السبت ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢
بقلم الحسان عشاق

المشبوح والشيخوخة

تزحف نحو الهزيع الأخير من الشيخوخة اللعينة، مستسلما، بائسا، طريق ملتهب، طويل، شاق تحمله فوق الظهر، ولدت في مستنقع الظلام الدامس على ناصية الكوابيس والاستعطاء، ترعرعت في العبثية واللاجدوى، في حي تسيجه القمامة ووقع الخطوات يثير الغبار، تركض في الأزقة متنفسا طبقات من الحرمان والضياع، يتقافز أطفال مهلهلي الثياب في ذاكرة مكتظة بالوجوه الخشنة والتواريخ، تتعرى شقشقات الطفولة في بحر متلاطم من الرغبات الخالية من طقوس البراءة، تمتلأ الرئة الضيقة بأنفاس اللاهثين في اللقاءات الحميمية، تشبه الكواعب شكلا ومضمونا، كاعب ترفرف على صدرها الحمامات النافرة، تستدرجها الكلمات المقتحمة، تلين التردد قسوة النظرات الممزوجة بعذوبة الاقتحام، لم تستطع مقاومة ذئاب الخطيئة، الخطيئة تحيي عظام المكبوتين وهي رميم، من فرط القهر والعسف والتنمر تسترضي الصحاري العطشى، أردت مرة ركوب جندول الرفض والتعنت،اشتعل الوجه منك بصفعة أذابت التردد، تجمع شظاياك وتمسح المخاط من الانف، الصراخ جف في الشفتين، تصببت عرقا وذرفت دمعا وارتعشت الأشلاء، مشيت أمامه منكس الرأس تلسع الظهر والقفا الكلمات النيابة، تمددت مرتعبا فوق الحشائش وسط نباتات شوكية طويلة تنتهي بثمرة مغلقة تؤكل، يتعالى شيئا فشيئا صوت قاسي، الأجواء مشبعة بالالتحام العنيف، مد وجزر، نهيق يأتي من بعيد، من وسط دخان السجائر والزفرات تجمع الأشلاء المتناثرة، تتعثر في حفرة مليئة بالمياه العفنة، تكاد تسقط على الوجه عرفت للتو أن الحوافر أصيبت بالوهن و الهرم، تستيقظ دفعة واحدة من رحلة السفر في الماضي البعيد في هشيم العمر المترامي السنون،الشارع يزدحم بالحركة، ضجيج وضوضاء، أشعة الشمس تمسح الوجوه.

بقي لك سنتين لتنام مع الأماني المطلسمة وتجتر الذكريات البعيدة بحرقة ولوعة، سنتين فقط وستدب صاغرا على سفوح الهرم منتعلا صفارات الإنذار والاحتراس من الجميع، مفرقعات الهلوسات تطن في الآذان، الستارة تسدل على الفصل الأخير من المشهد الصعب في الحياة، ستتعرض لعوامل تعرية،خسوف،كسوف، تصحر، أمام المرآة بدأت بعد الخطوط في الجبهة،وتشد الجلد المتهدل تحت العنق بالأصابع، تحت العنق تتدلى قطعتي جلد كانت صغيرة في البداية وكبرت مع الأيام، في الأيدي تظهر بقع بنية صغيرة بدأت في عدها واحد… ثلاثة... خمسة...، تستفزك البطن المستكرشة المنتهية بجيوب صغيرة متموجة، في الحمام الشعبي شبهك احد الزبناء القدامى بالعنكبوت حين امعن النظر في جسمك، انطفأت الحماسة في عينيك المغمضة، جمعت الأمتعة وغادرت الحمام على عجل مزموم الشفتين شارد الذهن، لا تريد أن تتحول إلى أضحوكة ومصدر هزل وقفاشات في المقاهي، تعرف انه في جلسات الأنس تستحضر الأسماء وتفرم فرما، فتقطيع أوصال الآخرين رياضة مفضلة بالمدينة الغارقة في الفساد والجهل، يدخلون المستهدفين عنوة في صلب المواضيع التافهة، تحس بالاختناق من الحركات المتثاقلة، تسمع عويل العظام عند كل خطوة مصحوبة بكحات، تذرف الدمع على الوجه الشاحب المفعم بالأخاديد الغائرة، جفت مصبات الألق في الشرايين مند ربع قرن، علامات الهرم تطاردك رغم انفك المزكومة والأبهة المغشوشة، المصطنعة، تستأصل بقايا الخفة والنشاط الفارغة، تقترب من النهاية، شاركت على مر السنين في دفن الآلاف من موتى المسلمين الصالحين والطالحين، وقفت متخشعا أو تتظاهر بالخشوع مع جموع الفقهاء تتلو على المسامع ما تيسر من الذكر الحكيم، لا تحفظ من الكتاب المقدس سوى بعض الآيات حين تستنفذ ما في الجعبة والفشل في مجاراة الإيقاع تظل تمضغ وتمضمض كلمات مبهمة وتلعب بالشفاه باحترافية بالغة حتى لا ينكشف السر ويعرف الناس انك فقيه مزور، ترفع اكف الضراعة إلى السماء وتطلب من الله أن يغفر للميت زلاته ويبعثه مع الصديقين والشهداء، وهل يقبل الله الدعاء ممن يأتي الكبائر في وضح النهار، حين تستكمل شعائر الدفن تتسابق مع بقية الزمرة من حفظة القران إلى قبض الثمن، لاشيء لوجه الله في عالم اليوم، كل شيئ مبتذل حد السفه والامتعاض.

