الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم الزهراء محمود أحمد

الصمود

حيث في تمام الساعة الثانية عشره، دخل كل منا فراشه، يحمل الأمل بين كفيه، فبعد أن سُفكت الدماء بيننا وبين العدو، وارتفعت الضحايا وزادت حالات الوفيات، تدخل العديد من الدول، وبعضها دول الإنسانية، التي تنّصب نفسها قاضيّا، لنصر الضعفاء، وعقدت بيننا الهدنة، لنوقف نزيف الجراح، ونلملم الأشلاء التي تناثرت عقب القصف، ونرمم منازلنا التي تعرّت وأصبحت مكشوفة للعامة ومن السهل اختراقها بقذائف الاحتلال.

استلقيت على فراشي، ويبدو أن العدو استكثر الأمان علينا، فخرق هدنته، وبدأ في قصف المنازل من جديد، وتجاهل كل وعوده ، سمع أبي صوت البيوت والعمائر تنهار من حولنا، فأسرع ينادي على أهل البيت، استيقظوا! استيقظوا! وهرولوا إلى الخارج، سوف ينهار المبنى فوقنا أو تصيبنا صواريخ العدو ونتحول إلى أشلاء، هيا يا ابنائي، نادوا جدتكم! لنهرب جميعًا من الموت! فر الجميع من المبنى، إلا أنا وجدتي، دخلت عليها لتتعكز على كتفي، ونخرج سويًا، قبل أن تطولنا قذائف الأعداء، فوجدتها جالسة على فراشها في حالة من السكون، وكأنها لا تدري بما يحدث في الخارج، أو أنّ أُذنيها الثقيلتين قد انقذتها من ضجيج الأصوات في الخارج، فاختلطت صراخات الأطفال بنواح النسوة مع أصوات المتفجرات والانقاض، وكأن زلزال اجتاح المنطقة، وأخذت المباني حولنا تتساقط مع جميع المتعلقات، وتختبئ اسفله الأجساد رغمًا عنها، لتصبح حديث الأخبار، اسرعتُ أُمسك بيدي جدتي النحيلتين، وقلت لها: يا جدتي، هيا نهرب من قنابل العدو التي تتربص المكان من حولنا، فدق جرس الخطر، وبعث الموت الإنذار، والجميع خرج ولم يبق سوانا في المنزل!

قالت جدتي في هدوءٍ تام: يا بني، أين سنذهب؟

ولمعت في عينيها نظرة البائس الذي تحطمت آماله، واسترخت قليلاً، ثم قالت: اعلم أنّ الموت يلاحقنا من جميع الاتجاهات، لكن لا يمكنني الرحيل، دعني أموت على فراشي، فالموت كرامة لنا في أرضنا، أين سنذهب؟ ألاّ ترى أنّ الإنسانية أقفلت أبوابها، وحصنت اسوارها، خشيةً أن تتورط مع العدو أو أن يصيبها بعض ما أصابنا.

بكت عيني من كلامها، على الرغم من محاولاتي لإخفاء الدموع وحجزها عن التساقط والانهمار، قلت لها: هيا بنا يا جدتي لنهرب من براثن الموت، لا أريد أن أموت على يد العدو، أريد ميتةً طبيعية، لا قصف، ولا قنابل، ولا بنادق، أخشى أن يسقط المبنى بنا، فجميع المنازل سقطت حولنا، ولن أذهب بدونك يا جدتي!

ابتسمت جدتي وقالت: يا حفيدي، اخرج أنت وارحل مع الراحلين، اتركني وحدي لاستقبل مصيري، لقد عاصرت حروبًا من قبل وأجيال، وشاهدتُ معارك ومعاهدات واتفاقيات، وكم من هدنة اعلنها العدو أمامي ولم يلتزم وكنا دومًا نتفاجأ بالخيانة، والقتل والاضطهاد، والتشريد وعرقلة المسيرة، ومحاولاته في كتم صوت الحرية، ووأدها مع الرفات، كنا نقاوم، من أجل حماية أرضنا.

يا حفيدي، إن الموت في وطنك عِزةٌ فلا تبخل على أرضك وتفدها بروحك.

شعرتُ باليأس وباءت محاولاتي بالفشل في اقناع جدتي بترك المكان، وتعالت أصوات الهديد من حولي، قالت جدتي: أرى الموت يتلقف الكثيرون، وكأنّ بركان ثار على منطقتنا، وغطت حممه الملامح والاشياء، واصبح الدخان يملأ المكان، وغطى الغبار ارجاء السماء، فأصبح نهارنا ليل، وعمّ الظلام وانقطعت الكهرباء، ولم تشرق شمسنا، بل نسمع فقط دوي القنابل والصراخات، ورغم ذلك أشم رائحة ذكية، تنشر عنبرًا وعبق النفحات، ربما نثرتها أرواح شهداءنا الأبرار، ولم أعد أر سوى ضجيج الأصوات، وبكاء الأطفال التي تستنجد، وتناشد الإنسانية بالتدخل وقمع جبروت الأعداء، هناك أم تصرخ وتبحث عن ولدها تحت الأنقاض، أراها تفتش عنه بين الحطام، تحاول إزالة الصخور والأحجار، وكأنها تسمع صوته تحت المباني، هل حقًا هو تحت التراب؟ أم أنّها أُلهمت بوجوده في ذات المكان الذي انهارت طوابقه، فظّنت أنه حي تحت الثرى، وأرى أخرى تحاول أن تتخطى أجساد الأطفال الطاهرة، والممددة على قارعات الطرقات، كأنها تخشى أن تطأ قدماها أحدهم، فتحطمه كما حطمته قذائف العدو المكار، الذي لم يراعِ صغر سنهم، وتساوى الطفل والرضيع لديهم، وكأنه يُنصّب بنادقه حولهم ويختار بعناية هؤلاء الابرياء، وتلك مراوغته في القتال، يقتلع قلب كل أم وأب، وينشر المنايا حوله، فيرفع كل قريب ضحاياه التي أنارت أكفانهم دجى الليل، فانكشف السواد بضوء وجوههم النضرة، وحلّقت أرواحهم في السماء، ترفرف على أجسادهم الممددة على الطرقات، كأنها تُسّطر لنا رسالة السماء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ويطلبوا منا أن نسلّمَ بالواقع، ونعتاد الفراق، ولا نبالي بأجسادهم الماثلة أمامنا، فهم في دار نعيم مقام، غير أننا نطالبهم بعدم الاستسلام وبذل الغالي والنفيس من أجل الوطن العزيز.

قلت لجدتي: لا أستطيع التحمل ولا أحب المتفجرات، إنها تُعجّل بقيامتنا، لقد أصبح كل شيء حولي مثيرًا للاختناق، فأمسكتُ يدها مرةً أخرى حتى أسحبها نحو الخارج، لكنها أفلتت يدها مني، تريد أن تمنحني شيئًا من الحرية وتساعدني على عدم ملآقاة نفس مصيرها.

قالت: ألاّ تؤمن بقوله "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة"، أرى الموت قادمٌ نحونا ولا مجال للهرب، يزف بشرى استشهادنا، فقد كُتبت الظروف علينا القتال والمقاومة حتى الاستشهاد، وعليك أن تتقبّل فكرة الموت بشرف، فالكرامة تمحو أثار الهزيمة، والوطن أم يتفانى أبناؤها من أجل حمايتها، ونحن محظوظون بهذه الأرض وهذا المكان، نمتلك أولى القبلتين.

بدأت يداي ترتعش من صراخات الجيران، وأخذت عيناي تراقب ما يحدث في صمت، فأصبح الموت قريب لا محال، وأيقنت من حديث جدتي حول عظمة الموت والاستشهاد في سبيل حماية الأرض المقدسة، فاطمئن قلبي رغم توتره، جلست بجوار جدتي ملتصق بيدها النحيلة، التي عاصرت أزمان من المعاناة والظلم، ومع كل صرخة تخترق أُذني، تتسارع نبضات قلبي، فأصبحت اتمنى وقوع البلاء بدلاً من مرارة الانتظار، وسط عينين شاخصتين، وأصابع القدم التي مالت إلى البرودة والتجمد أو أنني أٌصبتُ بشلل رباعي، وتقّيدت حركتي، وتوقف الكلام في حلقي يعلن الاستسلام.

عاودت جدتي حديثها عن الحروب وتاريخ أجدادنا، وبسالتهم في القتال، فقالت لي: اعلم أنني أرغمك على الجلوس وسط قذائف العدو، عليك أن تدرك أن العدو الماكر يستلذ برؤيتنا ونحن نركض من براثنهم، وخطيئتهم التي حطمت الإنسانية، فهم يتطلعون إلى قيادة العالم، وبناء امبراطورية على جثثنا التي أصبحت كالبنيان المرصوص، فدعني أروي لك بعض بطولات جدك، وما فعله بعض الشجعان في سبيل التمسك بأرضنا وحمايتها من بطش الأعداء.

قالت: قبل سنوات مضت، قرر جدك الانضمام إلى حركات التحرر من الاحتلال، شأنه كشأن وطني يرفض الانحناء، ويأب الهزيمة حتى أخر قطرة دماء، أدركت وقتها أنني سأصبح أم معيلة في القريب العاجل، وأيقنت أنني سأكون زوجة الشهيد الذي خاض المعارك وحارب الاحتلال، لم أخش فراق جدك، لأني مؤمنة بقضاء الله الذي هو نافذ لا محال، فانضم جدك إلى جماعة يسعون إلى الخلاص والحرية وبدأ معهم الجهاد، كان جدك يعمل حمّال، وطبيعة عمله تتطلب منه التنقل من مكان إلى آخر، بحثًا عن لقمة العيش، وكان لا يستطيع أن يقول لا، لأي شخص بطلب منه أداء عملٍ ما، حتى إن كان ذلك من الأعداء، وذلك لأن الحرب بيننا وبينهم هدأت، بعد أن تقاسمنا الأرض، واستسلم معظمنا للأمر الواقع، وربما أردنا أن نتنفس قليلًا هواء غير ملوث بغازات قنابلهم، ونرمم الخراب الذي ألحقوه بنا، فرفعنا شعار السلام واحترام الإنسان لأخيه الإنسان.
وتقّدم جدك نحوي في ذلك اليوم الموعود، قام بتوديعنا جميعًا، وأخذ يتطلع إلى جميع أركان منزله، يبدو أنه كان يشعر باقتراب أجله، فأوصاني بالعيال والصبر وعدم النواح، وأن افتخر به دومًا، وأحكي بطولاته لأبنائه وأحفاده.

