الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم إيمان أحمد مرسي

الصورة الأخيرة

كان يحمل كاميرته كما لو كانت امتدادًا لروحه، يتنقل بين الأزقة المدمّرة، يوثّق الألم والصمود معًا. لم يكن مجرد مصوّر صحفي، بل كان شاهدًا على الحقيقة، رجلًا يؤمن بأن للصورة قدرة على إيقاظ ضمير العالم.

بدأت رحلته في هذه المدينة منذ أسابيع، حين قرّر أن يأتي رغم كل التحذيرات. لم يكن يستطيع البقاء بعيدًا، فكلما سمع عن مدينة تشتعل، شعر أن واجبه يحتم عليه أن يكون هناك، ليمنح الضحايا صوتًا، ويمنح التاريخ دليلًا.

في ذلك الصباح الرمادي، والسماء ملبّدة بدخان القذائف، تجوّل بين الأبنية المنهارة، يبحث عن قصصٍ يمكنه توثيقها. لم يحتج للبحث طويلًا؛ الألم كان حاضرًا في كل زاوية. رجال يرفعون حجارة الركام بحثًا عن أحبّائهم، نساء يبكين على أطلال منازلهن، وأطفال يحملون في عيونهم خوفًا أكبر من أعمارهم. لكنه لم يكن يبحث عن المعاناة فحسب، بل عن الأمل وسط الخراب، عن لحظة صمود تروي القصة كلّها.

عند زاوية أحد الشوارع، لمح فتاة صغيرة تجلس على حافة الطريق، تحتضن دميتها الممزقة. كانت ترتدي فستانًا قديمًا، متسخًا بالتراب، لكنّه ما زال يحتفظ ببعض ألوانه الزاهية. عيناها كانتا تائهتين، لكن بريق التحدي لم يخفت فيهما. رفع كاميرته، ثبتها جيدًا، ثم التقط الصورة.

لحظة واحدة فقط، لكنها كانت كفيلة بتجميد الزمن. وقبل أن يتمكن من خفض الكاميرا، سمع صفيرًا حادًا، ثم اندلعت نار من السماء. شعر بجسده يُقذف في الهواء، ثم ارتطم بالأرض بقوة. الألم اخترق ضلوعه، وشعر بشيء دافئ يسيل على جبينه. كان الهواء مثقلًا برائحة البارود والتراب المحترق، وكانت أذناه تطنّان بصوت أشبه بصمت قاتل.

بصعوبة، فتح عينيه. الكاميرا ما زالت في يده، تمسك بها أصابعه المرتعشة كما لو كانت حبل نجاته الأخير. حاول الزحف باحثًا عن الفتاة، لكن كلّ ما رآه كان الدمية، غارقة في الغبار والدماء. لم يستطع الحراك أكثر؛ فقد بات جسده عاجزًا عن الطاعة.

مرت الدقائق كأنها أبدية، بين الوعي والغيبوبة. حاول أن يلتقط أنفاسه، أن يستعيد إدراكه. كانت كاميرته تحتوي على عشرات الصور، لكنه كان يعلم أن الصورة التي التقطها قبل لحظات، كانت الأهم. كانت… الصورة الأخيرة.

بيد مرتجفة، ضغط على زر الإرسال في الكاميرا، لتتصل بالأقمار الصناعية التي تبثّ صوره مباشرةً إلى الصحف ووكالات الأنباء. كانت هذه فرصته الأخيرة لإيصال الحقيقة. لم يكن يعلم إن كان سينجو، لكنه كان واثقًا من أن الصورة ستبقى.

في تلك اللحظة، خطرت بباله فكرة أعمق من كلّ ما صوّره من قبل.

"الكاميرا لا تُظهر سوى نصف الحقيقة، بحسب حجم العدسة"، قال في نفسه وهو يوجّه عدسته المرتجفة نحو السماء الرمادية.

"لم تستطع أي عدسة نقل حجم الفظاعة والوحشية التي رأيتها هنا".

ثم ابتسم ابتسامة خافتة، وأضاف:

"لكن نصف الحقيقة… أفضل من غيابها الكامل".

لم يكن يصوّر من أجل الصورة فقط، بل ليضع العالم أمام محكمة ضميره. كان يريد أن يصرخ في وجوه الجميع:

انظروا! لا تداروا أعينكم، فالصورة لم تعد وسيلة إعلام، بل صارت وثيقة إدانة للإنسانية الصامتة.

إنها صورة تدين الصمت العالمي، وتدين العجز والهوان.

أغمض عينيه للحظة، يسترجع مشاهد حياته. تذكّر أول مرة أمسك فيها بالكاميرا، يوم أخذه والده إلى الجبال ليلتقط صورة الغروب. تذكّر رحلاته في مناطق النزاع، والوجوه التي قابلها، والقصص التي رواها للعالم من خلال عدسته. كان يعلم دومًا أن عمله محفوف بالمخاطر، لكنه لم يندم يومًا على اختياره.

أصوات صاخبة بدأت تقترب، أيادٍ تزيح الركام، وصرخات تنادي باسمه. كان رجال الإنقاذ يبحثون عنه. شعر بأحدهم يسحب الكاميرا من يده، ثم يلمس وجهه بلطف، وكأنه يقول له: أنت بخير الآن.

وبعد أيام، ظهرت صورته على الشاشات وفي الصحف العالمية:

الفتاة التي تحدّت الموت، والمصوّر الذي جعل العالم يرى الحقيقة… قبل أن يغمض عينيه إلى الأبد.

تمّت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى