الموقف من إعمال حقوق الإنسان
يرفض عدد لا يستهان به من المثقفين العرب وغير العرب مفهوم المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل المرأة أو لديهم تحفظات عن هذه المساواة حتى لو كانت هذه المساواة مراعية للاختلافات الطبيعية، ومنها الاختلافات البيولوجية، بينهما. ويعتبر كثير من المثقفين مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة منتجا غربيا. ويعتبر بعض المثقفين حركة المساواة بين الجنسين، وحركة حقوق الإنسان برمتها، حصان طروادة الجديد الذي يحاول الغرب عن طريقه السيطرة وإحكام السيطرة على العالم غير الغربي.
في هذا السياق يطرح سؤال هام جدا، سؤال تنبغي الإجابة عليه لأن تلك الإجابة من شأنها أن تساعد في تحديد الموقف الذي يتخذ من مسألة حقوق الإنسان، بما في ذلك حق المرأة في المساواة. والسؤال هو هل إمكانية أو احتمال استفادة دول، ترغب في بسط نفوذها، من إشاعة وتحقيق مفاهيم رفيعة وسليمة ومفيدة لمجتمع من المجتمعات النامية – هل هذه الإمكانية – أو الاحتمال – تصلح، من منظور فائدة الشعب والمجتمع، لرفض تلك المفاهيم؟ هذه مسألة يختلف المفكرون والمثقفون فيها.
لا أعتقد أن هذه الإمكانية ينبغي أن تشكل – من منظور فائدة الشعب والمجتمع – أساسا لرفض هذه المفاهيم. وفي الحقيقة أن كثيرا من المفاهيم التي تشيع في بلدان نامية – ودول غربية – والتي تقبلها هذه البلدان ولا يثير قبولها خلافا أو جدلا داخلها يمكن أن تستعملها دول تسعى إلى بسط النفوذ والسيطرة، وهذه الدول الأخيرة تستعملها فعلا لتحقيق أهدافها.
ومن الصحيح القول – كما تثبت ذلك دراسات اجتماعية نفسية – إن مما يزيد من سهولة قبول مفهوم من المفاهيم هو مدى تعرف ذلك المجتمع عليه. وبعد أن يدخل مفهوم من المفاهيم الجديدة حياة مجتمع ما ويستقر فيه لا يعود يشكل مثار خلاف كما كان عند البدء بدخوله وإقراره.
وفي الحقيقة أن مدى إمكانية أو احتمال أن تستفيد دول تسعى الى الهيمنة من إشاعة مفهوم من المفاهيم في البلدان النامية يتوقف على عدة عوامل منها قابلية تلك البلدان لأن تحقق تلك الدول هذه الإستفادة. تكون تلك البلدان أقل قابلية إذا توفرت عوامل منها قدر كبير من الحرية الفكرية ومن إشاعة القيم الديمقراطية ومن تماسك المجتمع القائم على مرجعية فكرية قيمية أوسع وعلى مفهوم أوسع للقاسم المشترك الأعظم بين فئات المجتمع، وقدر كبير من الإلتصاق بين الدولة والمجتمع، ومن الإنسجام المجتمعي ومن إتاحة الفرصة لأن يتبادل المواطنون الفكر دون خوف من بطش أصحاب السلطة ومن الوعي السياسي والإجتماعي لدى المواطنين، ومن صلاح الحكم وحسن الإدارة الحكومية ومن الاستقلال الإقتصادي للبلد. وتكون تلك البلدان أكثر قابلية إذا انعدمت تلك العوامل.
وتشيع في البلدان النامية كثير من المفاهيم التي تستفيد دول تسعى الى النفوذ من شيوعها في هذه البلدان. وهذه المفاهيم قد لا يقل أثرها عن أثر مفاهيم حركة حقوق الإنسان في حياة شعوب تلك البلدان. هل يريد الرافضون لمفاهيم حركة حقوق الإنسان أن يقولوا لنا إنهم بصدد إقصاء هذه المفاهيم عن مجتمعاتهم. ويشهد التاريخ على أنه بعد أن استقر بعض هذه المفاهيم لا نرى هؤلاء الرافضين يثيرون هذه الزوبعة الكلامية حول دخولها.
وأنا في الحقيقة لا يمكنني أن أتفهم حجم مناهضة إشاعة مفاهيم حركة حقوق الإنسان. ومرد عدم إمكان التفهم أن هذه المفاهيم واردة في الحضارة العربية الإسلامية. إلقاء نظرة على مفاهيم حقوق الإنسان في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وأقوال الخلفاء الراشدين، وخصوصا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، يدلنا على ورودها في تلك الحضارة.
ولا يمكن أن تحقق البلدان النامية التقدم السياسي والاجتماعي والإقتصادي والاستقلال الإقتصادي والثقة بالنفس بدون أن تتوفر عوامل من أهمها إشاعة حقوق الإنسان، وعلى وجه الخصوص حقوق الإنسان السياسية والإقتصادية. ولا يمكن أن يحقق أفراد مجتمع هذا التقدم والاستقلال والثقة بدون إيجاد جو مؤات لهذا التحقق، جو من ملامحه الرئيسية توفر قدر كبير من الديمقراطية ومن التحرر من الخوف ومن الجوع وقدر كبير من الثقة بالنفس ومن الرؤية الصحيحة للذات وللآخر. وهذه الملامح لا تتوفر بدون إعمال حقوق الإنسان.
وتقوم أسباب للحيلولة دون الإقرار بحقوق الإنسان ودون تحقيقها. ومن هذه الأسباب خوف المستفيدين من الحالة القائمة من أن يؤدي الإقرار بحقوق الإنسان إلى المساس بأصحاب المكانة الإجتماعية والسياسية.
وهناك مبادئ في مجال حقوق الإنسان أقل كثيرا إثارة للخلاف. بالنسبة الى هذه المبادئ من الأسهل طبعا التوصل الى اتفاق حولها ومن الأسهل إقرارها وتحقيقها. وعدم إقرارها نابع من مجرد استمرار قوة عادة إهمال بعض حقوق الإنسان او من الجهل بأهمية إقرار هذه المبادئ وتحقيقها في تعزيز قوة الدولة والشعب او من تخوف أصحاب المصالح الإقتصادية والسياسية من نتائج هذا الإقرار.