ذهب جدك إليهم كعادته في يومٍ كانوا يحتفلون، وخرج من بينهم دون أن يشعروا به، رغم أنهم كانوا كالجراد المنتشر في المكان، استطاع أن يغافلهم ودخل إلى مستودعهم، وقام بتدمير المكان بأكمله، لكنه لم ينج، وجاءت بشرى موته قد زفها أحد أصدقائه، وصبرت على فراقه كصبر أيوب على بلائه، وأكمل المناضلون المسيرة دون كلل أو ملل، صحيح خسرنا أرواحًا أمامهم، لكننا لم نفقد كرامتنا.

ولا تعتقد أن جدك مات، بل طيفه معي، يرافقني في جلوسي ويواسي وحدتي، ويُحادثني وأحادثه، ونتبادل الضحكات في غرفتي والنكات.

ابتسم الحفيد وذهب خوفه، وظل جالسًا بجوار جدته، لم يتركها لحظة، رغم خروج الجميع مهرولاً من الموت، قام باحتضان جدّته وضمها بكفيهِ الصغيرين، وسالت دمعة من عينيها ترّثي فراق الأحبةِ، وفجأة انهار المبنى، وتهشمت طوابقه، وتناثرت أشياؤه الثمينة، ولا يوجد أثمن من أرواحنا التي تنفصل عن أجسادنا، وتشاهدنا نتحطم وسط سيل من الدماء التي تختلط مع دماء الوطن، فلا يفرقنا دين، ففي الموت يستوي الجميع دون تمييز،

انهار المبنى بهم وأصبح الحفيد مع جدته تحت التراب، ولا ضوء ينير وحشتهم، ولا أي شيء ينقذهم من تحت الأنقاض، فسرق الحطام الاكسجين حولهم، وبدأ كلاهما في الاستسلام للموت، وغابا عن الوعي.

هناك كشافات من فوقهم، حيث ظهر بعض الوميض الذي اخترق ثقوب الأحجار، وأقدام فوقهم تخطو، وتبحث بين الأموات عن الأحياء، إنها فِرق الإنقاذ.

وصل شعاع الضوء إلى عيناي العجوز، فاستفاقت، وحاولت أن تنادي بصوتها الشجي، كأنها تريد أن تقول انقذوا ما تبقى من اشلائنا.

فنحن أحياء تحت الركام، وحاولت أن تُحرك جسدها المهشم، لكنها لم تستطع، ففكرت أن تصرخ، لكن عُقد لسانها إثر انهدام المبنى، لمح أحدهم كومةً من التراب كأنها تتحرك، فشعر بأنها تخفي أحياء في باطنها، فاقترب منها، وأخذ ينبش التراب، ويزيل الأحجار، ليفتش عما تحويه تحتها، فكشف وجه العجوز، التي أطلقت تنهيدةً خفيفة، بعد أن شهقت الاكسجين، وفتحت عينيها في تثاقل، فأسرع الرجل ينادي، تعالوا إلى هنا، يوجد أحياء!

أخذ المنقذ يتطلع إليها متعجبًا: إنها امرأة طاعنة في السن، وفي عقدها الأخير، فسأل نفسه، كيف استطاعت هذه العجوز أن تنجو من الانهيار!

سألها ذلك المنقذ: هل أنت بخير؟

لم تجب، فكان القصف قاسي كالصخر، أرخى قواها، وشُلّت حركتها، ورغم ذلك تماسكت، ولم تيأس من البقاء على قيد الحياة.

همّ الرجال على حملها، فرأى أحدهم يدها تمسك بيدٍ أخرى، إنه حفيدها الصغير، فأخذ ينبش التراب من جديد لاستخراج جسده الطاهر، ولما أزال الغبار على وجهه، وجد البسمة لا تفارق شفتيه، وكأنه يتذّوق حلاوة الاستشهاد، تمامًا كما قالت له جدته.

قال أحدهم مات الصغير، وعاشت الحجة، فأدمعت عيونها، وحطم لسانها جميع القيود، حيث أطلقت صرخة الفراق.
أخذت تتطلع إلى المكان من حولها، حيث عمّ السكون والهدوء، وسط صفوفً من الجثث والأموات.

ولازالت الحرب تستمر..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى