

العائد من الرماد
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
كانت الأزقة الضيقة تتلوى بين البيوت العتيقة كالأوردة في جسد المدينة العجوز. هنا، في قلب المخيم، حيث تعتصر الجدران أنفاس سكانها، وحيث يختلط صوت الأذان بصراخ طفل جائع، وحيث لا ينفك الاحتلال يطرق أبواب الأحلام الموصدة، وُلد سليم.
منذ طفولته، كان سليم ينام على قصص النضال التي تحكيها جدته عن رجال تصدُّوا للدبابات بالحجارة، وعن نساء كن يخبئن الرسائل في علب الخبز، وعن أطفال كبروا قبل أوانهم، فأصبحوا رجالاً قبل أن تنبت لحاهم. كان الحيّ بأكمله ذاكرة حيّة تسير على قدمين، وكان الدم يسيل على الأرصفة، لكنه لا يُمحى من ذكراهم.
ان طفولة سليم هي أقرب إلى ساحة معركة منها إلى سنوات براءة. لم يكن يعرف ألعابًا مثل بقية الأطفال، كان مسرحه الوحيد هو الأزقة التي تئن تحت وطأة الجنود، وكان صوته يضيع بين أصداء الرصاص. يستيقظ على دويّ الانفجارات، ويركض نحو النافذة ليرى سماءً ملوّنة بالنيران، وأرضًا ترتجف تحت وقع الدبابات. كان يرى أصدقاءه يُعتقلون، بعضهم يعود بعد شهور بعين واحدة، أو بجسد أنحل مما كان، وبعضهم لا يعود أبدًا، وتظل صورهم تُطبع على الجدران كأنهم لم يرحلوا.
لم تكن أيامه سوى دروس قاسية في معنى الاحتلال. رأى كيف يُهدم البيت الذي ولد فيه أمام عينيه، رأى والدته تبكي في صمت وهي تجمع ما تبقى من صور العائلة بين الأنقاض، رأى أباه يصرخ في وجه الجنود دون أن يهتم بفوهات البنادق المصوّبة نحوه، ورأى كيف يُسحب الرجال من منازلهم في الليل، وكيف تُستباح حرمة الأزقة بأسلحة الاحتلال.
في أحد الأيام حين كان في الثامنة، عاد من المدرسة ليجد الشارع الذي يعرفه قد تغيّر، لم يكن هناك سوى الحطام، وشجرة التوت التي كان يختبئ تحتها لم تعد سوى جذعٍ محترق. سأل أمه بخوف:
– أين ذهب بيت خالي؟
نظرت إليه بعينين جافتين من الدموع وقالت:
لقد صار في الريح الأن يا ولدي.
لم يكن سليم طفلًا عاديًا، لم يسأم من الحكايات التي كانت تحكيها جدته عن المقاومة، بل كان يحفظها عن ظهر قلب كأنها نشيد وطني يُولد مع كل فجر. سمع عن الشهداء، وعن أولئك الذين لا يعودون إلا ملفوفين بالأعلام، وكان يدرك أن المخيم ليس مجرد جدران متصدعة، بل حصنٌ من صمود لا يُكسر.
حين أتم عامه السادس عشر، كان سليم قد رأى ما يكفي ليملأ ألف كتاب، لكنه ليس مجرد شاهد. كان مقاتلاً بروح لم تعرف الخضوع. انضم إلى مجموعة سرية من الفتية، يتناقلون الأخبار، ويهربون الطعام إلى الأسر المحاصرة، وينقشون على الجدران شعارات تحيي المقاومة وتلعن الاحتلال.
اجتمعوا في غرفة ضيقة ذات مساء تحت ضوء مصباح خافت، يخططون لعملية جديدة. قال سليم بحماس:
– علينا أن نرسل رسالة قوية، يجب أن نثبت لهم أننا هنا ولن نرحل.
نظر إليه صديقه عمر بعينين يملؤهما القلق:
– لكنهم يزيدون الحصار، الجنود في كل مكان.
ابتسم سليم ابتسامة تحمل في طياتها إصرار التاريخ كله:
– لهذا بالضبط يجب أن نكمل.
وفي الليلة الموعودة، تحركوا عبر الأزقة، يحملون في جيوبهم زجاجات صغيرة تحوي نار الغضب، وما إن اقتربت القافلة العسكرية، حتى تحول الليل إلى نهار مشحون باللهب. هرع الجنود في كل اتجاه، وامتلأ الشارع بصيحات الفزع. لم يكن الهجوم كبيرًا، لكنه بمثابة رسالة أن النار ما زالت مشتعلة تحت الرماد.
لكن الاحتلال لا ينسى ولا يغفر. في فجر اليوم التالي، اقتحمت القوات المخيم كعاصفة من الحديد والنار. تهاوت البيوت، وخُلعت الأبواب من جذورها، وصوت الرصاص كان كصوت الرعد...
أُسر سليم. كبلوا يديه، عصبوا عينيه، وساقوه إلى زنزانة ضيقة. كانت الجدران رطبة، والهواء مثقلاً برائحة العفن والدم. جلس هناك وحيدًا، لكنه لم يكن بمفرده، فقد حمل في صدره كل الأصوات التي رافقته منذ صغره، دائمًا ما سمع جدته تهمس:
– مَن لا يدافع عن أرضه لا يستحقها.
مرت عليه السنوات في الأسر كأنها دهور. كل يوم في حد ذاته صراع، ليس فقط ضد الجلاد، بل ضد اليأس الذي يتسلل كالسم في العروق. لكنه لم ينكسر. حين خرج بعد عشر سنوات، كان جسده منهكًا، لكن أضحت روحه أقوى من أي وقت مضى.
عاد إلى المخيم ليجد الشوارع قد ضاقت أكثر، والحي الذي وُلد فيه لم يعد كما كان. لكن المقاومة ما زالت حية، والأمل ما زال يتنفس بين الأنقاض. وقف في ساحة البلدة وألقى نظرة على المئذنة التي ظلت صامدة رغم القصف، ثم قال لصديقه الذي انتظره عند بوابة السجن:
– أتعرف ما هو الأمر الأعجب في كل هذا؟
سأله صديقه:
– ماذا؟
ابتسم سليم وقال:
– أنهم يعتقدون أننا نموت بالسجن، ونحن في الحقيقة نُولَد من جديد.
عاد سليم من الرماد، والمخيم لا يزال ينتظر العائدين، لأن الصمود ليس خيارًا يُمنح أو يُؤخذ، بل هو جذرٌ ممتدٌ في الأرض، لا تقتلعه الرياح ولا تحرقه النيران. هو سرّ البقاء حين يحاول الفناء أن يفرض منطقه، وهو الحكاية التي لا تنتهي مهما حاول المحتل أن يُسدل ستار النهاية.
العائدون لا يعودون ليحكوا عن ظلمة السجون، بل ليضيئوا الدرب لمن لم يأتِ بعد. إنهم رسلُ الحكاية التي لم تُطمس، وجذوة الثورة التي لم تخمد، يمشون بين الأنقاض كأنهم يحملون إرث الشمس في راحاتهم، ويزرعون في الأرض اليباب نبوءات الخلاص. في عيونهم يسكن ليلٌ ثقيل، لكنه الليل الذي ينجب الفجر، الفجر الذي لا يُشترى، ولا يُمنح، بل يُنتزع كما تُنتزع السيوف من أغمادها.
فالحرية ليست وعدًا مؤجلًا، ولا حلماً نغفو على أعتابه، بل حقٌ محفورٌ في عظام الذين قاوموا، والذين رحلوا، والذين سيأتون. هي صرخةٌ تسري في الدم، لا تُسكِتها القضبان، ولا تُطفِئها مشانق المحتل. والمخيم، ذاك الحيز الذي أرادوه قبرًا، لم يكن يومًا محطة انتظار، بل كان ساحة ميلاد، حيث يُولد المنفيّون أبطالًا، وحيث المقهورون يرفعون رؤوسهم كأنهم جبال، وحيث الرماد ليس نهايةً، بل بدايةٌ لألف انتفاضة قادمة، كأن الأرض في كل مرة تُهدم، تنبتُ من بين ركامها سيوفٌ جديدة.
فمن اعتادوا أن يُطفئوا النور، لم يدركوا بعد أن بعض القلوب وُلدت لتكون شمسًا لا تغيب.