الهروب إلى الجحيم
كان معلم مقام الشهيد آخر شيء واضح رآه منها، أحس بحزن غريب لفراقها،..لكن لم؟ أليس هو من اختار الرحيل بهذه الطريقة؟ دون أن يودع الأهل والأحباب؟ أليس هو من تمرد وقرر ركوب المجهول؟ مقررا: حياة حقيقية يحس فيها بإنسانيته أو موت رحيم مما كان فيه...
تذكر من خلفهم وراءه سيؤلمهم رحيله حيا أو ميتا أكثر مما سيؤلمه، أحس بحرقة في حلقه وهو يرى ترابها يختفي قليلا قليلا عن نظره، تعجب لهذا الإحساس هل أصبح يحبها الآن؟ الحقيقة انه لم يعرف سوى أن يحبها، لكنها لم تعد موطنا له، اصبحت ملكية خاصة لبعض اصحاب النفوذ والسلطة، يرتعون فيها ويتمتعون بخيراتها... لقد انقسم شعبه إلى زمر.. زمرة البطون المنتفخة، وزمرة البطون الجائعة اما نحن فلسنا سوى ( الشعب ) الشعب الذي تعلق عليه كل انواع الفشل والاخفاق، الذي تنسب اليه الكوارث والمصائب، الذي تسمى باسمه المشاريع وتؤخذ مصاريفها، باسمه ترتكب السرقات في وضح النهار، وباسمه تؤخذ القرارات التي لا يمسه منها إلا سلبياته، هذه البلد التي درس وتعب وحلم أن يشيد فيها ويبني مع اترابه... أن يساهم في دفعها إلى التقدم والازدهار... أن يقوم بدوره.. لكن لم يسمح له، قيل له: شكرا على خدماتك، لا نريدها.. بلده التي من اجل أن تنتمي اليها يجب أن تتمتع بمواصفات معينة : هل تتمتع بالقدرة على استعمال كل انواع الاحتيال والنصب؟ هل تملك القدرة على التلون كالحرباء؟ هل تملك ضميرا ميتا وقلبا لا ينبض؟ هل وجهك يتكون من عدة اقنعة؟ اذا كانت الاجابة نعم فانت مرحب بك، ستتمكن من العيش فيها.
صارت الارض خيطا اسود رفيعا في الافق، التفت صوب المجهول، لا يوجد سوى درجات مختلفة من اللون الازرق، وكأن السماء اطبقت وانصهرت مع البحر، فلا يستطيع أن يميز بينها، عاد إلى جلسته، وقد اختفى الخيط الاخير منها...
ـ لو كنت اعلم أن هذا مصيري، لما تعبت امي المسكينة في مصاريف دراستي... امي... انت الوحيدة التي اسف جدا عليها، ستحزن كثيرا علي، لكن عندما استقر واجد عملا وبيتا، واثبت نفسي هناك، ساعود وآخذها... انزل نظره إلى الكيس البلاستيكي المعقود بخيط احمر، دمعت عيناه، انه يحمل كل ما استطاعت أن تجمعه له، من اكل معلب وبعض الالبسة، تراءى له حنانها ممثلا في هذه الاشياء، لن ينس انها باعت كل ما تبقى لها من مجوهرات لتسدد له ثمن رحلته المجهولة...
ـ ارجو أن اوفق واعيد لها كل ذلك...
بدأت الشمس تميل نحو المغيب، تعجب من استمتاعه برؤية الغروب، غروب رائع احس انه وصل إلى الشمس، وامتلأت نفسه متعة وهو يرى غوصها في البحر رويدا رويدا، واللون البرتقالي الذي انتشر بقوة فوق اللون الازرق... لا يعلم اين كانت انسانيته، كيف لم يستمتع قبل اليوم بمنظر كهذا، لكن مشاكله سودت الدنيا في ناظريه، فلم يكن يرى ضوءا... مع اخر شعاع لنورها الوهاج احس وحشة رهيبة، بدا البحر يتلون بالسواد، اجتاحته رغبة في البكاء وسـرت في جسده رعشة برد ورهبة، لم يستطع كبح جوعه.. اخرج بعض الاكل، وبدا ياكل واسنانه تصطك، لفت نظره علم الجزائر على الجريدة التي تلف اكله، نظر إلى هذا العلم الغالي...
ـ هل ترى ما فعلوه بك وبنا؟ نسوا انه من اجل أن ترسم بهذه الحرية استشهد اكثر من مليون ونصف مليون من الشهداء، لا ادر أن عاد شهداؤنا ورؤوا حالنا ماذا ستكون ردة فعلهم، سيقومون بثورة اخرى يستشهدون فيها للمرة الثانية انتقاما ممن عبث بارضهم، ولم يحفظ الامانة ولا صان الوديعة... نعم سياتي يوم يحاسبون فيه على كل افعالهم.
لم يرى سواد الليل بهذه القوة من قبل، لم يحسه يلامس جسده، احس انه تغلغل داخله حتى اصبح جزءا منه.
ـ ماذا افعل بنفسي؟ لماذا فعلت هذا؟ كنت الان مع امي في بيتنا الصغير الدافئ؟... لكنهم هم السبب، هم من دفعوني لهذا، هم من أغلقوا باب الامل في وجهي.. لم يستطع أن يبوح بما في نفسه، حتى لا يتهم في رجولته... تسعتهم " حرق" لسبب لا يعلمه سواه، نظر اليهم من طرف خفي، لا تحمل وجوههم اية علامات انفعال، بدوا جامدين، ينظرون إلى اللاشيء، لا تكاد تفرق هل هم احياء ام اموات...
ـ هذا قدرنا...
ـ اثقلوا اللباس يا جماعة، سيبرد الجو اكثر. قالها صاحب الزورق، الذي قبض ثمن رحلة المجهول مقدما... فتح الكيس واخرج الالبسة التي وضعها والدته، دمعت عيناه للمرة الثانية، لقد فعلت لي كل ما اردت، حتى عندما قررت ركوب المجهول، لم ترفض مساعدتني... لبس قميصا صوفي من صنع يديها، لكنه لم يقه البرد، لبس قميصا ثانيا وثالثا...
صار الظلام دامسا، لا يستطيعون أن يشعلوا حتى سيجارة خوفا من أن يلفت ضوءها انظار حراس الشواطئ، احس بالجماد يتسرب إلى نفسه، لم يعد يشعر اي شيء، لا خوف من مجهول ولا حزن على الماضي، اضحى رجل جليد...
لم ير اشراقة النهار، سحب رمادية كثيفة حجبت ضوء الشمس، احس بالملل يقتل ما بقي فيه من حياة، متى ينتهي كل هذا؟ ونعرف مصيرنا؟ بدات الرياح تشتد، والموج يتعال اكثر فاكثر، يكاد يموت بردا، لكنه لا يستطيع أن يتشكى، كلهم حالتهم سيئة جدا، ضجر من الماء الذي يبلله كلما ارتطمت موجة بالقارب، لكن سرعان ما نسي ذلك عندما لامست قطرات باردة قادمة من السماء وجهه، يا الهي متى سنصل؟
اشتد المطر، اصبحت اطرافه زرقاء، لم تعد ملكه، فقد احساسه بها، اشتد خوفه، اصبح القارب لعبة بيد الامواج الهائلة، تتقاذفه يمينا وشمالا، تعال صراخهم... لم يعد في إمكانهم أن يخفوا خوفهم الشديد، نسوا هيبتهم ورجولتهم التي يجب أن يحافظوا على مظهرها... تمسك كل واحد فيهم بالقارب تمسكه بالحياة، قاوم القارب هجوم الامواج بضراوة، لكنه ورغم صراخهم الشديد استسلم في الاخر، تبعثرت الواحه على سطح الماء، سبح بكل قوته ليتقط لوحا خشبيا يتمسك به، كما فعل الاخرون، تشبثوا به كاخر امل في الحياة، التفت إلى كل الاتجاهات، لم ير غير مياه غامـرة، صرخ... بكى بجنون... لماذا؟... يا رب... انقذني.. ساعدوني؟ لكن من سيساعده، لم يكن حالهم احسن منه، كلهم يصرخ، كلهم يطلب النجاة، كل واحد منهم يسبح في اتجاه... حالت بينهم الامواج العالية، لم يعد يرى غير اثنين أو ثلاثة منهم، ازداد خوفه، عرف أن النهاية اقتـربت، انزل عينيه على ذراعه.. بكى كثيرا... لم يعرف كم مضى من الوقت، رفع رأسه، كان البحر قد استعاد هدوءه، هالته المفاجاة... اختفى الجميع، ازدرد ريقه المالح جدا، نادى باعلى صوته:
ـ عماد... سمير... رياض..
لم يرجع له صدى، هل انقذهم احد؟ هل نسوا أن يأخذوني؟ ربما لم ينتبهوا لي، ربما غـفوت... ربما ابتلعهم البحر.. نعم هذا ما حصل، وعن قريب سألحق بهم... لم تعد يداه تتحملان اكثر، اصابه تعب ووهن شديدين، تمسك من جديد باللوح الخشبي، صار نقطة في بحر، نظر حـوليه، لا أثر لحياة.. فقد الأمل في النجاة.. ليس امامه سوى انتظار مصير اصحابه، احس بالشلل يكتسح جسده، فقد السيطرة على يديه، اصبحتا مثل اللوح الخشبي، اسلم جسده للبحر دون مقاومة.. وكانت آخر كلمة قالها: سامحيني أمي...