

حين صرت أبي
أنظر إلى المرآة فلا أرى نفسي!
لست أعني تلك الخطوط التي خطّها الزمن على وجهي المتعب، ولا تلك الخصل البيضاء التي خالطت سواد شعري. بل وجهاً مألوفاً قد غاب عن ناظري منذ عقدين من الزمن!
تلك العيون الضيقة التي أصبحت تنظر إلى ما يحيط بها بهدوء يخالطه اليأس، والذقن المدببة، والجبهة العريضة، وذلك الوجه وتقاسيمه التي تخلو من أي انفعال، إذ لقي صاحبه من أحداث الدهر ما لقي!
لقد عاد أبي إلى الحياة، إنني أرى وجهه على المرآه، إنني أرى كل الخيبات والهزائم التي مُني بها في حياته، إنني أرى وجهاً حاولت لسنوات طويلة الهروب منه، فإذا بصاحبه يلاحقني الآن، يسكن تجاعيد وجهي، يطلّ من عيني، يشّع وقاره من سكوني الثقيل!
وضعت يدي المرتعشة على المرآة أتحسس فيها هذا الوجه، أتذكر ضحكاته القديمة في أيام مضت بلا عودة، وكلماته القاسية، يداه الخشنتان وهما تصلحان دراجتي القديمة، وتحملاني عن الأرض في سنواتي الأولى من هذه الحياة، وكأني أسافر في الزمن عبر هذه المرآة التي أصبحت نافذة تطل على الماضي السحيق.
قبل أربعة عقود من الزمن، أراني أتناول كتاباً من مكتبته وأجلس إلى جانبه وأقرأ دون أن أفهم شيئاً مما في الكتاب، أركض إلى النافذة صباح كل يوم وأنا حزين لمغادرته المنزل إلى وجهة أجهلها في ذلك الوقت وأعرفها الآن جيداً، ثم يعود مرهقاً وكأن العالم كله على كتفيه!
ثم تمضي السنوات، وتنثر بذور الصراع النفسي الأعمق في صدري، وتشمر حرب الأب وابنه عن ساقها، تلك الحرب التي يخسر فيها طرفيها، فالأب يقاتل لأجل سلطته، والابن يقاتل لأجل حريته. والنتيجة، يفقد الأب سلطته ولا ينال الابن حريته! ويشعر الأب بالفشل ويتجرع الابن مرارة الهزيمة. لقد وعيت ذلك مبكراً فاخترت الهروب من هذه الحرب الخاسرة حتى يطوي الزمن صفحتها بموت أحدنا.
كيف انهار هذا الرجل القوي الذي لطالما تمنيت أن أكون مثله عندما كنت صغيراً؟ كيف اختزلته الحياة في عجوز كئيب لا ينطق في اليوم أكثر من عشر كلمات؟ أهذا مصير كل الآباء؟ كيف نجحت الحياة في تحطيم صورة هذا البطل في عيني؟ كيف رسمت له هذه الصورة المتواضعة؟
لقد رحل أبي وترك لي إرثاً ثقيلاً من الذكريات والمشاعر المركبة، فأنا أحبه وأكرهه في آن، أشتاق إليه ولا أطلب حضوره، أطمئن إذا نظرت إليه وأخاف في ذات الوقت.
أبحث عن جسر بين الماضي والحاضر، بين الصبي الذي كنت وأبي الذي كان. أسمع صدى صوته في داخلي، كلماته القاسية، وتوقعاته التي لم أستطع الوفاء بها، والانتقادات التي غرست في نفسي بذور الخوف من الفشل.
وفي صمت تلك اللحظة، أدركت حقيقة مؤلمة؛ ليس أبي فقط من رحل، بل جزءاً نقياً مني قد غادر معه، وكلما حاولت استرجاع ذلك الصبي بداخلي، أجد أن يدي تمتد إلى فراغ لا ينتهي، وأن الجسر بين الماضي والحاضر قد انهار تحت وطأة العمر والخذلان.
وضعت رأسي على المرآة، وأغمضت عيني، محاولاً أن أبتلع كل هذا الحزن، لكن الدموع انهمرت رغماً عني، ثم فتحت عيني ونظرت إلى المرآة فوجدت أبي يبتسم لي. تحسست وجه أبي بيدي وابتسمت له، وبدا لي أن ابتسامته تحمل اعتذاراً صامتاً، وفهماً لم يعرفه الكلام، وحباً لم يتبدد رغم كل الخيبات والهزائم.
أيقنت في تلك اللحظة أنني قد فشلت حتى في الهروب إذ كان أبي معي دائماً؛ بضعفه وقوته، بابتسامته وكلماته ونظراته، حتى بأخطائه! وما كانت حربي معه إلا حرباً مع نفسي، وأن أبي لن يفارقني ما حييت!