حلم .. الأجفان المطبقة
قفزت من سريري، لست أدري هل سمعت جرس الباب؟ كنت على وشك أن أغفو، بل لعلي غفوت، وقد رأيت حلماً، ونادراً ما أرى أحلاماً، أو لعلي بدأت في رؤية حلم، ولكني لا أذكر شيئاً، ثم سمعت جرس الباب، ونهضت، وإذا زوجتي تفتح باب الغرفة وتدخل، وقد فاجأتني بقولها
حامد في انتظارك
لماذا يأتي إليَّ حامد في مثل هذا الوقت؟
نظرت إلى ساعة يدي، الساعة الآن الخامسة، بعد الثالثة وصلت إلى البيت، كعادتي كل يوم، دخلت الحمام، واستحممت، ثم انتظرت إلى الرابعة حتى فرغت زوجتي من إعداد الطعام، حوالي الرابعة والنصف استلقيت في السرير، لم أنم، ولم أسترح.
حامد؟! لاشك أن أمجد هو الذي أرسله، ولكني أعرف أن أمجد قد سافر أول أمس الجمعة إلى البحر، هل ثمة حادث؟
أهلا حامد
الحدقتان يكاد ينفجر منهما الدم، والوجه مصفر.
– ماذا يا حامد؟
– أمي وأبي في انتظارك.
– ماذا حدث؟
– سترى في البيت كل شيء.
– هل رجع أمجد؟
وانفجر في بكاء مكتوم.
لا يمكن أن أقود إلا بسرعة، هكذا دائماً يقول لي، قيادة الدراجة النارية لا يشبهها شيء، حتى ولا السفينة ولا الطائرة، هو لم يجرب قيادة السفينة ولا الطائرة، ولكنه يرى أن قيادة الدراجة النارية وحدها كل شيء.
لا يمكنني أن أتهم هناء، فأقول هي السبب، لا، قبلها كان لا يستقر له على الأرض قرار، دائماً ينطلق بدراجته، يريد أن يطأ كل طريق، بل كل أرض، وأن يتنسم وهو يقودها هواء كل بقعة، فلكل بقعة هواؤها، كما كان يقول.
السيارة لا تعجبه، مع الدراجة النارية أنت تتحكم في كل شيء، تسيطر عليها بكل ذاتك، وتمتلكها بكل جزئياتها، وأنت وحدك، وهي وحدها معك، كان لا يحب أن يحمل أحداً معه على الدراجة، أياً كان، على الدراجة أنت وحدك، يداك مشدودتان إلى المقود، تواجه الهواء بصدرك، تفتح له قلبك، تستقبله بعينيك، لا تطرف، ولا تغمض عينك، وفي لحظة تصبح جزءاً من الآلة، وتصبح الآلة جزءاً منك، تتصل أعصابك بأسلاكها، ويختلط دمك بوقودها، فتغدوان معاً كلا واحداً، لحظة تعدل العمر كله، ثم تعود ثانية لتدرك أنك تقودها، وتحس أنك معها، وهي معك، فتستسلم لها، كما استسلمت لك، وتتمنى لو تغفو.
أما السيارة، ففقد جربتها مرات ومرات، ما كنت أحس فيها بالمتعة، كنت أحس أنني أسير على أربع، وأحاول جهدي كي أتحكم فيها، ولكني أحس أنها تبقى مالكة لشيء من إرادتها، وأنها لا تنقاد لي، وأنني لا أستطيع أن أمتلكها الامتلاك كله، لا أنكر أني أستمتع بها، ولكن الأمر بالنسبة للدراجة مختلف جداً.
نزلت على الدرج، أنا وحامد ثم دخلت في السيارة من غير أن أقول شيئاً، وانطلقت، وهو إلى جانبي وأختلس النظر إلى وجهه في المرآة، متجنباً سؤاله.
مرة قال لي: أنا أعرف أنك لا تقود سيارتك إلا على يمين المسامير العاكسة المغروسة في وسط الطريق، بل إني على يقين أنك تأخذ أقصى اليمين من الطريق، وتنظر إلى عداد السرعة، وإذا رأيت المؤشر قد تجاوز الستين رفعت رجلك عن دواسة البنزين، والأولاد من ورائك يضجون في المقعد الخلفي، وزوجتك إلى جانبك تضع شريطاً جديداً في المسجلة.
هل رأيت؟! هذه هي السيارة، لا يمكن أن تكون فيها وحدك، ولا يمكن أن تنطلق بها، هل تعرف أني لا أقود إلا فوق تلك المسامير المغروسة في وسط الطريق، وإذا لم يتجاوز عداد السرعة المئة والعشرين دفعت المقود بكلتا يدي، ولا تعرف كم أستمتع بتلك المسامير، ولاسيما الجديدة، لأنها أكثر نتوءاً من القديمة، فكل مسمار يدفع بالدراجة إلى أعلى، ويجعلها تحلق في الهواء، هل تستطيع أنت أن تحلق بسيارتك في الهواء؟! نشوتي الوحيدة هي التحليق في الهواء.
كان يروي لي دائماً أحلاماً يرى فيها نفسه وهو يحلق فوق الدرج، يقف على الدرجة الأولى، ويقفز إلى أعلى، فيجاوز أربع درجات أو خمساً، ويحط على الدرجة السادسة، ليقفز ثانية، يضغط على قدميه، يثني ركبتيه، يدفع بجسمه إلى أعلى، فيقفز خمس درجات أيضاً، وأحياناً يأتي بدفعة من قدميه وهو محلق، فيتجاوز درجات أخرى من غير أن يحط، أخبرني أنه حاول تحقيق ذلك في الواقع، لكنه لم يفلح، كان أحياناً في الحلم يدرك أنه مجرد حلم، وفي أحايين كثيرة كان يحس وهو في الحلم أنه واقع وليس حلماً.
أمام البيت أوقفت السيارة، التفت إلي حامد، هززته بقوة من كتفه، ثم رفعت وجهه إليَّ، وأنا أحدق في عينيه والدموع تسيل منها.
حامد، أخبرني، أمجد ماذا جرى له؟
سترى الآن كل شيء.
ونزلنا من السيارة، واتجهنا إلى البيت.
من أجل هناء يا أمجد؟ لا أستطيع أن أفهم!؟ هل هناء هي المسؤولة أم الدراجة؟! لست أدري كيف عرف هناء؟ كما لا أعرف من هي؟ هل هي حقيقية أم خيال؟ هل هي واقع أم وهم؟ هل هي مجرد أسطورة؟
في يوم الجمعة من كل أسبوع ينطلق مع الفجر على دراجته، ليعبر السهول والوديان، ويتسلق الهضاب والجبال، ويجتاز الجسور والمعابر،ويخترق الأنفاق، حتى يبلغ البحر، قاطعاً عشرات الأميال من الداخل إلى الساحل، من البادية إلى البحر، ليصل إلى هناء.
ليس في نساء الأرض كلها مثل هناء، أقسم أنه تعرف إلى إحدى عشرة امرأة ولكنه لم ير فيهن مثل هناء، ولم تكن هناء مثل واحدة منهن، كانت تجمع كل ما فيهن جميعاً وتتفوق عليهن، ثم تنفرد بما هو خاص بها، بعد ذلك كله.
سألته مرة: هل هي شقراء أم سمراء؟ فأجاب: هي هناء فقط، وليس بإمكان أحد من رجال الأرض كلها أن يفهم هناء، أو يعرفها، سواي أنا، ولذلك لا فائدة من وصفها، أو الحديث عنها، هي وأنا، أنا وهي، فقط.
أحياناً هي الماء وأنا الطين، وأحياناً هي الطين وأنا الماء، من خلالها عرفت سر ولعي منذ الصغر بالطين والماء والتراب وشمس تموز، في الشتاء كانت ساحة القرية تمتلئ بالمطر، وتتحول إلى مستنقع طيني، كان الأولاد يلعبون على أطرافها، وكنت أغوص في عمقها، ثم أخرج وقد تلطخ جسمي كله بالطين، فأقعد في الشمس حتى يجف الطين العالق بجسمي ويتشقق، وعندئذ أعود إلى الماء لأغطس فيه ثانية.
وفي الصيف يلعب الأطفال في ظلال الجدران، متفيئين من شمس تموز، وكنت ألعب في العراء، تحت الشمس، وأتمرغ في التراب الغباري الناعم، ثم أغدو إلى البئر، وأدلق على جسمي دلاء الماء البارد، لم يكن في قريتنا نهر ولا بحر، هناء هي البحر والماء والتراب والطين.
واليوم لا شمس تموز تحرقني، ولا أمطار نيسان تغرقني، وأنا أقود الدراجة تحت المطر، أتمنى لو يتغلغل إلى جلدي ويخترق مسامي وينفذ إلى عروقي، لأصل إلى هناء وأنا مبلل، نديان، فترتوي مني ما شاء لها الارتواء، وحين أقود تحت شمس تموز أحس أن جلدي قد يبس وتقشر، فأفرح وأتمنى لو زاد الحر التهابا، فأنا مطمئن إلى أني سأغطس أنا وهناء، هناك في البحر، وأني عندئذ من الماء أكثر فأكثر.
كنت في الحقيقة أختلف معه كثيرا، كما أختلف عنه، وإذا ناقشته في أمر، فأفحمته فيه، كان يقول لي: "هذه الستة التي تكبرني بها لن تجعلك أكثر حكمة مني "، ثم يقول: " إذا كنت أنت قد بلغت الثلاثين فاعلم أني لم أبلغها أبدا، سأبقى دائما في التاسعة والعشرين".
وكنت أحبه وأصدقه في كل ما يقول، كما كنت أقره على ما هو فيه، لأني أدرك أن هذا هو تكوينه، وأن هذه هي فطرته وحقيقته وطبيعته، وأن ما هو فيه ليس مرضا ولا جنوناً ولا عبثاً ولا اصطناعياً ولا تكلفاً، وإنما هو أمر طبيعي فيه تماما، بل إنما هو أمر خاص به، وهكذا سلمت بأمره، واعتبرته واقعا وحقيقة، وما عدت ألومه على شيء أو أناقشه فيه.
أمجد أقرب صديق إلي، بل إن وصفه بصديق يكاد لا يكفي، على الرغم من إحساسي بأنه ينتمي إلى جيل أخر، أو طينة أخرى، وكان هو يعبر عن ذلك بصورة مختلفة، فيقول لي :"أنت تشبه أبي "، وكنت لا أستاء من هذا الوصف، لأني كنت دائما أبدي إعجابي بأبيه، من خلال أحاديثه عنه، ولما عرفني إليه ازداد إعجابي به، وسرعان ما توطدت علاقتي به، وسرعان ما توطدت صلتي به، وبسائر أفراد أسرته، وأصبحت أثيرا لديهم لعلهم توقعوا أن أتمكن من رده عن الطريق التي هو فيها، وأنا المتزوج وصاحب أولاد ثلاثة ، ولكني نادرا ما كنت أحاول ذلك.
ولقد كان دائما يذهلني، فقد أكد لي أنه وصل إلى هناء بعد ثلاث ساعات من السفر المتصل، شمس تموز شققت جلده، كما كان يتمنى، ونضحت كل ما في عروقه من ماء، وألهبت فؤاده إلى قطرة يبل بها ظمأه، وأشعلت في داخله لهيبا لاينطفئ، وهو يمني نفسه بالخوض في عباب بحرها اللجي، والغوص حتى الأعماق، وعب كل ما في اللجنة حتى القرار، ولكنه أكد لي مقسما أنه على دراجته بعد خمس ساعات أمضيناها معا قاعدين على صخرة عالية، تطل على البجر والموج يزبد عند أقدامها، ولا يكاد يلامس أصابع القدمين، وقد رفعا وجهيهما إلى نسيم البحر البلبل، يتلقيان معا نداه الناعش، المنغوم بأصوات النوارس، يقطعها صوت تكسر الأمواج على صخور صلدة لا تشرب من الأمواه شيئاً، قال لي : لقد تعلمت كيف استقبل النسيم بوجهي وأملاً منه رئتي وقلبي وأرتوي بنقائه الصافي، ثم أقسم مؤكدا أن يده لم تمس في ذلك اليوم يدها، وهما اللذان كانا قد غاصا من قبل معا مرات كثيرة في البحر حتى القرار، والتقطا معا الأصداف ، ثم ارتميا على الرمال الناعمة، التي تشرب الأمواج المتعاقبة عليها في غير ما انتهاء، ولا الرمل يرتوي، ولا الموج يستقر أو ينفذ.
كدت لا أصدقه فيما قال، ولكني سرعان ما وجدتني أسلم بما يقول، وأصدقه، فلحديثه دائما سحر خاص.
ثم قال: من يغص وهناء إلى القرار يجد هناك نارا متقدة ليست كنار، هي البرد والسلام، على الرغم مما فيها من دفق وهج مستعر، وبعد أن تصطلي معها برد تلك النار الناعمة، وترتوي من دفئها الخدر، تطفو عندئذ إلى سطح عالم آخر، وتغفو على وساد من هواء، ويحلو لك النوم، وتطيب لك الأحلام، وهنالك تأتلق فوقك في السماء آلاف النجوم.
وفتح حامد الباب، ودخلنا، وإذا دراجة أمجد مركونة وراء الباب، لم نقف عندها، ومضينا إلى الداخل، بدت لي كأنها مهيأة ليقودها وينطلق بها الآن، ربما كانت مرآتها فقط هي المحطمة.
ماذا بالنسبة إلى أمه وأبيه وأخوته؟ لا أظن أنه مضطر إلى الكذب على أحد منهم، كما أنه ليس مضطرا إلى مصارحة أحد بشيء، ولعلي الوحيد الذي يعرف عنه كل شيء، ولاسيما بالنسبة إلى هناء، وأنا أعرف حق المعرفة أنه يحب أمه ويقدسها، كما يحب أباه ويحترمه، والأهل يعرفون دائما أن للشباب مغامراته، وهم واثقون من أنه سيعود في وقت قريب إلى جادة الصواب، التي يقر بها أكثر الناس، ويمشون عليها.
وفجأة وجدت نفسي أغوص في لجة من الدموع والندب والعويل والبكاء، وثمة صندوق خشبي طويل، ومن حوله الأم والأب والأخت، وأنا أقف أمامه ن والى جانبي حامد، أين محمد إذن؟! توقعت كل شيء، ولكن لم أتوقع ما أراه على الإطلاق، كنت كلما ودعته أحس أن ثمة حادثا ما سيقع، ولكن لم أتوقع هذا .
هل حدثته يا أحمد ؟!
لا يا أمي
إذن احك له، احك ، ماذا تنتظر؟ عيني عليك يا أمجد ؟!
وصل إلى الساحل، ودخل البلد، كان يقود بسرعة، كعادته، داس قطعة حجر صغيرة، هكذا روى الناس، يبدو أنه رآها، داس فوقها، طارت به الدراجة.
وأجهش في البكاء، ولم يتمكن من المتابعة، فأخذ الأب يتكلم:
حلق في الهواء، كل الناس قالوا إنهم رأوه وهو يحلق في الهواء، ويداه تمسكان بالمقود، ثم حطت به الدراجة، فنزل على رأسه.
وعاد حامد إلى الكلام
أسرع الناس إليه يريدون إسعافه، فقال لهم: "وصلت، وصلت "، ثم لفظ الروح.
قال الأب:
– كم كان يحب السباحة في البحر؟ وصل إلى البحر، نعم وصل.
وأضافت الأم، وهي تجهش في البكاء:
– أنا أعرف ابني، كان يخاف الله ويخشاه، ولابد أنه كشف عن بصيرته، فرأى الجنة، وقال: وصلت، وصلت.
وفي أثناء ذلك كانت أخته تندب وتعول لاعنة الدراجة والسباحة والبحر.
لم أستطع قول كلمة واحدة، وأنا أحاول منع نفسي من البكاء.
وبسرعة نزعت مسامير الصندوق، وحدي، وكشفت الغطاء الخشبي، وكنت أول من يرى وجهه.
هل يعقل أن أكون ما أزال نائما في سريري؟ هل هذا كله حلم؟ مجرد حلم؟ لا يعقل ذلك؟ ليته حلم، ولكن هاأنذا أمام أمجد، وهو نائم، ولا حلم سوى الحلم الذي أطبق عليه جفونه، خشية أن يهرب منه، وعلى شفتيه طيف ابتسامة، كم هو حلم ناعم وجميل؟!
وصك سمعي قول الأم، وهي تقبل أمجد وتجهش في البكاء:
نوم الهناء يا بني.
ووجدت نفسي أنتحي جانبا، لأمسح من عيني الدموع.
مشاركة منتدى
24 نيسان (أبريل) 2018, 12:18, بقلم محمود السيد
سلام عليكم
كل الإحترام والتقدير لك أستاذ أحمد
أسلوبك رائع يا أستاذ أحمد وحبكة القصة وتفاصيلها وأحداثها شيقة تصلح لفيلم قصير عن عنفوان الشباب وتأثيره فى حياة كل منا.
كم أتمنى لو أحاول أن أعمل على ترجمتها للغة الانجليزية.
أتمنى أقرأ لك المزيد ولك جزيل الشكر.