الجريمة والعقاب
(إلى روحِ ابْنِ أخي "إلياس"، المَقتولِ غَدْرًا.)
"لا يُمكِنُكَ أن تَتَصَوَّرَ كَمْ هُوَ شاقٌّ قَتْلُ إِنْسان!"(1)
(غابرييل غارثيا ماركيز)
منذ وُجِد الإنسان وُجِد القتل، فكان أبشعَ فِعلٍ دالّ على رفضه للاختلاف، وخضوعِه لمشاعر الغيرة والحسد والحقد، وسعيِه إلى نبذ الآخَر وإقصائه، كأن الآخَرَ فعلا هو الجحيم، كما قال سارتر.
ومنذ جريمة قابيل ضد أخيه هابيل ظل تاريخ البشرية سلسلة متلاحقة من جرائم القتل، لا تكاد تتوقف إلا لتُستأنَف. بل إننا عرفنا، عبر تاريخنا الذي اقترن بتاريخ الجريمة، أنواعا مختلفة من القتل، بأسماء متعددة، والمسمّى واحد. فظهَر القتل العمد، والقتل الخطأ، والقتل الاضطراري، والقتل الرحيم... ناهيك بالحروب المدمِّرة التي تأتي على الأخضر واليابس، وتقضي على الجاني والبريء على حد سواء. ويبلغ الأمر منتهى البشاعة عندما يصبح القتل وسيلة للإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، كما يحدث الآن على أرض فلسطين، دون رقيب أو حسيب...
في البدء كان القتل:
أول جريمة عرفتها الخليقة هي قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما أوَّلُ ابنَيْن لآدم بحسب "العهد القديم". كان قابيل يشتغل في الأرض، بينما يرعى أخوه هابيل الغنم. وعندما قررا تقديم قربان إلى الرّب قدّم قابيل ثمارا من محصول أرضه، وقدّم أخوه هابيل سِمانَ غنمه، فتُقُبِّل قربانُه، ولم يُتَقبَّل قربانُ قابيل، لمخالفته لشرط الذبيحة الدموية التي تطلَّبها الرب. ﴿إنما يتقبل الله من المتقين﴾ (2). اغتاظ قابيلُ من ذلك فأقْدَم على قتل أخيه. فكان أولَ من سَنَّ القتل.
تعرَّض قابيل بسبب فعلته لعقاب شديد، لازَمه طول حياته. كان عقابا نفسيا تجرّع خلاله آلامَ الخُسران والندم. ﴿فطوعت له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين﴾. (3) خسِر أخاه، وخسِر علاقته بخالقه، وخسر دنياه، لأنه أسخط والديه عليه، وعاش منبوذا من أقاربه وأهله، ثم خسِر مكانته كابنٍ لخليفة الله في أرضه. ﴿فأصبح من النادمين﴾ (4). والندم شعور بالأسف والحزن بعد ارتكاب خطأ أو اقتراف ذنب. فما بالك إن كان الذنب في فداحة من قتَل الناس جميعا؟ قال تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (5). ندَمٌ تَفاقَم بعد عجزه عن التصرف في جثة أخيه، لولا أن لقّنه الغرابُ درسَ الدفن، وتَفاقَم أكثرَ بعد اضطراره إلى الهرب من حضن الأسرة والتيه في الأرض مذموما مدحورا. ناهيك بالعقاب الذي يتوعَّده به الله في الآخرة. ولعل أبلغ تصوير لندم القاتل هو الذي نجده في رواية "الجريمة والعقاب"(6) لفيودور دوستويفسكي، إذ عاش القاتل روديون راسكالنكوف بعد اغتياله للعجوز المرابية أليونا إيفانوفنا حالة من الصراع النفسي الشديد بين عقله ومشاعره، وانتهى به تأنيب الضمير إلى الاعتراف بجريمته وتقديم نفسه للعدالة.