الشيخوخة القدر المحتوم هزمت أعتى من دب على الأرض وحولته إلى شبح وخيال يستحضر في الحكايات والقصص الشعبية لتخويف الأطفال أو لنشر العبر، لكنك مجرد نكرة بدون قيمة تقترب من مواسم الحصاد وحتما ستلتحق بقافلة العابرين إلى مثواهم الأخير في صمت، أسماء كثيرة اختفت عن الحضور في اللقاءات والأمسيات بسبب الهرم، تتحاشى خجلا اقتحامات الأفول،في سماوات الروح المبعثرة طيور الحنين إلى الشباب ترفرف في المخيلة المشوشة بدون انقطاع، لكنك كمن يركب صهوة المستحيل، تجلس في المقهى وتشد الرحال عشرات المرات إلى دورة المياه، تتبول قطرات في المرحاض والبقية في السروال، كل مرة تغير التبابين وتستعين بمحارم ورقية بدون فائدة،اقترح عليك المقربون جدا استعمال حفاظات الأطفال والتقليل من شرب السوائل، اشتعلت غضبا وحنقا وارتعدت الفرائص، الآخرون حشرات ذميمة نافقة تسحق تحت القدمين، عدسات الارتياب ترصد حقدا دفينا وسخرية قاسية من تحت الكلمات النصوحة، بسبب الظنون والشك المبالغ فيه انتهى بك المطاف على قارعة الإفراد مثل البعير المعبد على حد قول طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة، تقف في منتصف الألم تغوص في أسئلة من افترشك لأول مرة غصبا واستباح البراءة ووقع على شهادة ولادة منحرف تلاحقه لعنات قوم لوط، تهدا العاصفة وينسحب الفوران رويدا رويدا، تصبح كل الأشياء المستعصية مستساغة، تنصب خيمة عزاء على شرف العمر الذي ضاع هدرا، ترتب الهندام، تسوي ربطة العنق، تلمع الحذاء، تتبرج مثل النساء، مرهمات، مرطبات، منشطات، مهيجات، آخيت بالمشط الشعر المصبوغ الملمس بالدهان، ضغطت على البخاخ وضمخت الجسد بعطر قوي، أعدت شد الوجه باليدين المرتجفتين اللتين تبرز منهما العروق، تمنيت إجراء عملية جراحية لتدثير الأخاديد لتبدو في كامل الوسامة والشباب، هممت بالخروج إلى الشارع، ربتت على الجيوب، المفاتيح وحافظة النقود اختفت، فتشت في كل ركن من الغرفة، جلست محتضنا الرأس محاولا التذكر، طافت عيناك الضيقة في كل شبر، دخلت الحمام وجدتهما هناك على الكرسي. أحقر مراحل الشيخوخة اللعينة فقدان الذاكرة و الحركة وعدم المقدرة على التصرف ونسيان ابسط الأشياء وبالأحرى تذكر الوجوه القريبة، خيانة الصحة اكبر ابتلاء للطاعنين في السن، الطواف على المستشفيات موت بالتقسيط بسبب صعوبة إيجاد الدواء الشافي لاسترجاع شيئا من الحركة واللياقة البدنية وتنكر الأهل و الأبناء والأصدقاء، الشيخوخة في الوطن المنكوب تحيل إلى لاشيء في المعادلة العائلية والاجتماعية، الجميع ينتظر رحيل الهرم ليذرف بضعة دموع وإقامة وليمة على شرف الموت/ الخلاص الذي يزيل الثقل والحرج عن الجماجم، ابتعاد الناس وتبرمهم من الشيخ واعتباره زائدا عن الحاجة اشد الطعنات وأقواها فتكا بنفسية الإنسان. أصعب شيئ يواجه الإنسان ليس الموت لان الموت فيه خلاص وراحة أبدية إنها الشيخوخة/ الناقوس الذي يدلف من المسام قطرة قطرة، يقرع أجراس النهاية بالتسلل إلى العظام.

مشات أيامك بقا فيك غير الكادر-

ترتج أبواب الشرايين على عجل بالقرب من نوافذ الفضول وردهات الدهشة، قذائف الرجم تهطل فوق الشرايين، تقرع طبول الجلد من الأعناق الحانقة عند ناصية الشارع، اغلبهم كانوا معك في مقاعد الدراسة، بعضهم انتعلك في المراحيض وبعضهم سمع عن المغامرات السرجية، تسمع عن بعد همسات ثم ضحكات فاجرة، لعنت الحساد والناقمين والتافهين، تمنيت جلدهم، شنقهم، تقطيعهم في مكان عام، رعشات النبضات في العيون تحكي أسرار التبرم الداخلية، الحقيقة سيف ذو حدين، و الجرح ينزف تشنجات وانقباضات على مدار الساعات، من اسفل الظهر يتصاعد الألم المهيض والمر، مترع بالصمت والتنمل والحك الذي لا يفيد في شيئ، الساعة السادسة صباحا موسيقى صاخبة تضج في الرأس، أهملت الوضوء والصلاة، التسابق للصفوف الأمامية لإقامة صلاة الفجر لم يعد ممكنا، اغلب الناس يعرفون انك تتواجد حيث المسؤولين لالتقاط الصور وممارسة لعبة التزلف طمعا في كرم سلطوي في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ترشحت عشرات المرات فزت مرة وانقلب عليك الرأي العام، عرفوك خائن للأمانة ووصولي بامتياز،لا جدوى من دغدغة أحلام الناقمين بالكلام المبرنق، في طريق عودتك إلى مسرح السقطة كانت السذاجة تطفو فوق المحيا والأنفة الباهتة مستندة على شخير الهزيمة، فشلت مرة أخرى في القبض على السراب في المدينة الرازحة تحت الفساد والدعارة والشدود، اختفيت عن الأنظار حين فاحت رائحة الفشل المهين، وحدك في قفص التراشق والتنابز بالكلمات.

في الليلة الماضية لم يهدأ الجرح المتقيح من النبض، قرأت المعوذتين آلاف المرات لكن الجرح المتقيح ظل يهرش الخلايا،تحس بشيء يدب في المخرج أشبه بدبيب الدودة، دودة تسربت للجسم واستوطنت في المؤخرة، حين تجوع تبدأ في النبش والحفر وتحتاج إلى لقاح لزج يخرج من الثعابين البشرية، سيل من الدموع وتمرغ في الفراش، لا احد ينتشلك من الشهقات والتورمات،وحدك تحمل نعشك الموسوم بلعبة المد والجزر والرقص تحت أقدام اللعنات وذبذبات العواء، الجسم يحتاج إلى فيتامينات للارتواء ومضادات سرجية منعا لتأكسد الخلايا، تشحيم الجرح/الألم رياضة يومية، الروح تشتكي الوحشة والاختناق وضيق التنفس، تمضغ في سخافة الصور الباهتة العالقة في الدماغ مند فجر الوعي، تظلم الدنيا وتسود في العيون الذابلة، لا قيمة للحياة بدون مصل سرجي، المصل نادر مفقود يحتاج إلى رزم من الأوراق الزرقاء ولباقة وكياسة في فن الاستدراج،وغنج أنثوي خالص، تبحث عن ذاتك في ذوات الآخرين خارج هيمنة الأشياء، ولاشيء يمنحك السعادة والطمأنينة سوى ما تحت الصرة، وحده ما تحت الصرة يزيل العبوس عن الجبهة المثخنة بالعياء والترهل في زمن غير بريء، النظرات العابرة للقلوب المفتوحة على قنص الوحيش تجرجر أذيال النوايا السيئة، ترفض الدخول دائما في صلب الموضوع حتى لا تفشل عمليات القنص، تحترس من إعلان الانتصار والسقوط في مهاوي التفاؤل الكئيب لتجنب اجترار أذيال الهزيمة، في سوق العرض والطلب لا ضمانات.

شحال تعطيني-

ما شي مشكل لفلوس طلب ما تسال-

الثمن أولا-

ما قلتي عيب-

تنزف حسرات مكبوتة متعددة اللهجات والقراءات، هواية مفضلة لاستدرار العطف وشراء لحظات دافئة محكومة باللعنات،بلغة الإشارات فقط تتم الاتفاقات السرية،حين يشتد الألم تفقد البوصلة، يتعرض الوجه الموشوم بالجفاء والإهمال وتتعثر الخطوات وتكبر الأسئلة الصماء الشبيهة بالنفايات السامة بحجم الألم الغارق في رماد الكبرياء، تحس بالضياع والتشرد واليتم، من الصعب أن تحتمل ما لا يحتمل، لا تنفع المسكنات و لا المهدئات ولا الوصفات المطلسمة لفقهاء ضالعين في الشعوذة، وحدها الخراطيم البشرية تعيد التوازن، كاتمة للأنفاس ومقتحمة للأحاسيس المتشنجة المبعثرة على أرصفة التطلعات، تعوض بضعة ساعات عن فقدان سبعين سنة من العطش المتجدد والانتظار تحت سماء مشهود لها بالتبرم والجفاء، لا شيئ يصفي الدماغ من تصحر الأيام ويباب السنوات المدرجة بالتجاعيد سوى رقصات العرق المكتنزة الأثداء.

تظلم الدنيا أمام العيون الناعسة، الجوع البطني اخف وطئا من الجوع السرجي، امتنعت عن الأكل وأدمنت شرب القهوة السوداء والمياه المعدنية، الساعة تشير إلى الواحدة بعد الزوال، جلست وراء المقود أدرت المحرك وانطلقت السيارة بسرعة جنونية نحو الجنوب، تهرع إلى المدينة الشاطئية لاستقدام مصور حفلات متمرس في رتق الجراح،دائما هناك خطة بديلة حتى لا تقع في الخصاص، رجل أشبه بأحدب نوتردام، متسخ، عطن، ثياب مهلهلة، لكنه يحمل معه أينما حل وارتحل مدافع الإنكليز،قادرة على دك معاقل الألم،حين تنتهي أشواط الدعك والفرك من تحت فوهات المدافع، تسرج وتضيئ في الجمجمة عشرات المصابيح المطفأة، تأخذك على حين غرة نشوة طفل اكتشف لعبة جديدة، للحياة قهقهات عالية الجودة، الحبور يرفرف فوق السحنة،تستعيد المدينة الرازحة فوق الجبين الرونق والجمال، تكف عن السب والشتم، لم يكن الله ابدأ إلى جانبك،ثمة جرس داخلي يرفع آذان اللعنات، حقيبة سوداء ترتاح على الكتف، عشرات الكاميرات من أحجام مختلفة تتدلى، قيل انه يشتغل في عدة جرائد مصورا محترفا، لكنه دائما مفلس لا يجد قوت يومه، رائحة نتنة تقيئ البعيد قبل القريب، لا تتركه يفترشك حتى يستحم ويتعطر، في الفندق المصنف يكون اللقاء، النوادل يكتمون السر، ما يهم البقشيش والسخاء المغلف بالأبهة الفارغة، تحضر إلى الفندق للمبيت مصحوبا بالإزميل لينحت تحفة فنية تحت سحابة سوداء ممتلئة الأوداج، ينشط التملق والتزلف الظاهر، تصبح سخيا خوفا من الفضيحة، الكرم الزائد يجعلهم ينزحون من إيمانهم الهش، المال يزعزع عقيدة الفرد الفقير يجعله يحمل توابيت الذنوب والمعاصي.

سير غسل حالتك-
دابا-
لبس الفوقية البيضاء وحيد عليك هدوك الشراوط فيهم ريحة العرق-
مرحبا-
خوي عليك شوية نتاع العطور-
مرحبا-

