![](IMG/img_trans.png)
![](IMG/img_trans.png)
خُطَب صدر الإسلام
(من الطَّور الشَّفوي إلى طَور الحِفظ والتدوين)
حدَّثنا (ذو القُروح)، في المساق السابق، عمَّا زعمه افتراءً على (الجاحظ، ـ255هـ)، من خلال رواية معنعنة عن (زكي مبارك)(1)، الذي قال: إنَّ «الجاحظ يحدِّثنا أنَّ خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات. ومعنى هذا أنَّ خُطَب عَليٍّ كانت معروفة قبل الشَّريف الرَّضِي.» مع أنَّ الجاحظ لم يقل: «إن خُطَب عَليٍّ وعُمَر وعُثمان كانت محفوظة في مجموعات»، كما زعم (زكي مبارك)، بل قال: «هذه خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة، وهذه خُطَب أبي بكر، وعُمَر، وعُثمان، وعَليٍّ، رضي الله عنهم.»(2)، وسكتَ. ثمَّ أردفَ ذو القُروح:
ـ كما زعم مؤلِّف كتاب «مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده»(3) أنَّ (الجاحظ) قد ذكر: أنَّ «خُطَب عَليٍّ، عليه السلام، كانت مدوَّنة محفوظة مشهورة»! فبدَّل كلام الجاحظ السابق تبديلًا؛ فحين قال الجاحظ: «خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة»، جعل صاحب «المصادر» مكان «رسول الله»: «عَليًّا، عليه السلام»!
ـ لكن هل صحيح أنَّ «خُطَب رسول الله مدوَّنة محفوظة، ومُخلَّدة مشهورة»، كما قال (الجاحظ)؟
ـ يظلُّ كلام (الجاحظ) كلامًا تعميميًّا، لا يصحُّ أن يُفهَم فهمًا حرفيًّا؛ وإلَّا فأين «خُطَب رسول الله المدوَّنة المحفوظة، والمُخلَّدة المشهورة»؟! كما تساءلنا من قبل. بل ستجد في بعض الكتب تصحيف «مُخلَّدة» إلى «مُجلَّدة»! وقد ذكر محقِّق كتاب الجاحظ أن الكلمة كذلك في بعض النسخ. بالرغم من أنَّ ما دُوِّن منها في التراث لا يعدو مقاطع من خطبته في حجَّة الوداع، إضافةً إلى مقطوعات، معظمها ممَّا ورد في ثنايا الحديث النبوي. وقد سبق كلامنا حول هذا. أمَّا خُطَب (أبي بكر)، و(عُمَر)، و(عُثمان)، و(عَليٍّ)، فلم يقُل الجاحظ إنها: (لا مدوَّنة، ولا مخلَّدة، ولا مجلَّدة)، وإنَّما ألمحَ إلى أنها مرويَّة، أو مرويٌّ عنها، على كلِّ حال؛ تشجيعًا لصاحبه على التأسِّي والإقدام على الخطابة. هٰذا، وكثيرًا ما يتجوَّز الجاحظ في كلامه؛ حتى لقد اتَّهمه (المسعودي)(4) بأنَّه لا ثقة بما يروي؛ واصفًا إيَّاه بأنَّه: «إنَّما كان حاطبَ ليل، ينقل من كُتب الورَّاقين.» على أنَّه- بالنظر إلى كتاب الجاحظ نفسه، الذي نُسِب إليه ما نُسِب، وهو «البيان والتبيين»- لم يورِد لعَليٍّ غير أربع خُطَبٍ موجزة.(5) هي من «النَّهج»، بحسب ترتيبها في كتاب الجاحظ: الخطبة السادسة عشرة، والثامنة والعشرون، والسابعة والعشرون، والتاسعة والعشرون. مع اختلاف بين الكتابَين في بعض الصِّيغ، ونقصٍ أو زيادةٍ في بعض الفقرات، وتفاوتٍ في الترتيب. وعَرَضَ في أجزاء متفرقة من كتابه لفِقَرٍ مقتضبةٍ من بعض خُطَب عَليٍّ، وذلك في أربعة مواضع.(6) وأشار مرَّتين إلى بعض أدعيته في زيارة المقابر. وأحيانًا كان، كغيره من المؤلِّفين، يورد عَرَضًا بعض العبارات الحِكْميَّة المنسوبة إلى الإمام، وفيها تكرار.(7)
ـ على أنْ ليس المهمَّ أن يكون قد أخذ (الشَّريفُ الرَّضِيُّ) عن مصادر ما، بل المهمُّ مدَى موثيقيَّة تلك المصادر!
ـ صحيح. أمَّا الاسترسال إلى القول: لقد كانت ثمَّة مصادر «للنَّهْج» قَطْعًا، وهي موثوقة جِدًّا، قَطْعًا أيضًا، لكنَّا لا نعرفها، فقد اخترمتها عوادي الأزمان؛ لما نال المكتبة العَرَبيَّة الإسلاميَّة، كما تعرفون، من تلفٍ وإتلاف، فجوابه أن يُقال:
وما نَفْعُ المصادرِ حِين تُمسي ::: حديثَ خُرافةٍ، يا أمَّ عَمْرِو؟!
ثمَّ إنَّ علينا، قبل التغنِّي بـ«المصادر»، أن نُحرِّر معنى هذا المصطلح في تراثنا العَرَبي، وكذا المصطلح المرادف له، وهو مصطلح «كتاب». ذلك أنَّه يَقِر اليوم في السمع وفي المخيال، عندما نقرأ مصطلح «كتاب»، أنه كتاب، كما نعهد الكُتب، في مئات الصحائف، أو كُتيِّب في عشراتها. وهذا غير صحيحٍ، بالضرورة، فقد يُطلَق مصطلح «كتاب» في التراث العَرَبي على المكتوب عمومًا، وإن كان رسالة في بضع صحائف، أو حتى في صحيفة واحدة.
ـ هل من شاهد؟
ـ الشواهد كثيرة. لكن الشاهد على ذلك- في هذا السياق- يمكن أن يتمثَّل من خلال ما يشار إليه بكتابٍ منسوبٍ إلى (الجاحظ) أيضًا، عنوانه «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب»(8)، وقد يَعُدُّون هذا «الكتاب» في جملة مصادر «نَهْج البلاغة».
ـ فما حجم هذا الكتاب؟
ـ إنه لا يعدو، في مخطوطه، نحو 7 صحائف! إذا استبعدنا الشروح المرافقة. تتضمَّن مقولات حِكميَّة منسوبة إلى (عَليٍّ)، مع شرحها باللُّغة الفارسيَّة. وعلى كلِّ صحيفةٍ بضعة أسطر فقط، على كلِّ سطر جملةٌ واحدةٌ من مقولات عَليٍّ، تختلف طولًا وقصرًا، كعبارة «قيمة الإنسان ما يحسنه»، أو «الناس نيام، فإذا ماتوا، انتبهوا»، أو «الناس بزمانهم أشبه من آبائهم». فهذا الكتاب، إذن، مع الشروح الفارسيَّة، يقع في أربع عشرة صحيفة، لا أكثر!
ـ هذا كلُّ ما في هذا المسمَّى كتابًا؟!
ـ نعم. بل إنَّ السؤال، قبل ذلك كلِّه، هو سؤالٌ ثقافيٌّ حضاري: عن رحلة نصوص شفويَّة، قيلت منذ ما قبل 21 رمضان 40هـ= 27 يناير 661م- وهو تاريخ وفاة (عَليٍّ، رضوان الله عليه)- إلى ما بعد 380هـ تقريبًا؛ لأن (الرَّضِي) وُلِد 359هـ وتوفي 406هـ؟ فأنت هنا أمام قُرون متطاولة، تعاقبت فيها أجيال وأجيال، بل توالت دُوَل على العالم الإسلامي شرقًا وغربًا، في مدَى ما بين (340 سنة و350 سنة). أمَّا إنَّ كان واضع «النَّهْج» هو (الشَّريف المرتضَى)، فربما كانت المدَّة أطول؛ لأنه توفي بعد أخيه بثلاثين سنة، 436هـ.
ـ إنْ صحَّ ذلك، فتلك معجزة!
ـ هذا كلامٌ لهُ خَبِيءٌ ::: معناهُ ليسَ لنا عُقولُ!
ذلك أنَّ كتاب الله- الذي قال الله عنه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، ومع أنَّ بعضه كان مدوَّنًا فعلًا، وكان للرسول كَتَبَة وَحْيٍ يُملي عليهم، ثمَّ هو، إلى ذلك، ما ينفكُّ يُتْلَى آناء اللَّيل وأطراف النهار- ما أن مرَّت عشرون سنة من وفاة الرسول (يوم الاثنين، ربيع الأوَّل 11هـ)، حتى نَذِر الصحابة بخطورة ضياعه واختلاطه، فبادروا إلى جمعه بين دفَّتَي مصحف، في عهد (عُثمان، ـ35هـ)، واستبعاد ما سواه من أن يُعَدَّ قرآنًا.
ـ بل كان استشعار ذلك قبل عهد (عُثمان)، في عهد (أبي بكر) و(عُمَر)، وإنْ لم يتمَّ ذلك إلَّا في عهد عُثمان.
ـ فكيف بسِواه من الكلام البَشَري الشَّفوي؟!
ـ سيقولون لك: لا «النَّهْج»، ويا لله العجب، لا يقاس على غيره، فلقد كُتِب له الخلود بسهولة، وقُيِّض له خَرْق نواميس التاريخ والذاكرة البَشَريَّة على نحوٍ إعجازي!
ـ لك أن تقارن 350 سنة، في قِصَّة رحلة «النَّهْج» من الشَّفويَّة إلى الجمع والتدوين، بعشرين سنة فقط في رحلة «القرآن» من طَور الشَّفويَّة- مع وجود وثائق مخطوطة عن الرسول مباشرةً- إلى طَور الجمع والتدوين! وأمَّا تصرُّف (الشَّريف الرَّضِي) في النصوص التي كانت بين يدَيه، فهو بنفسه، في مقدِّمته، يشهد بوقوعه منه، ولا يحتاج منَّا إلى تبيان. حيث ذكر أنَّ الروايات التي كانت بين يديه من كلامٍ منسوبٍ إلى عَليٍّ كانت «تختلف اختلافًا شديدًا»!(9)
ـ فكيف صار الاختلاف، إذن، بين روايةٍ وروايةٍ وروايةٍ، وصياغةٍ وصياغةٍ توفيقيَّة، أو تلفيقيَّة، اجتهد (الشَّريف) في إخراجها؟!
ـ صار ذلك كلُّه «نَهْج البلاغة»! وقد قلنا إنَّ هذا أمرٌ طَبَعيٌّ في كلِّ نصٍّ منقولٍ بالمشافهة، ولاسيما إذا كان نثريًّا. وضَرَبْنا على ذلك مثلًا بخطبة (أبي بكر الصِّدِّيق) في (سقيفة بني ساعدة)، التي تبدو في مصادر التراث المختلفة خُطَبًا مختلفةً لا خطبة واحدة. ومن هنا يبدو مكابرةً الزعمُ أنَّ خُطَب (أبي الحَسَن) كانت وحدها استثناءً في هذا الأمر التداولي؛ فبقيت معنًى ومبنًى عبر القرون، ومن ثمَّ فهي «نَهْج بلاغته» هو، لا نَهْج بلاغة الرَّضِي، الذي اشتغل على تحريرها في كتابٍ تعليميٍّ لطلبة البلاغة.
ـ وإنْ صحَّ القول: إنَّه كان يتكئ على معاني عامَّة بَلَغَتْه عبر المرويَّات الشَّعبيَّة من أخبار الإمام.
ـ وهنا موطن الشكِّ، ولُبُّ الخلاف مع من يَعُدُّ «نَهْج البلاغة»: نَهْج بلاغة (عَليِّ بن أبي طالب) حرفيًّا. وهذا ما لم يزعمه (الشَّريف) أصلًا في عنوان كتابه، بل وَسَمَه بـ«نَهْح البلاغة»، دون تقييد بعَليٍّ، كأنْ يقول: «نَهْح بلاغة عَليِّ بن أبي طالب».
وهذا يشي، من خلال العنوان، أنَّه أراد القول: هذا الكتاب طريق البلاغة لمن أراد تعلُّمها والدُّربة على أساليبها، من خلال تلك المرويَّات من النصوص التطبيقيَّة المختارة. ثمَّ كتبَ في مقدِّمته- لو كان هؤلاء يقرؤون-: «ورأيتُ من بَعدُ تسميةَ هذا الكتاب بـ»نَهْج البلاغة»؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها، ويُقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبُغية البليغ والزاهد.»(10) على حين بلغ الحماس ببعض إخواننا إلى القول: بل هو لعَليِّ.. ولو طار، من ألفه إلى يائه، مبنًى ومعنًى، بلا مثنويَّة، ومن زعمَ غير هذا، أو شكَّ، أو تساءل، فلا يلومنَّ إلَّا نفسه، فقد نَصَبَ، أو هو سَلَفيٌّ وهَّابي، في أهون الأحكام عليه!
[للحديث بقيَّة].
(1) (1957)، النثر الفنِّي في القرن الرابع، (مِصْر: مطبعة السعادة)، 1: 69.
(2) الجاحظ، (1998)، البيان والتبيين، تحقيق وشرح: عبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 200- 201.
(3) لـ(الخطيب، عبدالزهراء)، (بيروت: دار الأضواء، 1985)، 1: 50.
(4) المسعودي، (1978)، مُرُوْج الذَّهب ومعادن الجوهر، عُني بفهرسته: يوسف أسعد داغر، (بيروت: دار الأندلس)، 1: 67.
(5) يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 2: 50- 56.
(6) يُنظَر: م.ن، 2: 77- 78، 101، 190- 191، 3: 301.
(7) يُنظَر: م.ن، 3: 148، 155.
(8) منه نسخة مخطوطة في (مكتبة مكَّة- مخطوطات)، التابعة لوزارة الحجِّ والأوقاف، سُجِّل على غلافها تصنيفًا: أدب 7.
(9) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 80.
(10) م.ن، 81.