حصاد العمل الصامت... سقوط مقولة «كي الوعي»
لم يَكن لأحد في ساحة العمل الوطني الفلسطيني من أقصاها الى أقصاهاـ من سلطتها، ومن معارضيها، ومن عموم هيئاتها ومؤسساتها، وحتى سياسييها، ومفكريها، ومنظريها، وفلاسفتها، أن برى أو يلمس، أو أن يستقرأ دواخل وخفايا الحدث الفلسطيني الأخير مع طوفان الأقصى قبل وقوعه المدوي.
ولم يكن حتى للعالمين والمتابعين ببواطن الأمور، من أصحاب "العيون التي لاتنام" ومن "النباشين" في الخفايا ومتعقيبيها، في أجهزة أمن الإحتلال وعموم أجهزة أمن الأطراف الإقليمية وحتى الدولية، أن يَشهد الزلزال الذي ضَرَب كيان دولة الإحتلال، التي طار صوابها وصواب من معها، فأنفلتت في حربها الدموية غير المسبوقة ضد قطاع غزة، وتحديداً ضد المواطنين من المدنيين، قبل الفصائل المقاتلة، في محاولاتٍ صارخة في وضحها وعنوانها "الإنتقام" و "الإنتقام" من المدنيين، وبالأحرى من الحاضنة الشعبية، وتدمير مقومات الحياة وجعل الإستمرار في البقاء بالقطاع أمراً فظيعاً مع انعدام كل شيء، والعودة لإحياء مشاريع سَبَقَ وأن تم وأدها منذ خمسينيات القرن الماضي لتفريغ القطاع وتهجير المواطنين استكمالاً للنكبة الأولى نحو سيناء المصرية وغيرها، والتمدد التوسعي الإستعماري الإحلالي الإجلائي الصهيوني لكامل قطاع غزة وبناء المستعمرات المطلة على بحر غزة.
إن صمود غزة، وتحملّ شعبنا في القطاع ماتنوء به الجبال الشاهقة، وبفضل أنهاء الدماء الزكية، بقي شعبنا ومازال على أرض القطاع، وديدنه يصرخ "لن نُكرر نكبة العام 1948"، مُفضلاً الموت الزؤام على أرض وطنه من اللجوء والشتات من جديد.
وبالطبع، إن الأثمان المدفوعة فلسطينياً هائلة، ولاتقاس بقناطيرٍ مٌقنطرة، لكنها أرواحاً طيبة، نقية، صفية، تَصعَد للملأ الأعلى عند رب الكون، وتبقى كذلك بمثابة ضريبة الوطنية الفلسطينية، ضريبة هذا المشروع الكفاحي الذي لم يهدأ منذ دخول الإنكليز الى فلسطين عام 1917 بقيادة الجنرال اللنبي، ونهوض شعبنا في ثوراتٍ لاهبة ومتواصلة، كان من ألمعها بريقاً واتقاداً، ومعاني، ثورة الشهيد الرمز عز الدين القسام، التي عَمّت فلسطين بعد رحيله، وصارت فلسطين ساحة للقسام، وحينها ردد شعبنا في أفراحه وأتراحه من اقصى فلسطين الى اقصاها:
عالعميم ع العمام ورفرف ياطير الحمام
رفرف على فلسطين والشعب الحر المقدام
من عام 22 حتى الـــ 36
كل عموم فلسطين صارت ساحة للقسام
وهاهم احفاد وذرية مدرسة الشهيد عز الدين القسام في القطاع يحملون راية القسام بعد تسعين عاماً من استشهاده... فالبندقية مُشرّعة، وقَسَم الثوار لايموت ولاينتهي، في مواقع المواجهة على أرض القطاع، وفي كل مناطقه.
إن طوفان الأقصى، يُعتبر بحق الجولة الأكثر زخماً في مسيرة وطنية فلسطينية، متراكمة بالنتائج الطيبة ... والإحباطات في أحايين. بالعمل ... والإنجازات، من البدايات بعد النكبة الى كل المراحل، وخاصة في معركة بيروت، والتي كنت من بين شبانها في حينها في مواجهة جيش الإحتلال وآلته العسكرية، وصولاً للإنتفاضتين الأولى والثانية، وماتلاهما، إنها سيرة ومسيرة شعبٍ لن تنتهي إلا بالنصر المبين، وعداً لمن يحمل الإمانة.
وفي سياق الطوفان، أقف أمام كل من عَمِلَ بصمتٍ، من أجل رفع الراية، واعادة الإعتبار لمسيرة كفاح شعبنا أمام "سباتِ تسوويةٍ مهزوزة". وتحمَّلَ كل المنغِصات ... وووو .... في زمن "فقدان التوازن بالمعادلة العربية".
أقف بصمت أمام شعبنا في القطاع، وأمام كل مقاتل من كتائب القسام وكتائب سرايا القدس وكتائب ابو علي مصطفى، وغيرها... وأمام إبن مخيم خان يونس وبلدة المجدل اللاجىء كحالي (لاجىء وابن مخيم) الأخ يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى ... وغيرهم.
كما يَحتَل الأخ اسماعيل هنية ابن بلدة الجورة المحتلة عام 1948 وابن المخيم الفلسطيني مكانه في ضمير شعبه. كذلك أبو الوليد (جمل المحامل في الظرف الصعب) يمتلك مكاناً في القلب والوجدان. أبو الوليد صاحب الدور الذي لايُمكن القفز عنه، صاحب الكاريزما والحضور، تلك الكاريزما التي دفعته للتكاتف مع أيادي أخوته تعاوناً مثمراً للوصول لبناء ماتم، وإعادة تزخيم (العامل/المعادل) الفلسطيني في المعادلة بعد أن اعتقد "الإسرائيليين" ومعهم الإدارة الأمريكية بأن "الفلسطينيين قد فقدوا وزنهم في المعادلة"، وأنَّ تطويعهم و "كي وعيهم" عملية مُمكنة على المدى المنظور.
لقد سقطت، واندحرت مقولة "كي الوعي"، فالوعي الفلسطيني يزداد عمقاً في دواخل كل فلسطيني، على أرض فلسطين والشتات، وعياً وطنياً، لاتشطبه معادلات القوة الزائفة مهما بلغ جبروتها في الزمن الحاضر. ودليلنا الإصطفاف غير المسبوق خلف شعبنا وصموده في القطاع، وخروج شعوب المعمورة بأسرها من اجل فلسطين، وتعالي اصواتها من اجل العدالة في وطن السلام والمحبة، مهد المسيح عليه السلام، ومسرى النبي صل الله عليه وسلم.