مرادشي صاحب (الزوم) الكبير يعرف كيف يجفف دموع الألم في المآقي،حصاد محترف يعرف كيف يحصد وفرة من ثمار البهجة، يعيد ترتيب الأشياء المبعثرة في المخيلة، لم تختره عبثا أو اعتباطا بل اخترته بعناية لأنه الأرخص والأقل تكلفة، من يقبل مسايرة تنطعات وسقطات شيخ اكتسحته الأخاديد سوى شخصا تقطعت به سبل الرزق الحلال، مال سريع لعمل اسرع وقبيح، يرسم بما تحت الصرة رغيف خبز من صحراء تجثو على الركب تنتظر غيمة داكنة،ومرور قوس قزح، وحدها الجدران شاهدة على العرق والآهات المتقطعة وارتفاع دقات القلب في الجولة الأخيرة، تستقيم الظهر المحدودبة، يجوب الغرفة بالعيون المحمرة، المشبوح يشتعل فرحا، اشتعل القنديل الزيتي العتيق وصممت الحرب في الحجرة، ترقص الأشجار في الغابة القريبة المقابلة للفندق، تقلصت مساحة الأشجار المغروسة، قطعت أشجار كليبتوس عمرت طويلا وعبثت الأيدي المخربة بالكنسية القديمة التي ظلت شاهدة على مرور الاستعمار الفرنسي من المدينة المنسية، في سنوات قريبة أعيد ترميمها وإصلاحها وجهزت بأحدث الأجهزة السمعية البصرية وأصبحت مركزا للمحاضرات واللقاءات الثقافية والسياسية، عدة اشهر كانت كافية لتتحول إلى خراب و مرحاض عمومي، تختفي الكوابيس وتنسحب، يرن الجرس ويدخل النادل محملا بفطور شهي،ابتسامة معلقة على الشفاه، ابتسامة تلخص كل شيئ، المصور العاطل هزمته الظروف الصعبة، يعمل طوع أمرك يكتم السر عن وشاة جاهزون لحصد بريق الابتسامة، يستلقي متحسرا في ساحة المعاصي، في اللسان متسع للمفردات الصالحة للتمني، في الصباح تمددت في السرير اكثر حيوية ونشاطا باستعادة الإحساس بالجسد، محلقا سابحا في الفضاء، و الشوق فاض غزيرا، فالعقل المسلوب والغائب يضيف جرعة المخاوف من قطع خيوط هوى متجدد لا يرتوي، لكنك في ذروة الخصاص تخلع عن الوجه أقنعة الحشمة، تتشبث عنوة بأهداب الاختلال الجيني في فضاء محدود البوح، العيون المرهقة تبحث بمشقة عن نظرات موغلة في الظمأ، الرسائل القادمة من الفؤاد تقطع الأوصال تزيد من منسوب القلق، استدرجك ذات يوم شتائي بارد حداد الحي الشعبي، لم تر في حياتك رجلا اكثر اتساخا وضخامة، مفتول العضلات، اشعث الشعر، جاحظ العيون، يداه مشققة الأصابع، خشنة، يرفع المطرقة عاليا ويهوى على قطع الحديد المحمرة المسحوبة من النار المستعرة، تتحول إلى سكاكين وصفائح للبهائم، لكنه لطيف صاحب نكتة، سمع مغامراتك الشاذة، كلما مررت محملا بالحقيبة المدرسية بالقرب من المحل يرمي عليك كلمات الغزل، مقدودة من صوت مغنية تملا الزقاق طربا، الأسطوانة السوداء الدائرية تدور دورات خفيفة على الإبرة الصغيرة المشدودة إلى أداة موصولة بالآلة المربعة، المارة يطربون لأغنيات سيدة الطرب العربي أم كلثوم، تفهم في الإشارات والعبارات العاهرة،المعاني الزاحفة تتدفق شبقا وتنثر علامات الإعجاب القابلة للتأويلات، نظرات مقتحمة ومتعطشة لصولة القضم،تهرب من المطاردة اليومية إلى فقاعات الخيال، استمر التحرش في الذهاب والإياب حتى خرج المنحرف من قمقم الخوف، اقتربت من الأسلاك الشائكة راسما حدودا لثورة اللهاث، تفاوضت على السعر بحماس متقطع يشبه الحشرجة المكبوتة، الحداد في قمة الانشراح والسعادة في يوم مشحون بضجيج المتعة، أمطرت السماء يومها ورقات نقدية من فكي الكير، يمد الحداد لسانه المنزلق ويلعق الشفة السفلى، اطلق قهقهات عالية طمست صوت مطربة الجماهير، اندفعت خارج الدكان المتسخ وكلمات أغنية (فكروني) تسبقك إلى الشارع، تكررت الزيارات يوما على صدر يوم، الحداد لم يعد سخيا وحنونا كما في الزيارة الأولى، اصبح شحيحا وكثير التذمر والسخط، سطر ذات شتاء القطيعة حين أشبعك سبا وشتما، لم تغضب حين رايته صحبة غلام أخر، بعد سنوات من العربدة والمجون تزوج وانجب أطفالا وانضم إلى جماعة إسلامية بدل الأسطوانات الغنائية بالأشرطة الدينية لدعاة ووعاظ وقراء للكتاب المقدس، بدل السراويل الضيقة بأخرى فضفاضة وحشر الجسد في فوقية بيضاء والرأس الصلعاء في طاقية ناصعة البياض واطلق اللحية واصبح يجالس فقهاء وائمه طاعنين في الوقار والاحترام، تساءلت يومها بحرقة والم ظاهر إن كان الحداد قد وجد زوجة تقبل أن يقد قميصها من دبر.

يستحيل نسيان الأمكنة الشهية ومواسم الشوق العالية الحرارة، ترفرف ويخفق لها القلب بدون إنذار، الاحتراس من أعين الطفوليين النافذة للنوايا مطلوب، لاشيء يقف أمام الجوف العطشى سوى صعوبة إيجاد قطع الغيار، لا تجيد الابتسام والضحك إلا بالدفع المسبق، الحياة تزحف وتدب في الأوصال من رائحة العرق واللهاث، لم تختر الملامح الأنثوية الملفتة للأنظار، الشعر الأسود الفاحم المنسدل على الوجه والشفاه الحمراء و المشية المترنحة والغنج والدلال الظاهر والوجه الخالي من الندوب والكدمات دلائل على وقوع خطـأ ساعة جماع الأبوين، ذكر بهرمونات أثنى، لله في خلقه شؤون هكذا صاح بقال الحي حين رمقك تخرج من دكان الحداد تزرر القميص وتنفض الغبار عن السروال. مند الولادة/ الخطأ تمتطي السراب تصارع الضباب الرابض على قلب الأفق البعيد، حالما بقطف ثمار متكلسة في الدماغ، لا تتردد في تأجيج أوهام العظمة، ترفض أن تكون تابعا ومريدا بعدما قضيت سنوات أسيرا للسالبة، مشدودا إلى هاوية الهوى المحرم معصوب التفكير، خنوعا جاهزا لأية نزوة عاطفية مستبدة عابرة للمسام،تستباح يوميا بأبخس الأثمان، تتسبب في إكثار اللعنات، دست فوق الذكريات المتعبة برعونة بنظرات قاحلة كالاغتراب، تتمترس في بطنها مشاعر متعددة الأوجه، ألقيت جميع الأسلحة المجربة لهزم الزمن الذي سرق اللون والجمال، لم يبق منك سوى شبح منقوع بالذل والخنوع، عابر بلا صوت ولا قيمة، تنتابك الحيرة وتتكالب على الدماغ عشرات الأفكار السادية، وحده اللسان لا يزال صامدا يقطر لعنات وسباب وشتائم،على أهبة الاستعداد لغرز الكمات البذيئة في الأذان، في الفضاء الواسع ينتصب غبار التعب وينفضح الوجه المستعار ويجتاحك بعنف قلق اللحظة العابرة، تتشابه الصور القديمة والحديثة في الجمجمة وينام الأحباء والأعداء جنبا إلى جنب على خريف وسادة المنفعة، ابتلع الترهل صدى المسافات الموغلة في التيه والتشرد، هرب الدفء من أوتار اللقاءات الخفية وعلى ركبتيك المدماة انتشت الأفئدة المنفلتة من ترنيمة المعصية.اقترب الغروب والصيف أسود تعبس منه أزقة الأحياء الشعبية الغارقة في الأزبال والأتربة، من شظايا الصخب رقصت مشاهد مسلسل لم يطوه النسيان يندفع أشبه بركام الأحجار في المخيلة، في طريق الفرار إلى منعرجات الطفولة انتعلت صفارات المسكنة ولعبت دور الفتاة المحبة المكسورة الأجنحة،رسمت حدودا بين اللهاث واللهاث على تخوم المطالب، شهوة خيول الظلام تقفز من ربوة على جدار الخطيئة، ترمق بحرقة عناق عاشقين في زاوية معتمة، ولطمك طريق الاشتياق وتعويذة

البدايات ووحشة الخراطيم والأظافر تخمش الجلد،تنحني في غنج ودلال لقبضات الشوك و أنياب اللحظات الدنسة المتوجة بزفير الآهات.

تزحف بعجرفة في سراديب الحياة لتنام في العدم، تتلاشى كلمات الحب والحنين حين استيقظت في آخر العمر على هيكل عظمي لم يعد يصلح لأي شيئ، لا قيمة لك في المفكرة سوى سنوات مكللة بالتجاعيد والعيش بين ثقوب الهوامش، بحثت عن اسم براق بين جموع النافذين في أجهزة الوطن، بحثت عن معنى لوجودك الشقي والمبتذل في شوارع وأزقة وأحياء منكوبة الأنفاس تبقر بالخذلان والنكران أجساد الانتماء، حاولت مرارا وتكرارا طوال السنوات المنصرمة البصم على جغرافية بلهاء لإعلان الوجود، كل ما تقوله وما تفعله في الجلسات الصاخبة ضدان ينتزع القهقهات من الجماجم،حين تغوص الشمس بين أهداب الغروب تذرع الشوارع بحثا عن مفتولي العضلات للسفر في رقصة الانتشاء هربا من ظمأ النحيب. تتساقط زفرات العياء على دفعات من الوجه المخضب بالهزائم والعثرات،من عقارب ساعة متآكلة يتدلى الخسف المبين، النط للصعود إلى القمة لم يعد يجدي، زمنك انتهى تحت سماء مشهود لها بالجفاء والقسوة، مشاهد خادشة للحياء تستعيدها حين يلوذ اللسان المعقوف إلى جحور الصمت، في المخيلة تندفع آلاف الصور الرتة، تطن في الأذن كلمات التقريع والتجريح الملازمة منذ ساعات الإيلاج الأولى، اللعنات والتبرم جاورك مند نعومة الأظافر، الأظافر الناعمة تخص الذين تربوا وفي أفواهم ملاعق من الذهب أما الذين ينبش أباؤهم في القمامة ويحفرون التراب يولدون بمخالب وسكاكين هكذا رد معلم الصف الخامس متهكما حين انعرج الحديث في درس الإنشاء عن النعومة والرطوبة

والنقاوة،سطر بالقلم الأحمر على الكلمة الشقية وصمت التلميذ عن الكلام، القول ما قال المعلم الذي يدخن بشراهة وينفث الدخان في وجوه الصغار.

لا ذكريات جميلة على شواطئ الجسد سوى قصف والأم وعنف لفظي وجسدي، هارب من آلهة الكراهية الرجيمة،والريح تعصف بالعتب وترفع من نسب الوجع، لا خيار أمامك سوى مضغ نزفا بلل المحاجر، كل يوم تجثو على الركب راضيا لتلتقط الخراطيم البشرية باشتهاء، في سن الخامسة عشرة تمزقت المحفظة المدرسية المصنوعة من بقايا سروال جينز تحت الشد و الجدب ردا على تحرش تلميذ باغتك و دفع اصبعه في مؤخرتك بتهكم وسخرية لاذعة، أثارت ضحكات التلاميذ، تناثرت الكراسات والكتب في الزقاق المترب،لم تكن تلميذا نجيبا في حقول العلم والمعرفة،تتهجى العطف بعيون تنز شبقا،تعشق التسكع والتسول بالسافلة، لكنك شاطر في قواعد الاسترضاء في دورات المياه حيث تختفي وسائل الحوار، تستلذ باستقبال قذائف تمطر من لهاث الدعك لحظة اشتداد المخاض وتحرص على القبض المسبق حتى لا تسقط في متاهة المقالب، تقايض المصران بدراهم معدودة أو خبز مغمس بالمرق، حماية من الأشرار والفتوات، في البراري والبساتين تقطف الثمار المحرمة عن طيب خاطر، في المنزل لا تأكل حتى الشبع اغلب الملابس متصدق بها من أبناء علية القوم حيث تشتغل الأم خادمة للمنازل، الأب عاطل عن العمل على مدار السنوات، مهنة النجارة لم تعد مربحة، الأدوات المصنعة أرخص بكثير من الأدوات اليدوية وأطول عمرا، صدمت العائلة في أول الأمر حين عرفت انك منحرف جنسيا، بكت الأم بحرقة وهددت،أشبعتك ضربا مبرحا لعل الفرج يأتي من العصا، فالعصا في الوعي الجماعي مقدودة من الجنة، لكنها لم تكن بردا وسلاما على المصاب بلوثة في الدماء، استجابة لنصيحة امرأة طاعنة في الفهم الخبيث حكت لك الفلفل الحار على الثقب، ظللت تنط مثل القرد من شدة اللسع لكن ذلك لم يكن دواءا شافيا بل محرضا على الفعل، حين بدأت تحضر من الولائم وحفلات التأبين والأعراس والختان المأكولات الشهية في الأكياس وبعض الدراهم لم يعد سؤال الانحراف حاضرا، الأموال تقلب المفاهيم وتجعل من المحرم مباحا.

العمر يتدحرج إلى منعطف قذر من الترهل والاستسلام، سنوات تتفتت بين الضجيج والصمت المطبق والهلوسات الفارغة، بين طموح فضفاض في أن تصبح شخصا مهما في المدينة و الوطن، منظرا سياسيا يخطب في التافهين وتعلق لك النياشين ويهتفون باسمك، فالتفاهة في الزمن الرديء تصل إلى درجة التقديس و اصبح التافهون أسياد الوطن بامتياز يتواجدون في جميع المجالات ويحضون باحترام، ما عليك سوى أن تركب حصان الميوعة وتركض إلى شبكات التواصل والى جرذان الإعلام ليرفعوك عاليا في سماء النجومية وسوف تلقى الترحيب من جهات متعددة، التفاهة في الوطن الكسيح محتضنة من التافهين الذين يشكلون القاعدة العريضة.

المشبوح يحلم بان يكون قائدا عظيما لقطيع النعاج، شخص يمتلك الأطيان والسيارات الفاخرة و سرب من الخدم والحشم،فالقلب مند الصبا يتسكع مع علية القوم، يحاول الانفلات من الطبقة المسحوقة والارتقاء إلى طبقة اجتماعية مرفهة، الجمجمة حبلى بالرغبات الجامحة و اللذيذة لكنك كثيرا ما تعثرت في الظلمة الحالكة والقاسية، لم تيأس انتظرت بحماسة على مدى خمسة عقود عاطفية، فرصة واحدة لتقفز إلى الضفة الأخري،سلكت جميع الدروب ومارست مهنا وضيعة سرا علنا، حين انتقلت إلى العاصمة هربا من الفضائح اللذيذة، اكتريت غرفة في حي فقير، تغدو وتروح تمزق الدروب مشتعلا بالنزيف السرجي، ليل نهار تمطرق الدماغ كمشات الأمنيات العراض.

بعيون تذرف حسدا منفلتا من أحداق الحرمان، تعانق في نكوص وحي الهزيمة المتخثرة في الدم وتصيخ السمع لأهازيج تروي كمشة المتاهات، الحلم الشقي قذفته مستسلما في سراديب الكبائر، تقف في منتصف الوجع حائرا تضغط عليك الكآبة وقلة الحيلة، ترمق الشارع الطويل الممتد على حد البصر الذي خانك واستعنت بنظارات طبية، المقاهي غاصة بالجوعى سكان المدينة والعابرين، سحنات كالحة ووجوه شاحبة، رؤوس منحنية تدفع اللقم في الفم المدسم،تغرز الأصابع في شرائح اللحم، يندلق المرق على الذقون وتتيدم الأيدي، ثمة سيدة تدفع الأصابع في الفم وتلعقها الواحد تلو الأخر، دجاج ينشوي في المشاوي يدور في الأسياخ دورات خفيفة، النادل لا يكف عن اعتراض سبيل المارة، يدعوهم للدخول معلقا ابتسامة بلهاء، يصفق بيديه لأثارة الانتباه،كلاب وقطط تنتظر سخاء الزبناء، هوى طفل متشرد بالعصا على الجرو الأسود النائم في وداعة واستسلام، ارتفع النباح التوت الأعناق،سحب متناثرة بالدخان والبخار تخدش الهواء، لحم العجل معلق في قطع حديدية، شاب يضع حاسوبا أمامه ينقر بفخر على الحروف الطيعة، حين امتلأت المائدة اغلق دفة الحاسوب، دفعه في حقيبة سوداء واسنده برفق على الحائط، حين يحضر الطعام يقل الكلام وتبدأ مقاومة خفية لملا البطون، قاوم والتزم الصمت، لا احد يحتاج إلى محادثات طويلة وعبارات لبقة وقفاشات تنتزع الضحكات وتلهي عن المضغ، شابة تقضم تفاحة نزعت عنها برفق قشرة بدت ملولبة، حين تشبع الكرش تقول للرأس غني مثل شعبي يستقيم مع اجتهادات الفتاة.

تلطمك صور الأمس البعيد، لم يكن الشارع الذي ارتدى عباءة الوجوم يعج بالحركة، عشرات الوجوه ارتبط اسمها بالمقاهي ومحلات الوجبات السريعة غيبها الموت، بدأت في استحضار الأسماء والسحنات في المخيلة المتبعة، في الجانب المقابل نبتت مقاهي أخرى، الفندق الرخيص يرتاده السكارى والباحثون عن أفخاذ دافئة، صاحب الفندق يشجع المومسات على اقتناص الضحايا، يدفع بسخاء للدوريات الأمنية تجنبا للمداهمات المباغتة، الجنس محرك قوي للاقتصاد، كل جهة تأخذ نصيبها بشكل مباشر أو غير مباشر، تغوص اكثر في الماضي البعيد، ها انت تنتفض من وسط الضباب شابا املط يضج بالحياة تركض في الحوباء خيول المستحيل، الشباب يصب في الخلايا نشوة الانطلاق، ينطلق القطار وتغرق في الأيام الباهتة، تشق طريقا وسط الكراسي المنشورة على طول الرصيف، تحفظ الدروب والأزقة عن ظهر قلب، شاب في ربيعه الخامس عشر، أشبه بالكاعب في المشية والنظرات والحركات، حناجر تنثر الكلام الشبق تتحلب الأفواه وتستغيث من جسد ظمآن، تجردك النظرات الثاقبة من الثياب الخفيفة، لاشيء يغطي السافلة سوى خرقة بالية مرقعة، طارت ورقة التوت في الهواء، العطشان يستعد لزرع البيدر بالإجاص والقرع الأخضر (السلاوي) كما يعرف عند العامة، يحمل منجلا ليحصد الغلة بعيدا عن الأعين الفضولية.

تترجل من السيارة الفارهة وتمشى بخطو وئيد، تجتاز الرصيف تئن وتتكوع وتطلق الريح من بين الفجين، خطوات تعلن الهزيمة وتبصق المرارة، من لم تهزمه دروب الحياة الشقية يهزمه الزمن الأجرب،تتنفس بعياء روافد الصور القديمة وتحس بثقل كبير، ترمق بشغف طلبة يتأبطون كتبا مدرسية ينطلقون بخفة يعبرون الشارع المزدحم بالراجلين والمركبات، وجوه باسمة متوردة تتجاذب أطراف الحديث بصوت مسموع،عبر الأوردة ركضت الخيول الجامحة،صهلت وارتج الكون واندفنت كل المباهج وتهت في مدارات التبرج، تأوهت وتمنيت في قرارة النفس اللجوجة عودة الشباب، اجتاحتك بدون سابق إنذار عاصفة وحشة المطارف والحشايا، تحن إلى الألم وإيلاج يمحي مساحة العويل، ترتعش في لحظة تلقي البارود البشري، سحب الأحزان ترقص على المحيا المبلط بالأصباغ، لم تكن مهووسا بالعطور والأمشاط وتمليس الشعر بالدهون، همك الوحيد كسرة خبز تسكت عصافير البطن، التجاعيد تزحف على الوجه والجسد ترهب النفس الهرمة مثل الكوابيس تمطرق الجمجمة، تتعثر في النظرات الشزراء والحانقة، النظرات تزيد من معدلات الضغط الدموي والسكر في الدم، تتشبث بأذيال أوهام بعيدة معلقة على مشاجب المخيلة المثقوبة، تزاحم النساء في اقتناء أدوات الزينة لم تعد تكتفي بالكحل والحناء والسواك، أصبحت تقتني أدوات تجميل من الماركات العالمية، الوجه يعربد فيه التبرج المتنافر، صباغة الشعر لأخفاء الشيب الذي اكتسح فروة الرأس بقوة، دهان ليظهر لمعانا يشد الأنظار والغبار على حد سواء في مدينة أشبه بالمزبلة، غيرت طقم الأسنان باخر اكثر بياضا،تخاف الإصابة بالخيبات والنكسات، تريد استعادة شباب فر من اليد في لحظات سهو،لتقف شامخا هربا من الوجع الذي يكبس على الحوباء، لتصطاد عصافير تحرك الأحاسيس الموغلة في الظمأ.

عند الكبر اختلف في أمرك الناهشون للأعراض وهواة الأقاويل إن كنت ما تزال نشطا في مملكة سدوم، ثمة أسئلة معلقة ومحيرة تحتاج إلى الأجوبة،في عالم متأسلم يضيق بالغلمان، وفي فضاء مهشم حواشي الحرية، تنتعل سرا وعلنا شبشب الطابوهات لترقيع النفس المشروخة والمصابة بالتصدع.

في الأزقة والأحياء تستلقي متوجا بالأماني على قارعة الانتظار، تقايض علامات الإعجاب بالدراهم، تستلذ حين يدس السيف بين السطور،ففي الجوف مواسم من التصحر تجفف في ازدراء منابع الحبور، لا فرق بين المومس في الماخور وبين المشبوح وجهان لفعل مذموم واحد،المشبوح والعاهرة، كلاهما يبحث عن النصف الأخر على أرصفة التطلعات،متعطشان لصولة ما تحت الصرة، كلاهما ملعون في الكتب المقدسة إلى يوم الدين.

لا احد يعرف من أين جاء لقب المشبوح الذي لازمه لسنوات ثقيلة، كل ما يتداوله المقربون جدا انه اسم من العامية يعني الذي ينام على البطن عاريا في حضرة المحرم، تثرثر بحماس منقطع النظير، تدخل في جميع المواضيع دون فهم ودراية ولا تخرج إلا حاملا للضغائن والحقد والسخرية،تحفظ بعض الأيات القرانية وتمضمض أحاديتا ملغمة، تزاحم الفقهاء والأئمة في الجنازات والمقابر، تحضر المأتم وحفلات الزواج والختان،تعشق الأكل المجاني، شعار الفقهاء ومقرئي المقابر (الزردة في بغداد... قريبة يا سيدي) لا يهم المسافة بقدر ما يهم العائدات المالية والأطعمة المجانية، تضمخ الأجساد برائحة البخور والعطور الزكية،لأنك الأصغر في جوقة المقرئين تتلقى نصيبا اقل من العطايا والدراهم، تمشي فرحا مزهوا، حين ودعت مقاعد الدراسة اشتريت نسخة من الكتاب المقدس ورحت تحفظ بعض الآيات،تريد أن تصبح مقرئا متفوقا يشار إليه بالبنان في جوقة المقرئين الذين يشكلون مجموعات، كل مجموعة تحفظ مناطقها ويصعب التواجد فيها بدون تفاهم مسبق.

شري نسخة من القران وحفظ شي آيات-

غادي نعجبك اسي السالبة-

السالبة أستاذ في التسول بالقرآن والأحاديث النبوية، احتضنك ضدا على نفور جماعة المقرئين وسخطهم وتذمرهم من الوافد الجديد، تذمر لم يستطع إيقاظ ثآليل الردة وجمرات التمرد، ولم تنجح اللعنات و الابتهالات من إبعاد الغلام عن قلب نابض بالهيام ولا الصحو من نوبات التشوه، يشعر السالبة بالضيق من كثرة التقريع في مجالس متموجة بالانفعالات، يرفع اكف الرجاء ممزوجة بزفرات التوسل، تطارده كمشة الأقاويل مضمخة بالغمر واللمز لكنه لا يبالي من عواء الشارع، لا جدوى من تسميم أحلام من زلت أفدامهم للمعاصي.
يأخذك السالبة حيث يحط الرحال، الغارق في الخطيئة لا يخاف من الرجم الفردي، يتأبطك مثل كنز ثمين يخاف عليه من شر الحاسدين والطامعين، حين يختلي بك و تغوص الشمس بين تلابيب الغروب تبدأ حفلة لحياكة ابتسامات تسافر في الخلايا من ظمأ النزوة المحمرة الوجنتين لعنف تيارات الخلخلة، يرتوي السالبة من المحرم، وتبادل مع النفس الأمارة بالسوء أنخاب ولادة السقوط من رحم الممنوع، رددت جوقة المبتهلين إلى الله شهقة الموت في دفاتر الزنادقة، الله شديد العقاب، الله غفور رحيم.

نزع عنك الألبسة العصرية البالية المكوية بعانية فائقة، اقتنى لك جلبابا ابيضا،نعلا اصفرا، طربوشا احمرا تتدلى منه أهداب تتأرجح عند كل حركة، الفرحة تطفو على المحيا كانك تمسك قرون الشمس، الراعي الرسمي للوافد الجديد لجوقة المقرئين ينثر حكاية عشق ممنوع مغموسة بمساحيق اللوعة، السالبة مفتون بالغلام الأبيض الناعم، يهزمه دفق الدم المتورد في الخدود من شدة التأوهات،كلما غاب عن ناظريه يشعر بالجوع والعطش والتيهان، لم يعد يطيق العودة إلى أم الأولاد كأنما ظل الطريق، كان قوة خفية سلبت منه الإرادة والتمييز بين الحلال والحرام، في الحي لا حديث سوى عن العلاقة الشاذة بين فقيه يحفظ الكتاب المقدس طاعن في السن وغلام في العقد الثاني، المواعيد الساخنة في اغلب الجلسات في المقاهي والشارع والحارات تجترها الألسن بين الذهول والغموض والاستنكار، السالبة يطوقه الغرام المحرم حتى النخاع، لازمك طيلة عشرة سنوات، أصبحتما زوجين ذاع صيتهما وعرف الجميع أنكما تتحدران من مملكة سدوم،القفل والمفتاح تحت وميض الهجاء والاستهجان.

لعنة الله عليكما -
امين-

حين تحاصرك اللعنات والشتائم تحمر خجلا، يتحشرج الصوت، تهرع إلى المسجد وتقف في الصفوف الأمامية،متخشعا، مبتهلا، وقفات متفاوتة العجرفة، تستبيح بالعيون الثاقبة القوام المشتهى من تحت الثياب،لا شيئ يغطيك غير أعواد الريش، تأوهات وقشعريرة، يتنمل الجلد، يتحلب الفم، تحلم بإزميل يبقر الجرح المتقيح،تبرم ثقيل يعمق الألم، زفرت زفرات متتالية ومسدت الشعر المدهون بالدهان اللماع، تسير في الشارع المزدحم الوجه المعفر بالأصباغ تلمعه مصابيح السيارات العابرة،وجوه خسيفة تمر بالقرب منك،يمر متسكع يبحلق فيك يعريك وما لبث أن لعلعت كلمة (المشبوح) في الهواء، تعالت الضحكات، انطلق رذاذ الشتائم والفضح، تجلس في المقهى تطلب لحما مفروما وطاجينا بلحم البقر، بطاطس مقلية وسلاطة، رغم تنبيهات الطبيب بتجنب الدهون يضع النادل الأطباق بعد أن مسح المائدة بعناية،بالأمس اشتبكت مع نادل لأنه ناداك باللقب القديم عن غير قصد ففاضت الأوجاع دفعة واحدة، امطر غضبا و كلاما نابيا، دفع الأطباق بالكف، تهشمت على الأرض،تكرر الأمر مرات عدة في أماكن متفرقة من المدينة.

سلام سي بولعقوق اش حب الخاطر-
اسمي حمادي-

كثير من الناس يعتقدون أن (بولعقوق) اسمك الحقيقي مسجل في شهادة الميلاد قرعت عليه طبول الفرح، لقب لازمك مند فترة الصبا، ظل ملتصقا بك مثل ظل، شكل شخصية متنطعة فارغة هوائية، وما لبث أن اختفى ليحل محله لقب (المشبوح) لقب انتشر بين الناس كالنار في الهشيم، بين لحظة وأخرى تنتابك الشكوك والظنون حين يختفي السالبة عن ناظريك ولا تعثر له على اثر،تخاف أن يستبدلك بسلعة جديدة، الغياب يشعرك بالوحدة القاتلة.

خمسون عاما لا تثقن من حرفة سوى ثني الركبة وإنزال التبان وتأجير السافلة، أربعون عاما تستجدي علية القوم لتجد مكانا تحت الشمس

ولدت في الفقر والخراب والدمار والعفونة، عانيت من ندرة القوت اليومي، زمن ثقيل يكبس على العائلة المتحدرة من سلالة القحط، احتك بك الشباب وقدوا الكرامة من دبر ومرغوا الشرف في الحضيض، مرحاض متنقل لتجريب الفحولة، تمشي مشية الفتيات وتجالسهن في العتبات ليل نهار، تلعب لعبهن، تشع بياضا وطراوة، العجيزة البارزة تثير انتباه واشتهاء المنحرفين في أحياء وأزقة موبوءة بالظنون والصعلكة، ترتدي سراويل قصيرة ضيقة تقمط جسدا مضطرب الإيماءات والإيحاءات الجنسية، مخالب الدهر نهشت حلم الطفولة، أدمنت الفعل واستقبال الماء الأجاج، تقايض الثقب بالدراهم والأكلات الدسمة، تستجيب بسرعة للكلمات المنثورة من أشداق الباحثين عن سفر على جناح العربدة، الجمجمة لا تكف علن تقليب الماضي و استحضار الليالي الندية، ترقص أمام المخلية وجوه هاربة من الشقاء تقطعت بها الأزمنة، توقفت السيارة الفارهة أمام الباب الخشبي للبيت القديم حيث بدأت الرحلة الطويلة في الانحراف، بصعوبة تغادر المقعد يصفق الباب الحديدي بهموم مزدهرة،لم ينفتح الباب كما العادة، لتستقبلك الأب أو الأم ويحملا عنك الحقيبة المدرسية الثقيلة، كلاهما اصبحا مقعدين، جالت عيناك في الزقاق الذي يغرق في الصمت المطبق، تختلط الأمور وتتسارع دقات القلب ووقفت العبارات في ممرات الحنجرة، أحسست بدفئ العبرات على الخدين، وودت لو عاد الزمن إلى الوراء، صاح زنديق الحي مترنحا من شدة السكر الطافح حين شاهدك تهم بالخروج أشار بسبابته المتسخة.

المشبوح... المشبوح واش مزال حي... حياتك عذاب -

دبت في الجسم رعشة حادة وودت لو أطلقت عليه أعيرة نارية وأرديته قتيلا، لو قبضت على عنقه وضغطت إلى أن يفارق الحياة، أدرت المفتاح في القفل بنرفزة واضحة، أغلفت الباب بقوة وارتجت الجدران المتآكلة التي تحتاج إلى الدهان والإصلاح وكنس أعشاش العنكبوت من الزوايا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى