تاوجوت
لم يعدْ باستطاعة سحرَ أن تقاومَ ثِقل جفنيها وما لبثت أن أغمضت عينيها. تمتمت بصوت خفيض بكلمات كانت قرأتها و أسرها غموضها وردّدتها ببالها طويلا *" أميا" " يان" " سين" "كراض " "أميدوو ايفودان"* . فأخذ البساط المزركش الذي امتطته يتحرّك شيئا فشيئا . خفق قلبها إثارة . تشبّثت بجانبيه وهو يرتفع بالفضاء الرّحب ..
لم تعد ترى أرض الحديقة الخضراء ولا أشجارها السّامقة ..اختفت أصوات إخوتها الصِّبية وكركرتهم وهم ويطاردون الطّيور و يعابثون الزّهور بالمرج المحاذي لمنزلهم .. تناءت المنازل أيضا حتى صارت كعلب بيضاء صغيرة معلّقة بكتف الوادي فلفّها سكون أرهب فؤادها وجعلها تغمض عينيها هنيهة .ما لبثت أن فتحتهما حين خُيّل إليها فجأة أن هفهفة تداعب وجنتيها.
. تلاشى خوفها حين اكتشفت أنّ البساط جاور غيمة بيضاء كبيرة. مدت سحر أناملها الرّقيقة نحوها لتصافحها فانزلقت الغيمة مبتعدة فلوّحت لها بيدها مودّعة. استمتعت الفتاة بمتابعة أسراب الطّيور والبجع وهي تفرد أجنحتها للهواء وتمنّت ملاحقة الغيمات التي تركض بالفضاء كما اعتادت ملاحقة قطيع الخراف بمراعي قريتها الشاسعة .
ما أروع الحياة بالأعالي، بياضٌ قُطنيّ يريح النّاظر و نقاءٌ يبهِجُ النفس و سكون يُنسي العقول ضجّة الحياة وصخبها. .
استمرّ سفر البساط يعلو حينا ويدنو أحيانا..
مرّ فوق مساحات زرقاء تشفّ بمواضع وتعتّم بأخرى. تلتمع أسطُحها كصفحات المرايا حينا وتندفع من أعماقها جياد متراكضة أحايينا..تدنو ببساطها فإذا زوارق صيد صغيرة ومراكب كبيرة تشقّ تلك المياه كلّ يلتمس غاية.
..هدأت حركة البساط
وهو يجتاز غابات نخل باسق يفرد هاماته معانقا الحُجُب..يتناهى إلى مسمعها حفيف السّعف إذ تداعبه النسائم وتتراءى لها أعذاق التمر ذهبيّة تسرّ النّاظر.
أخذ البساط يقترب من الأرض وئيدا إلى أن حط الرِّحال بموضع صُلب
تحفه مرتفعات سمراء لم تعهدها من قبل.استجمعت سحر شجاعتها وانطلقت تكتشف المكان بحذر فإذا بفتاة تعادلها سِنّا تدنو منها وتنطق بكلمات لم تفهمها " أزول فلاون" " ماي تو سيدد". ألقت سحر التحيّة بلغتها العربيّة " مساء الخير " فابتسمت البنت وقلدت
كلماتها بِيُسر فاطمأنّت إليها ودنت منها.
أخذت البنتُ بيدِ سحرَ وقادتها عبر مدارج صخرية تنزل متعرجة نحو هُوّة بالأرض فإذا بالحفرةِ الشاسعةِ قريةً صغيرةً نُحتت بيوتها
داخل تجاويف الصّخور. نادت البنت فخرج من الغُرف أناس هاشّة وجوههم باشّة ثغورهم . رحّب الأطفال والنسوة والرجال بحفاوة بالضّيفة الصّغيرة
. أُجلِست الفتاة على بساط من المرقوم المزركش نسجت الأيادي البارعة خيوطه ورتّبت بمهارة فائقة ألوانه ثمّ
طعِمت من أطباق لم تذقها بحياتها و توشّح جسمها الفتيّ بملابس حريريّة مزركشة كما تحلّى مِعصمُها بأساور فضّيّة وجيدها بعقود بديعة من الخرز الملوّن وهي تتنقّل بين بيوت الصّخر تستكشف عادات جديدة وأنماط عيش مغايرة . شرحت لها مُضيّفتها "مايا" وظيفة كل ّ غرفة قائلة "هذه معصرتنا .هنا نحوّل حبات الزّيتون زيتا لذيذا ..وهناك مخازن المؤونة " وأشارت إلى الأواني الفخّارية "فيها نحفظ الحبوب والبقول والثمار المجفّفة والزيت" وتلك الغرف تتّخذها النسوة للنّسج والغزل والحياكة بها تنتصب مناسج يدويّة بسيطة علّقت بها كُبب الصّوف الملوّنة وانتثرت بأرجائها قطع من المرقوم المزركشة. ..أمّا تلك فمستودعات للأدوات الفلاحيّة وللأعلاف وبركن غير بعيد مرابض للمواشي وللدّواب.. تردّدت سحر قليلا ثم بادرت صديقتها بسؤال مافتئ يراود بالها منذ نزولها بهذه القرية " لمَ شُيّدت المنازل هنا تحت الأرض ؟" ابتسمت "مايا" قائلة سأشرح لك ذلك في زيارتك القادمة. شعرت الفتاة بفيض سعادة بهذه الرّحلة و بما حظيت به من حفاوة استقبال وما لمسته من كرم وفادة و قررت أن تعود قريبا لزيارة هذه القرية رفقة عائلتها. قبّلت صديقتها الجديدة" مايا " مودّعة وما إن نطّت على بساطها مجددا حتّى شعرت بألم في رأسها فندّت عنها آهة مكتومة.
سمعت على الفور صوتا يناديها بقلق و استشعرت يدا تربّت على كتفها مطمئنة.
فتحت عينيها بذهول فإذا بأمها تُتمتم مُبسملة ثمّ تنحني لتُقبّلها وهي تُحاول أن ترفعها عن البساط المحاذي لسريرها لتُعيدها إلى فراشها والحيرة بادية على محيّاها . حينها فطنت الأم إلى كتاب بين ذراعي سحر.
تطلعت إلى العنوان مبتسمة وقد زالت حيرتها فمازحت ابنتها بحنوّ كيف كانت رحلتك إلى "
قرية" تاوجوت" * " .؟
تاوجوت هي قرية أمازيغية توجد بمطماطة من ولاية قابس بالجنوب التونسي
أميان / يان / سين / كراض/// كلمات للعدّ بالأمازيغية و تعني "صفر /واحد /اثنان /ثلاثة
أمادوو إفادون كلمة أمازيغية تعني رحلة موفّقة
أزول فلاون كلمة امازيغية تعني السلام عليكم
ماي توتسيدد كلمة ترحيب امازيغية تعني كيف حالك
"مايا" إسم فتاة بالأمازيغية ويعني صدى الجبال.
الكاتبة: نجاة نوّار تونس