15- المقامة الرملية: و فيها منظومات بديعية من جناسات الخط.
16- المقامة الصورية: تتضمن تظلم ليلي إِلي القاضى بأن أباها قد أقعدها عن الزواج و احتيالهما عليه بتزويجها منه ثم فرارها من الطريق.
17- المقامة الحكمية: تتضمن وصية الخزامى لغلامه و القصيدة الحكمية.
18- المقامة الرجبية: تتضمن خطبة الخزامى فـى زوال النعيم و فيها بيتا المديح اللذان إذا عكست قرائتهما إعكسا هجاءً.
19- المقامة الخطيبية: و فيها خطبة فـى مآثر العرب و أرجوزةٌ فـى أيّام حروبهم.
20- المقامة البصرية: و فيها الأبيات التـى لا تستحيل بالانعكاس و البيتان اللذان طردهما مديح و عكسهما هجاء.
21- المقامة الدمشقية: و فيها خلاصة الخلاصة و هى أرجوزة مختصرة فـى علم النحو.
22- المقامة السروجية: و فيها الوصية التـى ظاهرها يخالف باطنها.
23- المقامة الموصلية: تتضمن افتنان رجل بليلي و نقده أباها المهر ثم انتقاض أبيها عليه و دعواه عند الاحتكام أنها امرأته.
24- المقامة المعرّية: تتضمن خطبة الخزامى علي ضريح أبـى العلاء.
25- المقامة التميمة: تتضمن إِضلال الخزامى نافته ثم احتياله علي الذى وجدها عنده بأن استأجرها منه و رهنه سهيلاً.
26- المقامة اللغزية: تتضمن ألغازاً فـى مسميات شتي.
27- المقامة الساحلية: تتضمن دعوي الخزامى علي رجب انه بدّل قوافـى أبيات له فتحوَّل مديحها إِلي الهجاء.
28- المقامة الفلكية: و فيها ذكر الكواكب السيارة و البروج و المنازل و غير ذلك من متعلقات الفلك.
29- المقامة المصرية: تتضمن بيع الخزامى لرجب فـى صفة عبد و فرار رجب من مشتريه.
30- المقامة الطبية: و فيها خطبة فـى الطب و وصية فـى حفظ الصحة و إِيراد مسائل طبية.
31- المقامة العبسية: و فيها ذكر مآثر بنـى عبس.
32- المقامة العاصمية: و فيها وصية الخزامى للدهقان.
33- المقامة الرشيدية: تتضمن دعوي الخزامى ان ليلي زوجته و اختصامها.
34- المقامة الأدبية: و فيها ألغاز الخزامى فـى القلم و وصيته لغلامه.
35- المقامة الانطاكية: تتضمن مخاصمة ليلي للخزامى بدعوى أنها زوجها وتزويجه إِياها من القاضىٌ بعد طلاقها ثم فرارها منه.
36- المقامة الطائية: و فيها ذكر مآثر الطائيين و مسائل فـى فقه اللغة.
37- المقامة العدنية: و فيها مآثر أهل اليمن و عدوي الخزامى انه اشتري رجباً و قضي نصف ثمنة و تسببه فـى النصف الباقى.
38- المقامة الحميرية: و فيها مباحث لغوية و مسائل شتي فـى فقه اللغة.
39- المقامة الانبارية: تتضمن دعوي ليلي علي رجلٍ أنه قتل أباها و مجيئها بالخزامي و رجب شاهدين عليه.
40- المقامة الجدلية: و فيها مساجلة فـى التفضيل بين العلم و المال.
41- المقامة التهامية: و فيها خطبة فـى صلح و سرد قيود الأصوات.
42- المقامة المضرية: تتضمن دعوي الخزامى أن له سبيةً يطلب فكاكها و هو يعني الخمر.
43- المقامة البحرية: و فيها خطبة فـى فرية لغة العرب و إلقاء مسائل فـى النحو.
44- المقامة الحلية: و فيها معمّيات و أحاجى.
45- المقامة الفراتية: و فيها الألفاظ التـى تتنازعها الضاد و الظاء.
46- المقامة السخرية: و فيهااختصام الخزامى ورجب.
47- المقامة الرصافية:و فيها ذكر مايطلق علي الخيل و الإبل باعتبار الأسنان والألوان.
48- المقامة اللاذقية:تتضمن خطبةالخزامى علي تلامذة بعض الشيوخ والقصيدةالتـى اعجازهاتهاجيء.
49- المقامة اللبنانية:وفيهاذكرفروق لغويةوقيود القطع والكسروالحصص.
50- المقامة الحموية:وفيهاالخطبة التـى ظاهرها منكر و باطنها معروف.
51- المقامة اليمامية: تتضمن مخاصمة الخزامى لرجب و دعواه انه أعجمى لا يحسن اللفظ العربـى و الأبيات التـى إِذا جرت علي لفظ العجم أدَّت إِلي معانٍ فظة.
52- المقامة العمانية: و فيها قيود المساكن والسعة و الامتلاء و الخلاء.
53- المقامة الغزّية: تتضمن دعوي الخزامى علي رجل انه قتل نديماً يريد به كتاباً و جمعه الدية من القوم.
54- المقامة السوادية: و فيها مسائل فـى دقائق النحو و الصرف.
55- المقامة الدمياطية: تتضمن اختصام رجب و ليلي علي أنها امرأته و تطليقه لها احتيالاً في تحصيل المهر.
56- المقامة الاسكندرية: و فيها مسائل فـى الفقر و البيان و المنطق و مطارحة أشياء من أحاجى العرب.
57- المقامة النجدية: و فيها إِيراد أشياء من غريب اللغة و قديمها.
58- المقامة العكاظية: و فيها قيود لغوية شتي.
59- المقامة المكية: تتضمن حج الخزامى و خطبته علي الحجاج.
60- المقامة القدسية: تتضمن خطبةالخزامى فـى المسجد الأقصى وتوبته.
مجمع البحرين يكون من أبرز النتاج الفكرى للشيخ ناصيف.الذى صدرت الطبعة الأولي عام 1856م عن المطبعة الأميركية فـى بيروت و هو يقع فـى 432 صفحة منها 424 صفحة خاصة بالمقامات التـى وضعها الشيخ ناصيف اليازجى مضاف إليها ثمانـى صفحات منها ست صفحات من التقاريظ للكتاب و صفحتان للفهرس مع فقرة طويلةواراده فـى الصفحة 432 يبين فيها اليازجى بعض الأخطاءالمطبعية فـى كتابه مع الإشارة فـى نهاية هذه الصفحةالأخيرةإلي ان «مجمع البحرين» قد طبع فـى بيروت سنة 1856م مسيحية بنفقة الخواجا نخلةالمدورعلماًان فـى الصفحة 425 من مؤلفه أوردناصيف اليازجى مايلي:«و كان الفراغ من تبييض هذاالكتاب فـى شهر نيسان من سنة 1855م للمسيح و قداعتني بطبعه الخواجا نخلةابن المرحوم الخواجا يوسف المدوّر البيروتى غيرة منه علي إفادة القاصرين و تنشيط الفاترين»
المصادروالمراجع
1- البستاني، بطرس: أدباء العرب فـى الاندلس و الانبعاث، دارالجيل، لبنان، بيروت، 1997م.
2- البستاني، فؤاد افرام: الروائع (الشيخ ناصيف اليازجى)، دارالمشرق، بيروت، الطبعة الثالثة، 1998م.
3- البقاعى، شفيق: أدب عصر النهضة، دارالعلم للملايين، 1990م.
4- خورى، رئيف: الفنون الادبية و أعلامها فـى عصر النهضة العربية الحديثة.
5- الدسوقي، عمر: فـى الادب الحديث، دارالفكر للطباعة، الطبعة الثامنة، بلا تا.
6- الزيات، احمد حسن: تاريخ الادب العربـى، دارالمعرفة، الطبعة الثانية عشر، 1430ه . ق/ 2009م.
7- زيدان، جرجي: تراجم مشاهير الشرق فـى القرن التاسع عشر، الطبعة الثالثة، مصر، 1922م.
8- _______ : تراجم مشاهير الشرق فـى القرن التاسع عشر، دار مكتبة الحياة، لبنان، بيروت، 1390ه . ق.
9- سابا، عيسي ميخائيل: نوابغالفكر العربـى (الشيخ ناصيف اليازجى)، دارالمعارف، بيروت، 1405ه . ق/ 1985م.
10- شكيب انصاري، محمود: تطور الادب العربـى المعاصر، انتشارات دانشگاه شمران، اهواز، الطبعة الثالثة، 1382ه . ش.
11- عبود، مارون: مؤلفات مارون عبود، المجموعة الكاملة فـى الدراسة، دار مارون عبود، بيروت، الطبعة الثانية، 1983م.
12-الفاخورى، حنا: تاريخ الادب العربـى، انتشارات توس، طهران، الطبعة الثانية، 1383ه . ش.
13-لجنة من أدباء الاقطار العربية: الفن القصصي، المقامة دارالمعارف، مصر، قاهرة، 1954م
14- مجدى وهبه و كامل المهندس: معجم المصطلاحات العربية فـى اللغة و الأدب، مكتبة لبنان، الطبعة الثانية، 1984م.
15- المقدسى، أنيس: تطور الاساليب النشرية فـى الادب العربـى، دارالعلم للملايين، بيروت، الطبعة الثامنة، 1989م
16-نورعوض،یوسف:فن المقامات بین المشرق والمغرب،دارالقلم،بیروت،1979م
17-هيئة المعجم: معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، الطبعة الثانية، 2002م.
17- اليازجى، ناصيف، مجمع البحرين، دار بيروت و دارصاد للطباعة و النشر، لبنان، بيروت، 1377ه . ق/ 1958م.
1