السبت ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
بقلم آدم عربي

تاريخ الجرح العميق...

حملُكَ ثَقيلٌ، يَا أَبَا رَشِيدَ، ابنُكَ الجَرِيحُ بَينَ ذِرَاعيكَ، وَأَنتَ تَدعسُ الشَّوكَ، وَتوغلُ فِي الأَرضِ الوَعِرَةِ، بَعدَ أَنْ تَرَكتَ الحُدُودَ الَّتِي لَمْ تَعُدْ حُدُودًا مِنْ وَرَائِكَ. تَصِلُكَ أَصدَاءُ الانفِجَارَاتِ دَومًا، وَالطَّلَقَاتِ، وَرَائِحَةُ العنَبِ الَّذِي احتَرَقَ، وَبُكَاءُ العَنَادِلِ. يَشتَعِلُ الجَبَلُ بِشَجَرِهِ الرَّاسِخِ الجُذُورَ فَجأَةً، فَيَغدُو أَحمَرَ، ثُمَّ يَنطَفِئُ. وَأَنتَ تَسِيرُ، تَقطَعُ طَرِيقَكَ الطَّوِيلَ. مَشَيتَ طَوَالَ اللَّيلِ، وَأَنِينُ رَشِيدَ، وَلَدِكَ، يُسَارِعُ مِنْ خطوَاتِكَ. أَرَدتَ لَهُ الحَيَاةَ، لِأَنَّهُ أَمَلُكَ. عَزَمتَ عَلَى ذَلِكَ فِي حُدُودِ النَّارِ، بَعدَ أَنْ قَاوَمتُمْ عَلَى حُدُودِ النَّارِ، ثُمَّ تَرَكتَ الحُدُودَ وَكُلَّ شَيءٍ يَحتَرِقُ. كَانَ الدَّمُ قَدْ هَدَرَ نَهَرًا، وَغَابَتِ الشَّمسُ عَنْ ضِفَّتِهِ الغَربِيَّةِ. لَوْ بَقِيَ وَلَدكَ لَقَتَلُوهُ، عِندَ ذَلِكَ، مَنْ سَيَبقَى لَكَ؟

 لَنْ يَبقَى لِي إِلَّا وَلَدِي.

 كَمْ أَنتَ تَتَعَلَّقُ بِوَلَدِكَ!

 أَنَا أَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَلُّقِي بِروحِي، أَخَذُوا الوَطَنَ، وَلَنْ أَدَعهُمْ يَأخذُونَ روحِي.

 سَلِمتَ روحَكَ، يَا أَبَا رَشِيدَ!

تَشُدُّ وَلَدَكَ إِلَى قَلبِكَ، وَتَنظرُ إِلَى الجرحِ الَّذِي يَتَوَهَّجُ. كَانَتِ النَّارُ تَصعَدُ مِنَ الجرحِ، وَالدَّمُ كَالجَمرِ يَتَأَجَّجُ. تحَاولُ مَنعَ النَّزِيفِ، وَتَهتِفُ مِنْ أَعمَاقِ قَلبِكَ:

 الجرحُ عَمِيقٌ!

 نَعَمْ، الجرحُ عَمِيقٌ، أَعمَقُ مِنْ بِئرٍ!

 أَخَذوا كُلَّ الحقوقِ، وَتَرَكُوا لَنَا حَقًّا وَاحِدًا.

يُضَاعِفُ مِنْ خطوَاتِكَ الأَنِينُ، وَتهمهِم لِنَفسِكَ:

 يَا حَقَّ الجرحِ!

نَعَمْ، يَا حَقَّ الْجرحِ، يَا حَقَّ الأَنِينِ! يَا حَقَّ الأَمَلِ الحَزِينِ!

وَأَنتَ تَحمِلُ بَينَ ذِرَاعَيكَ أَمَلَكَ، تَشُمُّ، يَا أَبَا رَشِيدَ، رَائِحَةَ العشبِ الَّذِي احتَرَقَ، وَخوخَ الصَّيفِ الَّذِي لَمْ يَرحَلَ، وَتَقُولُ لِوَلَدِكَ فِي دَخِيلَةِ نَفسِكَ: سَأُنقِذُكَ! أَرَدتَ أَنْ تَحفَظَهُ لِلثَّورَةِ، فِيومَ غَطَّتِ الحَربُ سَاقَها كَانَ كُلُّ شَيءٍ قَدْ بَدَأَ. تَرَى إِلَى الفَضَاءِ فِي اللَّيلِ الَّذِي أَخَذَ يَبيضُ مَعَ صُعُودِ الشَّمسِ عَلَى عَمَّانَ، فَيَزِيدُكَ صُعُودُ الشَّمسِ عَزمًا عَلَى مُوَاصَلَةِ الطَّرِيقِ، إِلَى مَكَانٍ تَبرَأَ النَّارُ فِيهِ بَعدَ أَنْ غَدَا الجرحُ نَارًا. كَانَتْ إِرَادَتُكَ أَنْ تَحفَظَهُ لِلثَّورَةِ، وَإِرَادَةُ الثَّورَةِ أَنْ تَبرَأَ النَّارَ. يَقُولُ لَكَ الصَّبَاحُ: دُمتَ سَالِمًا، يَا أَبَا رَشِيدَ! وَيَلتَفُّ مِنْ حَولِ النَّارِ ضمادًا كَذِرَاعِكَ. تفكرُ وَأَنتَ تَنظُرُ إِلَى الصّخُورِ فِي عَينَيهَا أَنَّ المُحتَلِّينَ لَمْ يَكُونُوا وَحدَهُمُ السَّبَبَ، وَلَكِنْ أَيضًا منْ ادَّعَوا الوَطَنِيَّةَ، أُولَئِكَ الثَّورَجِيَّةَ! هُمْ فَتَحُوا الجرحَ عِندَمَا بَاعُوكَ كَلَامًا بِالأَطنَانِ، وَعَمَّقُوا الجرحَ عِندَمَا صَارُوا يتَاجِرُونَ بِالْجرحِ ثَلَاجَاتٍ وَغَسَالَاتٍ وَسَيَارَاتٍ وَطَيَّارَاتٍ خصوصِيَّةً، وَدَقُّوهُ نَارًا عَلَى نَارٍ يَومَ هَرَبُوا إِلَى العَوَاصِمِ القَرِيبَةِ لِيَتَكَلَّمُوا عَنِ الانتِصَارَاتِ.

أَنتُمْ وَحدَكُمْ أَبُو رَشِيدَ وَرَشِيدَ وَالجرحُ النَّارُ وَالجَمرُ وَالحَرِيقُ بَقِيتُمْ تدَافعُونَ حَتَّى غَدَا النَّزِيفُ جَحِيمًا.

 طَوَالَ عُمرِنَا وَنَحنُ وَحدَنَا ندَافِعُ حَتَّى يَغدُو النَّزِيفُ جَحِيمًا.

 وَلَكِنَّكُمْ بَقِيتُمْ ثَلَاثَتَكُمْ مَعًا رَغمَ الجَحِيمِ.

 لِهَذَا تَجِدُنِي أَستَطِيعُ قَطعَ الطَّرِيقِ.

 طَرِيقُكَ تَقْصُرُ، يَا أَبَا رَشِيدَ.

 وَالأَلَمُ يَزِيدُ.

 لِيَنقُصَ الأَلَمُ، لَا بُدَّ مِنْ إِطلَاقِ الأَنِينِ.

 نَعَمْ، لَا بُدَّ مِنْ إِطلَاقِهِ.

تَصِلُ، أَبَا رَشِيدَ إِلَى بَيتِ أَخِيكَ عَبدِ اللَّطِيفِ الَّذِي انقَطَعَتْ عَنكَ أَخبَارُهُ، فَتَجِدُ أَنَّهُ بَنَى دَارًا، وَأَنَّ أَبنَاءَهُ فِي السَّعُودِيَّةِ يَعمَلُونَ، وَهُوَ مُرَشَّحٌ لِلمختَرَةِ. وَعِندَمَا يَسمَعُ بِمقَدمِكَ، يَطلُبُ مِنْ زَوجَتِهِ أَنْ تُخبِرَكَ أَنَّهُ يَقُومُ بِفَرِيضَةِ الصَّلَاةِ، فَتَحَاوُلُ أَنْ توقفَ النَّزِيفَ مُنتظِرًا العَونَ لِتَقُومَ بِفَرِيضَتِكَ، وَالدَّمُ ورودٌ مِنَ اللَّهِبِ تَتَفَجَّرُ بَينَ أَصَابِعِكَ. وَيَجِيءُ أَخُوكَ فِي الآخِرِ، فَيرعبُهُ الجرحُ، وَيرعبُهُ أَنْ يَجرفَ الجرحَ بَيتَهُ وَوَضعَهُ وَالمختَرَةَ المَوعُودَةَ عَلَى طَرِيقِ الهُدَى مَعَ حممِ نَارِهِ، فَيَنصَحُكَ بِتَسلِيمِ ابنِكَ إِذَا كُنتَ تُرِيدُ لَهُ الحَيَاةَ، فَهُوَ فِي السِّجنِ سَيَجِدُ العِلَاجَ، وَهَذَا مَا تمليهِ عَلى المُنهَزِمِينَ القَوَانِينُ.

 آهٍ مِنَ الجرحِ عِندَمَا يَتَحَوَّلُ إِلَى وَردَةِ نَارٍ وَحَشِيَّةٍ!

 وَآهٍ مِنْ وَردَةِ النَّارِ الوَحشِيَّةِ عِندَمَا تَتَحَوَّلُ إِلَى رعبٍ لِلثَّوبِ القَشِيبِ!

 هُوَ أَخُوكَ رَغمَ كُلِّ شَيءٍ.

 هُوَ الشَّيطَانُ تُرِيدُ القَوْلَ.

 الشَّيطَانُ أَحيَانًا أَرحَمُ.

 وَأَرحَمُ هُوَ الحَجَرُ، وَالغُربَةُ عَنِ الوَطَنِ، وَجَلِيدُ الشِّتَاءِ.

 هَكَذَا تَعرِفُ كَيفَ تفرقُ بَينَ عَدُوِّكَ وَحَبِيبِكَ.

تطلقُ، أَبَا رَشِيدَ، تَأوِهَةً، وَتَطرُقُ بَابًا مِنَ الأبوَابِ فِي مُخَيَّمِ اليَرْمُوكِ، فَيَفتَحُ لَكَ أَحَدُهُمْ، رَجُلٌ لَا ترعبُهُ وُرُودُ النَّارِ الوَحشِيَّةِ. وَحِينَمَا يَقِفُ عَلَى حَالَةِ الجرحِ، يُدخِلُكَ بَينَ زَوجَتِهِ وَبَنَاتِهِ، فَيَعمَلنَ عَلَى سَقْيِهِ. الجراحُ تُسقَى بِالحَنَانِ كَمَا تَعلَمُ حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ نَارًا! لَكِنَّكَ وَرَشِيدَ كُنتُمَا تَركُضَانِ وَرَاءَ وَهمِ التَّحرِيرِ، وَنَسيتمَا أَنَّ الجرَاحَ نَارٌ وَبَأسٌ.

 آهٍ مِنَ الجرحِ عِندَمَا يَتَحَوَّلُ إِلَى رَصَاصَةٍ لَا تَعرِفُ الهَدَفَ القَرِيبَ.

 وَآهٍ مِنَ الرَّصَاصَةِ عِندَمَا تَتَحَوَّلُ إِلَى جرحٍ لَا يَعرِفُ الهَدَفَ البَعِيدَ!

 كَانَ عَلَيكَ أَنْ تَمضِيَ بِالتَّجربَةِ.

 وَإِلَّا كَيفَ تُرِيدُنَا أَنْ نَفهَمَ؟ نَفهَمُ مُتَأَخِّرِينَ أَحيَانًا، وَلَكِنَّنَا نَفهَمُ رَغمَ كُلِّ شَيءٍ، رَغمَ الجرحِ، رَغمَ الجرَاحِ!

 هَكَذَا.

 نَعَمْ، وَهَكَذَا نَتَغَيَّرُ.

تَتَغَيَّرُ أَشيَاءُ كَثِيرَةٌ، أَبَا رَشِيدَ، تخطِئُ، وَتصِيبُ. وَمَرَّةً أُخرَى، يَنزِفُ الجرحُ الَّذِي التَأَمَ، وَيَدُقُ فِيهِ اللَّهِبُ. وَيَضطرُّكَ اللَّهِبُ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى مُستَشفَى مُخَيَّمِ بُرجِ البَرَاجِنَةِ. فِي المُخَيَّمِ، هُنَاكَ، تَلتَقِي بِفَلَّاحٍ مِنَ الجَنُوبِ، اسمُهُ أَبُو بَدِيعٍ، قتلتْ عَائِلَتُهُ غَارَةً إِسرَائِيلِيَّةً، وَهَدَّمَتْ دَارَهُ. تَذهَبُ مَعَهُ، وَتَعمَلُ مَعَهُ فِي كَسرِ الحَجَرِ، وَتَحَوِيلِ الحَجَرِ، وَتَعِيشُ مَعَهُ تَحتَ سَقفٍ وَاحِدٍ، رِيثَمَا يَبرَأَ الجرحُ مِنْ جَدِيدٍ، وَيَقِفُ رَشِيدُ عَلَى قَدَمَيهِ، وَيَغدُو كُلَّهُ نَارًا، جَسَدُهُ اللَّهِبُ، وَسِلَاحُهُ الْبُركَانُ. تَنظرُ إِلَى الجرحِ، وَلَا تَنسَى، يَعُودُ بِكَ الجرحُ إِلَى الوَرَاءِ، إِلَى البِدَايَةِ، يَومَ سَقَطَتِ البِلَادُ دُونَ عَنَاءٍ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ بِالْأَمسِ، وَتَعرِفُ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ بَدَأَ بِكَذِبَةٍ، وَانتَهَى بِكذبَةٍ، حَتَّى الجرحُ يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذِبَةً. تَقَاوَمُ الكَذِبَةَ، وَتَصِيرُ إِصَابَةَ الهَدَفِ البَعِيدِ محورًا لِكُلِّ أَفْكارِكَ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى