الأحد ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦
بقلم محمود البدوي

الغزال فى المصيدة

نزلت “سنية“ من الترام تحمل صغيرها على صدرها.. وكانت شمس يوليو حامية والحر يلفح الوجوه.. وصعدت فى الشارع الطويل المؤدى إلى المستشفى وهى تحس بالتعب الشديد وبوخز الإبر فى عظامها ولحمها.. فقد أرهقها مرض ابنها ومزق أعصابها.. عالجته بكل الوصفات المعروفة دون نتيجة.. وأخيرا ذهبت به إلى “المستوصف“ القريب من بيتها فأخبرها الطبيب بأنه مريض بالحمى ويجب نقله إلى المستشفى فورا، وإلا ضاع بين يديها.. سمعـت هذا وطار قلبها شعاعا.. وحملته إلى المستشفى وهى تحبس عبراتها..

ولأنه وحيـد وقطعة من كبدها وجاءت به بعد موت اثنين من ابنائها.. فقد تجمعت كالقوقعة واحتضنته وحرصت على أن يبقى لها.. ولا يموت كما مات من قبله.. وأن تزود عنه عاديات الأيام.. وكل الاعاصير التى تهب فجأة فى وجه الفقير.. وأن تكافح لتمرضه بكل ذات نفسها وكل ذرة فى جسمها..

وكانت الشمس تتوسط كبد السماء، ولم تجد “سنية“ مكانا للظل فى الشارع، وكان هناك صف من العربات التى تجرها الخيل واقفة فى بداية الشارع، تنتظر النازلين من الترام، لتهون عليهم مشقة الطريق إلى المستشفى، أو إلى أى مكان آخــر فى هـذا الجـــو الشـديد الحـرارة، ولكن “سنية“ لم تكن ممن يركبن العربات، فسارت وحدها فى الطريق الصاعد، ولمحت عن بعد نسوة يتقدمنها فى ملاءات سوداء.. نساء يلبسن نفس زيها.. وفى مثل فقرها وبأيديهن الصرر، ووراءهن أطفال يتدحرجون فى الشارع الساكن..

وعندما مالت فى الطريق الرملى إلى اليسار، سألت عن المستشفى بعد أن اختفى أثر النسوة.. فقد خشيت أن تتوه بعد أن تكشفت أمامها رمال الصحراء.. وتعددت البنايات الكبيرة..

وعرفت المستشفى من عربات الطعام والفاكهة الواقفة بجانب السور والتى يحط عليها الذباب بكثرة.. ورأت سيارة من سيارات نقل الموتى قريبة من الباب الواسع.. ونساء فى سواد يولولون.. فانقبض قلبها لمنظر السيارة وحال النسوة..

وكان الباب مفتوحا على مصراعيه لأنه يوم زيارة عامة.. فدخلت “سنية“ مع الداخلين..

ودلوها على غرفة الاستقبال.. وكشف الطبيب على الصبى.. وحملوه عنها إلى عنبر فيه غيره من الأطفال المرضى.. وكانوا فى حالة تعيسة.. وجوه شاحبة وعيون تبدو واسعة بعد أن هزل اللحم وبرزت العظام.. وقذارة فى الفراش وفى الأرض.. وأصاب “سنية“ الذعر ولكن ماذا تفعل.. أرقدوا ابنها على حشية عليها مــلاءة قذرة تغير لونها من فرط ما سكب عليها وكان الذباب يتكاثر فى العنبر والجو خانقــا..

وبقيت “سنية“ جالسة على الأسفلت بجانب ابنها ملتصقة بالسرير ودافنة رأسها فى الملاءة القذرة التى تغطى الحشية.. كان الصبى جامد النظرات، ساكن الجوارح.. ولكن على وجهه الرضا لأنه يحس بوجود أمه عن قرب..

ووقفت ممرضة على رأس “سنية“ وقالت لها:

ـ تعال يا ست..

ـ إلى أين..؟

ـ ستأخذين حقنة..

ومشت وراء الممرضة فى الطرقات الطويلة.. وفى بناية فى حديقة المستشفى حقنها طبيب بحقنة ضد التيفود.. وخرجت من البناية لتعود إلى ابنها.. ورأت بابا مفتوحا فى غرفة قليلة الضوء.. غرفة ساكنة باردة فى هذا الحر.. فدخلت من الباب تنظر.. رأت جسم صبى ملقى فى حوض كأحواض السمك وعليه قطع الثلج.. وتقدمت لتنظر وقد أقشعر بدنها.. وأدركت أن الصبى ميت وهذه هى الثلاجة.. وحاولت أن تصرخ ولكن خانها صوتها.. وخرجت مهرولة إلى عنبر ابنها.. وهناك احتضنته.. ودفنت رأسها فى صدره..

واستغرقت “سنية“ فى وضعها ونسيت نفسها ثم استفاقت على صوت التمرجى يقول لها بغلظة:

ـ ميعاد الزيارة انتهى.. اتفضلى.. روحى..

وسألته:

ـ أروح.. واترك الولد..؟

ـ نعم.. هذا مستشفى.. وليس بيتا..

وأحست بحرقة، أحست بمن يخنقها، تتركه لهم ليضعوه فى حوض وعليه الثلج كالذبيحة.. أبدا.. أبدا ولو قطعوها إلى قطعتين.. تتركه هكذا وهو بين الموت والحياة.. أبدا..

أخرجوها من العنبر بالقوة.. ومن باب المستشفى.. ولكنها ظلت لاصقة بالسور..

وعندما خيم الظلام على الصحراء وشمل السكون المنطقة.. اقتربت من الباب ودفعت خمسة قروش للبواب ودخلت متسللة كاللصة.. كانت تعرف مكانه رغم تعدد العنابر وكثرة الطرقات..

ودخلت العنبر وهرولت إلى سرير ابنها وهى تدير عينيها فى الضوء الباهت بذعر ورجفة.. لم يكن هناك ممرض ولا ممرضة.. وكانت تسمع بكاء الأطفال فى العنبر فيرتجف قلبها.. واحتضنت ابنها وأحست بالحرارة الشديدة فى جسمه.. وكان الصبى يهذى وجسمه الصغير يرتعش وألصقت قلبها بقلبه.. وخيل اليها أنها لا تسمع ضربات القلب الصغير.. وألصقت خذها بخده وأخذت تبكى.. ابنها يموت..

وخرجت من العنبر مهرولة تبحث عن طبيب لينقذ ابنها.. وظهر رجل فى رداء مصفر فى نهاية الطرقة.. فلما رآها أسرع نحوها وأمسك بها وقال بخشونة:

ـ كيف دخلت المستشفى فى مثل هذه الساعة..؟

ـ ابنى يموت..

ـ وما الذى جاء بك فى الليل.. وكيف دخلت..؟

ـ من الباب.. ابنى يموت..

ـ من الباب.. مستحيل.. تعالى.. نسأل البواب.. وليلته سوداء إن كان قد أدخلك..

وأمسك بها من يدها بعنف وجرها إلى البواب.. وأنكر هذا أنه رأى حتى ظلها..

وقال التمرجى وهو يحد النظر إلى وجهها:

ـ إذن فقد تسلقت السور لتسرقى.. ولا بد من تسليمك للبوليس..

ـ سرقت..!؟

ـ أجـل.. والعنبر ملآن بأشياء الحـكومة.. والمخزن مفتوح.. وكل ليلة تسرق أغطية وبطاطين وآلات طهى.. ولا نعرف السارق.. وأخيرا وقعت..

وأخذت تتوسل..

ورأى لأول مرة جمالها الباهر وصباها.. وعينيها والثوب الأسـود والمنديل الأزرق يغطى الرأس ويزيد وجهها نضارة وتألقا..

وبكت..

ـ اعمل معروف.. أنا مسكينة والولد بيموت.. أليس عندك أولاد..

ـ عندى ولكنى لا أتسلق السور فى الليل..

ـ البواب.. كذاب.. حلفه.. لقد دخلت من الباب..

ـ طيب.. تعـالى.. وفى الصباح سنسلمك للمعاون وهو يتصرف..

وسحبها إلى غرفة فى حديقة المستشفى..

ـ نامى هنا إلى الصباح..

وأغلق عليها الباب..

ظلـت متيقظة فى الظلام تنظر إلى السقف.. وهى ترتعش من الخـوف.. كانت قـد فوجئت بهـذا الاتهام الذى شل حركتها وإرادتها تماما.. ورقدت خائفة.. وبعد ساعة أحست به يدخل عليها ويرقد بجوارها..

وقاومت بكل شبابها وأنشبت أظافرها فى لحمه.. ولكنه لم يتراجع واغتصبها وهو يسيل عرقا من فرط مقاومتها العنيفة..

وفى الصباح لم يسلمها للمعاون وتركها تذهب إلى العنبر الذى فيه ولدها..

ومضت أيام وهى فى داخل المستشفى بجانب ابنها..

وجعلوها تغسـل بلاط العنـبر وطـرقات المستشـفى وتحـمل التراب والنفايات.. جعلوها تفعل كل هذه الأشياء لكى تبقى بجانب ابنها.. ومادام ليس معها نقود.. فقد كانت تدفع عرقها..

كان كل همها أن يعيش الصبى.. ومادامت بجانبه ترعاه سيعيش..

وظلت عشرين يوما فى المستشفى..

وكانت تذهب إلى البيت خطفا ثم تعود جريا إلى المستشفى.. ونسيت زوجها الفران.. كان عمله كله فى الليل، فإذا جاء فى الصباح عرف أنها فى المستشفى ونام.. كان يحب الولد وكان مطمئنا عليه مادامت أمه بجانبه..

ظلت تكنس وتمسح البلاط وترضخ لكل ما تطلبه منها الممرضات وهى فى كل يوم خائفة أن يقدمها ذلك الرجل للبوليس كسارقة.. ومن السهل على مثله أن يلفق لها تهمة كبيرة.. كانت تخاف منه وكان هو يخاف منها أن تحدث الناس بفعلته.. تحكى القصة لطبيبة أو لممرضة وهذه تأخذها إلى مدير المستشفى ثم يصل الأمر إلى النيابة فى الحال، كان يخاف منها أكثر مما تخاف منه.. وفى كل يوم كان يحب أن تبقى فى المستشفى وأن يراها بعينيه لأنها لو خرجت ستتحدث.. ولو تحدثت بما جرى لها سيحرضها الناس على إبلاغ البوليس..

كان وجودها تحت سمعه وبصره يطمئنه.. كما أنها كانت تطمئن عنــدمـا تراه فى طـرقات المستشـفى ســاكنا جامــدا.. فتــدرك أنه نسى أمرها..

وفى ظل هذا الخوف الرهيب المتبادل قضيا معا عشرين يوما يطوقهما سور المستشفى الكبير وهما فى عداء باطنى خفى قاتل..

كان يكرهها وكانت تكرهه..

كانت تكرهه لأنه سبب لها كل هذا الرعب.. وكان يكرهها لأنها قد تكون السبب فى فصله من عمله وتشريده فى الطرقات..

فى الظهر.. مـر الطبيب وكشف على الطفل.. وسمح له بالخروج..

وخرجت به “سنية“ من باب المستشفى فى مثل الساعة التى دخلت فيها منذ ثلاثة أسابيع.. وكانت الشمس حامية والحرارة أشد ضراوة.. ومشت فى نفس الطريق الذى جاءت منه من قبل..

كانت فى هـذه المـرة تنزل ولم تكن تصعد، وكان المشى أكثر سهولة.. ولكنها كانت تشعر بالانقباض.. كان الصبى قد شفى تماما واسترد كامل صحته.. ولكن عافيته لم تشعرها قط بالفرحة.. كان هذا الصبى هو السبب فيما حل بها من بلاء، لو كان معها نقود لمرضته فى البيت ونجت من هذا الوغد.. مرضته فى البيت بعيدا عن العيون.. ودون أن تخبر أحدا بنوع مرضه.. ولكنه مرض بحمى معدية.. ولا بد أن يشيع الخبر ويتسرب من أى شخص.. وكتمانه من المستحيل.. وسينقلونه إلى المستشفى رغم أنفها..

إن ما حدث كان مقدرا لها والمحنة التى مرت بها لن تغفر لها خطيئتها قط.. كان يجب أن تستقتل ولو مزقها إربا وقطع أنفاسها..

وقبل أن تخرج من الشارع الرئيسى مرت بجانبها سيارة صغيرة وأطل رأس رجل فى قميص مفتوح وأوقف السيارة وقال برقة:

ـ تعالى أوصلك.. يا سنية..

وجفلت.. كيف عرف اسمها.. ثم تذكرت هذا الوجه.. أنها رأته فى المستشفى.. وكان دائما بشوشا طلق المحيا كما هو الآن.. فى أى عنبر رأته وفى أى مكان..؟ لم تكن تدرى..

وردت “سنية“ بضعف:

ـ كتر خيرك.. قربنا من الترام..

ـ اركبى من أجل الصغير.. الشمس حامية..

ونظر إليها مرة أخرى نظرة كلها حنان..

فقالت لنفسها:

ـ وماذا يضير.. وما الذى بقى لى بعد الذى جرى..؟

وركبت فى المقعد الخلفى صامتة والغلام فى حجرها..

وقال الطبيب وهو يسير بالسيارة متمهلا:

ـ ابنك.. استرد عافيته..

فهمست:

ـ ليته.. مات..

ولم يسمعها..

وقال وهو ينظر إلى الطريق دون أن يدير رأسه إلى الخلف:

ـ لقد حقنتك حقنة التيفود.. بعد أن وضعنا الصبى فى العنبر.. وكنت لا تريدين أن تشمرى عن ذراعك.. أتذكرين ما حدث..؟

وضحك.. وابتسمت..

ـ أنا جاهلة.. يا بيه.. وهذه أول حقنة فى حياتى وكيف أشمر عن ذراعى أمام رجل..؟

وتذكرت كل شىء لقد حقنها حقا.. وكان رقيقا مهذبا وإنسانا ولكنها كانت فى دوامة، ومر هذا سريعا.. مرت هذه اللمحة الإنسانية سريعا وبقى الأثر المدمر.. الذى محا كل عاطفة أخرى تأتى من إنسان..

لقد جرجروها ومزقوها بغلظتهم لأنها فقيرة.. واستغل الرجل النذل جمالها ليلطخه بالوحل.. النذل أرهبها ليوقعها فى الشرك.. نصب لها المصيدة الجبان.. النذل..

وسمعت الطبيب الشاب يسألها:

ـ ساكنة فى أى جهة..؟

وخجلت أن تقول فى الدراسة قريبا من المقابر..

وقالت:

ـ قريبا من الحسين..

ونظر إلى عينيها وكان يود أن يقول لها:

ـ أنت جميلة يا “سنية“ ولم أر مثل جمالك قط فى أنثى.. وأنا سعيد بركوبك معى.. سعيد سعادة ليس لها من حدود..

وقالت بعد أن اقتربت العربة من شريط الترام:

ـ سأنزل..

ـ لا.. سأوصلك إلى بيتك..

وصمتت وكانت الدموع فى عينيها وهى تحدق فيه..

وهمست:

ـ أخيرا.. يجىء إنسان..

وسألته وهى نازلة.. تضع طرف طرحتها على جسم الصبى..

ـ ألا تريد شيئا.. يا دكتور..؟

ـ أبدا.. شكرا..

ـ أنظف لك البيت.. وأغسل ملابسك..

ـ شكرا.. تسلم يدك..

وظلت واقفة فى مكانها شاردة حتى بعد أن تحركت العربة واختفت عن نظرها..

نشرت القصة بمجلة الثقافة فى العدد 46 ـ يوليو 1977 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى.. و“قصص من القاهرة“ ـ مكتبة مصر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى