

حوار مع الكاتب المغربيّ الدّكتور عبد الرّحمن الوادي
موجز السّيرة الذّاتيّة للضّيف المبدع:
عبد الرحمن الوادي/7 أكتوبر 1966
دكتوراه في علوم اللغة العربية من جامعة محمد الخامس عام 1999
لديه ديوانا شعر:
ألسنة الماء 2012/دار الوطن/الرابط
المجداف 2018/مطبعة الألوان الذهبية
وديوان قيد الطباعة، والعديد من المؤلفات المسرحية، والقصصية.
رئيس بيت المبدع بخريبكة
حصل على بعض الجوائز في أجناس أدبية متعددة.
تقيمُ في حيّ الليمون في خريبكة المغربية، حدثنا عن جمال مدينتك، وبم تشتهر بالإضافة إلى الفوسفات، وعن أثرها في كتاباتك الأدبية.
أنحدرُ من مدينة أبي الجعد، وهي مدينة صغيرة لا تفصلها عن مدينة خريبكة سوى مسافة خمسين كيلومتراً.
اِرتبط وجود الأولى بالسماء؛ زاوية دينية تأسست في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، بينما ارتبط وجود الثانية بالأرض، باكتشاف الفوسفات في عشرينيات القرن الماضي باحتياطي كبير جداً، خوّلها أن تكون عاصمته العالمية، لكن للأسف ويا للعار لا يصيب أهلها من هذه الثروة الهائلة إلا الغبار، والأمراض الفتاكة والقاتلة. إنها مدينة الغبار، المدينة المغبونة.
قرَّ قراري بها منذ حوالي عقدين من الزمن بسبب العمل، وطبيعي أن يكون لها حضور في نصوصي، وهكذا خصصت لها قصيدة "البحر المتورّط" في ديواني الثاني (المجداف)، وقصة "الغبدّار" في أضمومتي القصصية الثانية (البغل الذي ابتلع القمر).اسم البطل؛ وهي كلمة منحوتة من ثلاثة ألفاظ: الغار + البار + الدار. الأماكن التي كان يدور عمال المنجم في حلقتها المفرغة.

كيفَ انطلقَ القلمُ للمرَّة الأولى، وما النّصّ الّذي كتبه، ومن كان القارئ الأوّل له؟
عادةً ما تحدثُ التباشير والإرهاصات الأولى للكتابة في السنوات المبكرة من المدرسة، لا سيما مع معلم العربية في حصة الإنشاء.
أنتمي إلى الجيل الذي جاء إلى الفصل مهيّأً من المسيد.
يحمل في صدره القرآن، وفي يمينه اللوح والقلم، وفي عينيه العالم كاملاً.
ثم كان لا بد لي ـ حين اشتد عودي ـ أن أتخطى عتبة باب مؤسسة"دار الشباب" إلى داخل أنشطتها التربوية والثقافية بغية التصديق على موهبتي؛ حيث تنوعت وتعددت أعمالي خلال هذه المرحلة، وكان لأغلبها صدى طيب لدى المتلقي.
ولعل الشريط الغنائي الأول من نوعه بالمدينة الذي سجلناه للأطفال مع الأطفال سنة 1998 ما زال شاهداً على هذا.
ثم حلت مرحلة الانفتاح على القراء الافتراضيين في العالم العربي بأسره، مع ظهور الإنترنيت والمواقع الأدبية كموقعكم هذا، وموقع (دروب)، وغيرهما. قبل أن تحلّ محلّها مواقع التواصل الاجتماعي.
في الغالب الأعم، تكون زوجتي هي أول من أطلعهُ على كتاباتي، إلى جانب أصفيائي من الأصدقاء.
بمرآة الحاضر كيف ترى نصوصَ الماضي، وهل أنتَ ناقدٌ حصيفٌ لنفسِك؟
النصوص الإبداعية مثلها مثل أولاد الرجل من صلبه؛ فيها الصالح وفيها العاق، ليست جميعها على منوال ولا على مزاج واحد أوحد.
الكاتب بطبيعة الحال هو الناقد الأول لنصوصه، لكن نقده هذا يظل ذاتياً ناقصاً؛ لأنه نقد من الداخل، يلزمه نقد ثان من الخارج، خارج الكبسولة، بعين أخرى غير عينه، ترى ما لا يراه.
لقلة النقاد الحقيقيين مقارنة بعدد المبدعين، لن يستطيع النقد مواكبة الإبداع كما ينبغي ويجب.
فعلاً هناك نصوص تفقد بريقها مع مرور الوقت، وتبدل الأحوال فيكون مصيرها التلف والإهمال.
أكره ما أكره المسوّدات، لا أطيق بتاتاً مشاهدتها أمامي، أتخلص منها بسرعة، وقد كفاني هذا الشر ظهور الحاسوب. أعتبرها نسخاً مشوهة وممسوخة للنص قبل اكتماله على أحسن وجه.
كيفَ ترى الحركة النَّقديَّة في المغرب العربيّ، ومن أبرز مَن كتبَ عن نصوصك الأدبيَّة؟
عرفَت الحركة النقدية المغربية في الآونة الأخيرة طفرة نوعية مهمة؛ لا سيما في مجال السرديات، فهي لا تفتأ تسجل حضورها القوي بين الفينة والأخرى في مختلف المسابقات العربية.
هناك مجموعة من النقاد الذين تناولوا بعض أعمالي بالدرس والتحليل.
أذكر من المغاربة: د. بديعة لفضايلي، د. الشرقي نصراوي، د. عمرو كناوي، ذ. محمد إدارغة، ذ. مصطفى فرحات، ذ. توفيق حماني، ذ. حميد ركاطة، د. عبد الكبير الحسني، ذ. الحسين والمدني، ذ.عبد المطلب عبد الهادي، ذ. سعيد محتال.
ومن غير المغاربة: د. وائل فؤاد من مصر، ود. يوسف رحايمي من تونس.
أجدد لهم جميعاً هنا أخلص معاني المحبة والتقدير.

تكتبُ عدَّة أجناسٍ أدبيَّةٍ، لا شكَّ لكلّ نوعٍ أدبيّ متعتهُ، ماذا يُعطيكَ كلُّ جنسٍ أدبيٍّ؟
وجدتُني مُصادفةً، ودون سابق إشعار أتنقل بين مواطن الشعر، والقصة، والمسرحية إلى جانب السيناريو؛ وهذا الأخير عمل تقني لا يدخل في نطاق الأدب.
ووجدتني أميل أكثر إلى المسرح، إلى درجة أنني بعد حصولي على شهادة البكالوريا ذهبت مباشرة لاجتياز مباراة ولوج المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي أول ما فتح أبوابه بالعاصمة الرباط، لكنني لم أجد فيه ضالتي؛ إذ لا يُدرّسون به تقنيات التأليف المسرحي.

إنَّ خوض غمارها مجتمعة عملية مضاعفة من المشقة والتعب، غير أنها ممتعة بشكل مضاعف في الوقتِ نفسِه.
الفراشة التي تتنقل بين زهرات مختلفة اللون والطعم، تنتج عسلاً مختلفاً شرابُه.
تفضيلي للمسرح يفسره عاملان اثنان:
أولا، فهو أبو الفنون، يمكنني فيه ممارسة كل أنواع شغبي من شعر وحكي ووو.
ثانياً، وهذا هو الأهم؛ لأنه غير متاح في غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، يمكنني معانقة شخصياتي بعد العرض على الركح وقد أضحت من لحم ودم.
(ألسنةُ الماء، والمجداف)، ديوانان مطبوعان، والثّالث قيد الطّباعة بعنوان (أسكبُ رأسي في جرَّة مكسورة)، هل هي مصادفة أن تكون عناوين دواوينك لها علاقة بالماء؟
(لو انتبهتِ إلى نِسبتي، لما سألتني هذا السؤال. أمزح معك فقط.)
الديوان الأول (ألسنة الماء) الصادر عام 2012 بالرباط جمعتُ فيه ما تفرّق من أشعار الدهشة الأولى التي اجترحتها على مدى سنوات دراستي بكلية الآداب.
قصائده خليط ما بين الخليلي والتفعيلي والمنثور.
الديوان الثاني(المجداف) الصادر سنة 2018، يضم خمسَ عشرة قصيدة، كل قصيدة جاءت على بحر من بحور الشعر الخليلية، إلى جانب فاتحته التي جاءت أبياتها الثلاثة على بحر الرجز.
أما الديوان الثالث (أسكب رأسي في جرة مكسرة) الذي على وشك الانتهاء منه، أعتقد جازماً أنني قد اهتديت فيه أخيراً إلى القلعة التي تتحصن فيها الأميرة الحسناء: القصيدة.
ما أبرز أعمالك المسرحيَّة، وما سرُّ (عودة سندباد إلى بغداد) حتَّى نالت عدَّة جوائز؟
صدقيني إذا قلت لك إنني حتى اليوم لا أعرف كيف كتبت مسرحية "عودة سندباد إلى بغداد" كأول نص مسرحي أكتبه في حياتي سنة 1998، وسلمتها مباشرة إلى صديقي المولودي المنصور عميد المسرح بإقليم خريبكة الذي استحسنها، وقام على التو بإخراجها مع فريق من تلاميذه؛ حيث شارك بها في السنة الموالية في أول دورة من مهرجان المسرح المدرسي بمدينة خريبكة، وحازت على الجائزة الثانية.
بعد ذلك، نشرتها في موقع "مسرحيون"؛ الذي أسسه الكاتب والناقد المسرحي العراقي الراحل قاسم مطرود، حيث تلقفها مخرجون من مصر، والسعودية، والأردن، حصدوا بها جوائز كبيرة ومهمة في مهرجانات مسرحية معروفة.
كما اكتشفت أن بعضهم اشتغل عليها دون علمي، وكان هذا مدعاة لفخري واعتزازي بهذا العمل الجميل.
هناك مسرحيات أخرى شعرية وغير شعرية موجهة للأطفال كان لها نصيبها من الاشتغال والاحتفاء.

أما بالنسبة للمسرح الموجه للكبار، فقد كتبت مسرحية (حطة الرما) وهو عمل يحتفي بفن من فنون التراث الغنائي الشعبي المغربي العريق؛ ألا وهو فن "عبيدات الرما" ومعناها بالفصيح"عبيد الرماة/الصيادين". لا يسع المجال هنا للحديث عنه بتفصيل. نشرته وزارة الثقافة المغربية، واشتغلت عليه طالبتان من الجزائر، وطالبة من المغرب كموضوع لأبحاثهن.
ما مضمون فيلمك السّينمائيّ الفائز بمرَّاكش عام 2023؟
وهل حوَّلتَ سيناريوهاتك إلى أعمال تلفزيونيَّة؟
هو سيناريو فيلم قصير وليس فيلماً، يحمل عنوان (البلح). شاركت به في مسابقة خاصة بكتابة الفيلم القصير بمراكش سنة 2023، وحاز على الجائزة الثانية من بين 44 مشاركة.
يجمع ما بين ما هو تخييلي وما هو وثائقي، أحكي فيه عن أول رحلة صيفية لي وأنا فتى يافع إلى قرية أمي بمنطقة الراشيدية، إلا أن تنفيذه يستلزم إنتاجاً خاصاً كبيراً.
قبل شهرين تقريباً، تم تصوير فيلمين قصيرين كتبتهما بمنطقة جبلية في أحضان الأطلس المتوسط. هما الآن في المرحلة الأخيرة من التوضيب. أحدهما من إخراج الصديق بوشعيب المسعودي الذي سبق له إخراج فيلم قصير آخر لي قبل سنوات، وثانيهما من إخراج الصديق مجاهد جبير.
بعد التمرس في كتابة سيناريو عشرات الأفلام القصيرة، حُق لي الآن أن أخوض تجربة كتابة سيناريو الفيلم الطويل، والانطلاق في هذه المغامرة الجميلة من محطة الفيلم التلفزي؛ لكونه أسهل على المستوى التقني مقارنة بالفيلم السينمائي.
ما أهمّيَّة الأدب المُقاوِم في هذه المرحلة العصيبة الَّتي تمرّ بها غزَّة؟
لا أجد له أدنى أهمية تذكر في الوقت الرهن والعالم يشاهد عبر الشاشات ما يتعرض له نهاراً وجهاراً المدنيون العزل في غزة من أطفال، ونساء، وشيوخ من وحشية صهيونية إمبريالية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية جمعاء، وسط خذلان وتواطؤ الأنظمة العربية والإسلامية، وصمت الأمم المتحدة.
أشعر بمرارة كبيرة وأنا أراني عاجزاً معقود اللسان، والبنان أمام ما يجري من دماء بريئة.
أحيي المقاومة الصامدة التي تقف شامخةً وحدها في وجه العدو الغاشم الذي لا يفهم إلا لغة القوة، رغم التنكيل والتجويع المتواصلين.
لقد صدق أبو تمام حين قال في بائيته المشهورة:
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
الكلمة تكون كلمة حين تكون الأمة أمة.
(الثَّالوث المقدَّس)، قصيدتك الفائزة بالمركز الأوَّل بجائزة الشّعر في الرّباط عام 2001، ما هو هذا الثّالوث؟
وحبّذا لو تختار لنا بضعة أبيات منها.
يوم أعلنت إحدى الجمعيات الثقافية الكائنة بالعاصمة الرباط عن مسابقة وطنية في الشعر في شهر فبراير من عام 2001، صادف هذا الإعلان وجودي، واستقراري بالمدينة، فتقدمت إليها مع مجموعة من المشاركين القادمين من مختلف ربوع المملكة. وكان من ضمن شروطها أن يلقي كل مشارك قصيدته أمام لجنة التحكيم، برئاسة الشاعر العراقي الراحل فراس عبد المجيد، وكان وقتها المشرف على الصفحة الثقافية لجريدة الميثاق الوطني.
كعادتي دائماً مع الشعر، لا ألقيه إلا شفاهة، لقناعتي التي لا ينازعني فيها منازع بأنه فن شفهي بالدرجة الأولى. يحضر الخط فحسب فيما بعد لتقييده في السطور مخافة أن يذهب من الصدور. ولا جرم أن هذا المعطى أضحى أحد نقاط قوتي التي رجحت كفتي، لأحصل على الجائزة الأولى، وكانت عبارة عن رزمة من دواوين الشاعر المغربي المتميز عبد الله ازريقة.
أما فيما يخص سؤالك عن طبيعة معنى الثالوث الذي يظهر في عنوان القصيدة مع صفة المقدس، فأؤكد لك أنه لا علاقة له بالتثليث المسيحي. هذا ثالوث ثان أدع للمتلقي فرصة اكتشافه بنفسه؛ كيلا أقترف جرماً في حق المعنى فأقتله طواعية ًبيدي.
تبدأ القصيدة هكذا:
حدثنا شيخُنا أمسُ بن أمِّ غدِّ
عمّا روت أقبحُ النّسوان في بلدي
قالت له بعد أن تصعَّدت أنّةً
مثل اللّظى أعطني سمعيْك يا ولدي
وا حرّ قلباهُ من غدر الزّمان لقد
أودى بما كان لي من فتنة الجسد
في الختام، أود أن أشكرك سيدتي ومن خلالك مجلة ديوان العرب على هذه الاستضافة الطيبة.
وأشكر رئيس تحريرها ذ. عادل سالم، وأغتنم هذه الفرصة لأشكره أيضاً ولو بعد مرور سنوات عديدة على هذا الأمر، أشكره على إرساله لي مجموعته القصصية الجميلة "لعيون الكرت الأخضر" من أمريكا موقّعةً باسمي.