بداية تقنين عقوبة جريمة القتل:
كثيرا ما تَعتبِر الدراساتُ التاريخية شريعةَ حمورابي أقدمَ نموذج للقوانين المنظِّمة للحياة الاجتماعية. غير أن نزول الدين، مع بدء وعي الإنسان وتَشَكُّل المجتمع، في مراحل سابقة عليه، حمل معه منظومةً من القيم والأخلاق التي يتطلبها التعايش بين الناس وسط نظام اجتماعي. فظهرت الوصايا العشر التي تُمثل الحدَّ الأدنى لحفظ العلاقات الاجتماعية، منذ عهد نوح وإبراهيم مع ما كان يُسمّى المندائية، قبل أن تظهر في ألواح موسى. وجاء بعضُ ما في تلك الألواح مطابقا تماما لما اشتملَتْ عليه شريعة حمورابي الذي وُجِد قبل النبي موسى بحوالي أربعمائة سنة حسب التلمود.
وصَف "العهدُ القديم" القتلَ بالجريمة الكبرى المَنْهِيّ عنها. تقول الوصية السادسة من الوصايا العشر كما وردت في التوراة: "لا تَقتُلْ"(7). وكرَّرها يسوع، بالصيغة ذاتها، في "العهد الجديد": "لا تَقتُلْ"(8)، مُعتبرًا القتلَ شرا أخلاقيا خطيرا. كل الديانات والشرائع تَنهى عن القتل، وتُحذِّر من ارتكابه، وتَعتبره إثما يستوجب عقابا شديدا، سيما إذا كان متعَمَّدًا ومقصودًا لذاته.
وقد نصّت شريعة حمورابي (9) على شرط العمْد في القتل، حتى تكون عقوبتُه الإعدام. أما إذا أفضى الضربُ إلى الموت عن غير عمْد فيَدفَع القاتل تعويضا ماديا (10). ويتمُّ تنفيذ الإعدام بأشكال مختلفة كالذبح، والإغراق في النهر، والحرق بالنار...
واعتمدت الشريعةُ اليهودية كذلك عقوبةَ الإعدام في جريمة القتل العمْد، وفي عدد آخر من الجرائم. ويُنفَّذ في الغالب رجمًا بالحجارة من قِبَل الجمهور، ونادرا ما يتم بالحرق.
والْقَتْل الْعَمْد، كما تم تعريفه في الموسوعة الفقهية، "هُوَ الضَّرْبُ بِمُحَدَّدٍ أَوْ غَيْرِ مُحَدَّدٍ، وَالْمُحَدَّدُ، هُوَ ما يَقْطَعُ، وَيَدْخُل فِي الْبَدَنِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكّينِ وَأَمْثالِهِما مِمَّا يُحَدِّدُ وَيَجْرَحُ. وَغَيْرُ الْمُحَدَّدِ هُوَ ما يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصولُ الزَّهُوقِ بِهِ عِنْدَ اسْتِعْمالِهِ كَحَجَرٍ كَبيرٍ، أَوْ خَشَبَةٍ كَبيرَةٍ. "(11)
هكذا أصبح القِصاص، وهو إعدامُ مرتكِبِ القتلِ العمْد، قانونا مشترَكا بين معظم المجتمعات التي تَعتبِر أنه الحُكمُ الأكثرُ إنصافًا وعدلا... وقد أقَرَّته الديانات السماوية الثلاث، وتبنَّته القوانين المعاصرة؛ لأنه أحد أفضل السبل لردع الناس عن ارتكاب جريمة القتل... قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقونَ﴾ (12)، فإذا علِمَ القاتلُ أنه سيُقتَل بجريرته ربما كَفَّ عن ارتكابها. وفي ذلك حياةٌ للنفوس. إن الفلسفة التي قام عليها هي أن الحق في القصاص يتم عن طريق المعاملة بالمثل والمساواة، وبذلك يتحقق العدل والإنصاف. فأنت حين تُحدِث الضرر في الآخر تُحدِثه في نفسك، فإذا قتلتَ شخصا آخر مثلا، فأنت تَقتُل نفسَك بالضرورة. إن مبدأ القِصاص يجعل الجانيَ هو الذي ينطق بحكم الإعدام على نفسه، إذ يُدرك، مسبقا، أنه سيُقتَلُ باعتباره قاتِلا. وهذا ما يَسمَح بتحقُّقِ العقاب المنصِف، وليس العقاب المنتقِم.
وقد قبِلَتْ بعضُ المجتمعات، منذ شريعة حمورابي، الدّيةَ التي تقتضي العفو عن الجاني، مقابل تعويض يتم الاتفاق عليه، يدفعه، أو تدفعه عنه أسرته إلى أقارب الضحية...
حكم الإعدام والحق في الحياة:
اعتَبرتْ مختلفُ المواثيق الدولية المهتمةُ بحقوق الإنسان الحقَّ في الحياة أسمى هذه الحقوق، إذ بدونه لا يمكن التمتع بغيرها. لذلك ارتفعتْ أصواتٌ حقوقية تُطالِب بإلغاء الحكم بالإعدام، إلا في الجرائم الخطيرة، مع اشتراط توفر ضمانات كاملة للمحاكمة العادلة. وقد فطنتْ هذه المواثيقُ الدولية إلى أن الحكمَ بالإعدام ليس نقيضًا لمبدأ الحق في الحياة، ما دام هذا الحق مكفولا للجميع، ولا يجوز حرمانُ أحدٍ منه غصبًا. تقول المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: "الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يَحمي هذا الحق، ولا يجوز حرمانُ أحدٍ من حياته تعسُّفًا"(13). وهو الأمر نفسه الذي نصَّتْ عليه المادةُ الثانية من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والتي ورد فيها "أن حق كل شــخص فــي الحياة حقٌّ محمــي بالقانــون. لا يجوز التسبُّبُ بالموت عمْداً لأي شخص، إلا تنفيذاً لحكمٍ بالإعدام صادِرٍ عن محكمة في حالِ نَصَّ القانونُ على هذه العقوبة جزاءً على الجُرم" (14). ولذلك لا يُنَفَّذُ حكمُ الإعدام، وفق هذه المواثيق، إلا إذا توفر شرطان أساسيان:
أن تكون الجريمة المرتكَبة من الجرائم الأشد خطورة، مثل القتل.
أن يكون الحكم القضائي نهائيا، ويدين الجاني، ويقضي بتنفيذ حكم الإعدام فيه، مع ضمان محاكمته محاكمة عادلة، يكون فيها الدليل على الجريمة واضحا، ولا يقبل الشك، أو التأويل.
والملاحظ أن أقارب الضحية، وفق هذه الشرائع، مُلزَمون بالامتثال للقانون، ولا يحق لهم، بأي حال من الأحوال، أن يقتصوا بأنفسهم من القاتل، خلافا لما عرفَتْه مجتمعاتٌ سابقة، ومنها المجتمع العربي، الذي حَكَمَته في الجاهلية شريعةُ الثأر، بحيث يُسَلَّم الجاني، متى قُبِض عليه، إلى أهل المقتول، وإن تَعَذر ذلك جاز لهم قتلُ أحدِ أقاربه، مما كان يُغَذّي العداواتِ بين الأشخاص والقبائل، ويُحَوِّل حياتَهم إلى سلسلة متلاحقة من الثارات والحروب المتواصلة. وقد عُرِفَتْ مسألةُ تسليم القاتل إلى أهل المقتول لدى الرومان أيضا.
عقوبة الإعدام في قانون المسطرة الجنائية المغربي:
نصَّ القانون الجنائي المغربي صراحة في الفصل 393 منه على الحكم بالإعدام على كل من ارتكب جريمة القتل العمْد: "القتلُ العمْد مع سبق الإصرار أو الترصد يُعاقَب عليه بالإعدام"(15). وهي من أشد العقوبات، التي يُمْكِن الحكمُ بها خصوصا في الجرائم الخطيرة جدا؛ لأنها لا ترتبط بعقاب بدني فقط، بل تتجاوزه إلى سلب الروح. إنها أقصى ما يُمكِن تنفيذُه في حق الجاني المرتكِب للجنايات البالغة الخطورة مثل جرائم أمن الدولة، وجرائم الإرهاب، وجريمة القتل العمْد... لهذا أبقى عليها المشرِّع المغربي في هذه الحدود، وأحاط تنفيذَها باحترازات مشددة، كما بينَتْها المواد من 601 إلى 607 من قانون المسطرة الجنائية الجديد (16). ونُجمِلها في التالي:
إبلاغ النيابة العامة لوزير العدل بأي عقوبة للإعدام بمجرد صدورها.
لا يُنفَّذ أي حكم بالإعدام إلا بعد رفض طلب العفو.
يُنفَّذ الحكم بالإعدام رميا بالرصاص، بأمر من وزير العدل، وبطلب من النيابة العامة لدى المحكمة التي أصدرت الحكم، وينفَّذ في السجن الذي كان المحكوم معتقلا فيه، أو في أي مكان آخر يُعيِّنه وزير العدل.
تتولى التنفيذَ السلطةُ العسكرية بناءً على تكليفٍ من النيابة العامة لدى المحكمة التي أصدرَت الحكم، وبحضور كل من: رئيس الغرفة الجنائية التي أصدرت القرار، أو مستشار منها يُعيِّنه الرئيسُ الأول لمحكمة الاستئناف؛ عضو من النيابة العامة يُعيِّنه الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف التي أصدرَت القرار؛ أحد قضاة التحقيق أو أحد القضاة من محكمة المكان الذي سيقع به التنفيذ يُعيَّن من طرف رئيس المحكمة المذكورة؛ أحد كُتاب الضبط من محكمة المكان الذي سيقع به التنفيذ؛ محامو المحكوم عليه؛ مدير المؤسسة السجنية التي يقع به التنفيذ أو مدير السجن الذي كان المحكوم عليه معتقلا به عندما يقع التنفيذ بمكان آخر؛ رجال الأمن الوطني أو الدرك الملكي المكلفون من قِبَل النيابة العامة؛ طبيب المؤسسة السجنية، وإذا تَعذر ذلك، فطبيب تُعيِّنه النيابة العامة؛ إمام وعدلان، وإذا لم يكن المحكوم عليه مُسلِمًا فيَحضُر ممثلُ الديانة السماوية التي يَعتنِقُها المنفَّذُ عليه.
يُنفَّذ الحكم بطريقة غير علنية إلا إذا قرر وزير العدل خلافَ ذلك.
يُسَلَّم جثمان المحكوم عليه بعد التنفيذ إلى عائلته، إذا طلبَتْ هذه الأخيرة ذلك، على أن تلتزم بدفنه في غير علنية.
إذا كانت المرأة المحكوم عليها بالإعدام حاملا، فإن العقوبة لا تُنفَّذ إلا بعد وضع حملها بسنتين تماشيا مع مقتضيات الشريعة الإسلامية.
يُحرِّر كاتبُ الضبط مَحضَر التنفيذ حالا ويُوقَّع عليه من قِبَل رئيس غرفة الجنايات أو المستشار المعين من طرف الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، وممثل النيابة العامة وكاتب الضبط. وتُعلَّقُ مباشرةً بعد التنفيذ نسخةٌ من المحضر بباب المؤسسة السجنية التي وقَع فيها التنفيذ وتبقى معلقة لمدة أربعٍ وعشرين ساعة، وإذا وقَع التنفيذ خارج المؤسسة السجنية، يُعلَّقُ المحضر بباب بلدية مكان التنفيذ.
لا يُمكِن أن يُنشَر عن طريق الصحافة أي بيان أو مستنَد يَتعلَّق بالتنفيذ ما عدا المحضر المذكور، وإلا تَعرَّض المخالِف لغرامة تتراوح بين 10000 و60000 درهم.
والملاحَظ أن هذه الاحترازات تسعى إلى صَوْن حقوق المحكوم عليه، وتُوفِّر له كل الضمانات التي تجعل إعدامه يَمُرُّ في ظروف قانونية سليمة. غير أن ذلك لا يَمنَعنا من إبداء ملاحظات، منها:
حرمان أهل الضحية من حضور وقائع الإعدام، فيه تجاهل لمشاعرهم التي يُمكِن أن تجد شفاءً لغليلها في معاينة الجاني وهو يتلَقّى عقوبته ويَلْقى جزاءه. بل يُمكن، على الأقل، جعلُ الحضور اختياريا بالنسبة إليهم، تجنبا لأي إحراج، ورفعا لأي تأثير سلبي لذلك.
من شأن التنفيذ العلني للإعدام أن يجعله وسيلة لردع الناس عن ارتكاب الجرائم، فالنفس البشرية مجبولة على الخوف، وأحيانا لا يَزَعُها الوعظ والإرشاد كما يَزَعُها السلطان. ولكي يكون القاتلُ عِبرةً لغيره يَرى البعض أن تنفيذ حكم الإعدام فيه يجب أن يكون بشكل علني، بل وأن يُنقَل على الشاشة الصغيرة، حتى يراه الجميع. لكن قلة قليلة من الدول (إيران ولاوس وكمبوديا وشيلي) هي التي تطبق العلانية في تنفيذ هذا الحكم. وإنصافا لروح المقتول يدعو البعض إلى تنفيذ حكم الإعدام في القاتل في مسرح الجريمة ذاته، وليس في داخل السجن.
إذا صدر الحكم بالإعدام وصار حائزا لقوة الشيء المَقضيِّ به، فمن الأنسب أن يُصبِح غيرَ قابل لطلب العفو، خصوصا إذا كان الجاني قد ارتكب جريمتَه عمْدا ومع سبق الإصرار والترصد. إنَّ فتحَ باب العفو أمام هذا الصنف من الجرائم لا يُمكِن إلا أن يَمنح للمجرمين المحتمَلين بارِقةَ أملٍ قد تكون حافزًا لهم على التمادي في ارتكاب جرائمهم. إن القاتل العمْد، لا يَستحق أن تُمنَح له فرصةُ البقاء في مجتمع زرَع بين أفراده الرعب والفزع، واعتدى فيه على حياة شخص أو أشخاص أبرياء، ناهيك بما قد ينجُم عن فعله من صدمات نفسية وحالات اضطراب قد تبقى ملازمة لذوي الضحية مدى الحياة.
ولعَلَّ أبلغ مثال للتأكيد على أن العفو في مثل هذه الحالات لا يَمنع المجرم من العود إلى ارتكاب جرائم أخرى، هو مثال ذلك الشخص الذي قُدِّم للعدالة سنة 1975 من أجل جناية القتل العمْد مع سبق الإصرار والسرقة الموصوفة، وكان الضحيةُ شرطيَّ استعلامات، فصدر في حق الجاني حكمٌ بالسجن المؤبَّد بتاريخ 19/03/1975 من محكمة الاستئناف بأسفي.
وأثناء تنفيذ العقوبة بالسجن المركزي بالقنيطرة في غضون سنة 1980 ارتكب المعني جناية أخرى تتعلق بالقتل العمْد في حق أحد حراس السجن، فصدر في حقه قرار جديد بالإعدام، وبعد استفادته من العفو الملكي أُطلِق سراحه بتاريخ 03/03/2007.
لم يمُرَّ على إطلاق سراح المعني بالأمر إلا بضعة أشهر، وبالضبط بتاريخ 18/10/2007، حتى ارتكب من جديد جنايةَ قتلٍ عمْد مع سبق الإصرار والترصد والسرقة الموصوفة وانتحالِ صفة شرطي.
وبعد المحاكمة صدر قرار بتاريخ 10/12/2012 في الملف الجنائي عدد 748/2002 قضى في حق المتهم بالإعدام.
ولا شك أن هذه الحالة تثير الكثير من علامات الاستفهام. فالجاني استفاد من العفو بعد أن ارتكب جنايتين منفصلتين في حق موظفَيْن من موظفي الأمن، ثم ارتكب بعد العفو عنه جناية أخرى بالمواصفات والأركان ذاتها. لذلك وجب التأكيد على أن العفو عن القاتل العمْد لا يُسقِط عنه حالَ العود، ولا يَضمَن ألا يَذهَب أشخاصٌ آخرون ضحايا له في أي وقت وحين.
هل تُلغى عقوبة الإعدام؟
ليست هناك عقوبة مثيرة للجدل الواسع بين الحقوقيين ورجال القانون والساسة والمفكرين، أكثرَ من عقوبة الإعدام.
وارتفعت أصوات بينهم تدعو إلى إلغاء هذا الصنف من العقوبة، لما فيه من مَسٍّ بأسمى حق من حقوق الإنسان، وهو الحق في الحياة. وتضمَّنت البروتوكولات الملحَقة بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (17) بنودا تدعو صراحة إلى إعادة النظر في الحكم بالإعدام، بل سعى عدد من الدول عبر العالم إلى الاستجابة لهذا المطلب، فألغت من قوانينها هذه العقوبة، أو اكتفت بتوقيف تنفيذها.
ويستند دعاة إلغاء هذه العقوبة إلى جملةِ مبرراتٍ، منها:
أن بعض الأشخاص أُعدِموا خطأً، وثبت في ما بعد أنهم أبرياءُ من المنسوب إليهم، إما بسبب اعترافاتٍ انتُزِعتْ منهم تحت التعذيب، أو بسبب شهادةِ زورٍ ضدهم، أو بسبب ظهورٍ مفاجئ للمقتول المفترَض. وساعتها يكون اكتشافُ هذه الأمور قد تأخَّر، ولا يُمكِن إصلاح هذا الخطأ أو إزالة أثره.
أنها عقوبة محدودة جدا، إذ ليس لها حد أقصى ولا حد أدنى. كما لا يمكن وضع مستويات لها بحسب الظروف الخاصة بالجاني وجريمته.
أنها بشِعة إذ لا وجود لوسيلة تُحقِّق الموت الفوري. فقد أثبت الطب الحديث أن كل عنصر حيوي في الجسم يظل على قيد الحياة حتى بعد قطع الرأس. ويَعتبر أصحاب هذه الدعوى أن في ذلك تجنِّيًا واضحًا على المحكوم عليه بالإعدام.
أن الدولة بشَرعَنَتها للإعدام تقَع في المحظور، إذ ترتكب هي الأخرى جريمتها لكن بهدوء وروية، في حين أن الجانيَ قتَل في ظروف تتسم، في الغالب، بالهيجان والانفعال والاندفاع. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن وقوع المجرم في قبضة الدولة يجعلها قادرة على تحييد أي خطر له على غيره، بطرق مختلفة، دون الحاجة إلى إعدامه.
أن الإعدام عقوبة أُفرِغت من محتواها الإصلاحي، ما دام المجرم، بإعدامه، قد حُرم من كل فرصة للإصلاح، ومن إمكانية إعادة دمجه كعضو صالح في المجتمع، يُسهِم بدوره في تنميته.
أنها عقوبة قد لا تخلو من طبقية. فالأثرياء من المجرمين حين يُنَصِّبون للدفاع عنهم كبارَ المحامين تَكبُر حظوظهم للإفلات من العقاب. بينما يقع المجرمون الفقراء تحت رحمة القضاء والقانون فينالون أقصى العقوبات وأقساها.
أنه لم تَسلَمْ من التسييس، إذ تتخذها بعض الدول مَطِيَّةً لقمع المعارضين، وتصفيةِ الخصوم، وترهيبِ الجماعات العرقية والدينية وكذا الفئاتِ الهشة.
أنها تستثير النوازع الوحشية وتُنَمّي الميول إلى الشر والقسوة والعنف لدى الذين يشاركون في تنفيذها، ولدى الجمهور المُشاهِد لوقائعها إن كانت علنية.
أنها ليست رادعة تماما، فقد لوحظ حال العود لدى بعض المحكومين بالإعدام بعد العفو عنهم، كما في المثال المغربي أعلاه. وفي الكويت أُعدِم قاتلٌ علَنًا، وبعد أيام قليلة فقط ارتكب مجرمٌ آخرُ جريمةً راح ضحيتَها ثلاثةُ أشخاص، وكان هو نفسه قد حضر مراسيم شنق القاتل. ويُعزِّز أصحابُ هذا الطرح ادعاءَهم بما ورد في إحصاءٍ أقيم في إنجلترا مطلع القرن العشرين ظهر فيه أن "170" من بين "250" مشنوقا حضروا شخصيا تنفيذ الإعدام مرة أو مرتين.
موقف المغرب:
يسير المغرب منذ عقود نحو قرار الإلغاء، بعد انخراطه في عدد من الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الإنسان والنهوض بها، ومنها البروتوكول الاختياري للاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة (18). كما أشادت السلطة العليا في البلاد بالنقاش الدائر حول عقوبة الإعدام، وتَعتبر أنه سيُفضي إلى إنضاج النظر في هذه الإشكالية وتعميقه. (19) ويُعتبَر العفوُ الملكي الذي شمل 23 سجينا محكوما بالإعدام ضمن لائحة العفو الصادرة يوم الثلاثاء 30 يوليوز 2025 إشارةً واضحة تَصُبُّ في هذا الاتجاه.
كما أن رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، سابقا، الراحل إدريس بنزكري، كان أعلن في شهر أبريل من سنة 2007، مِنْ منصّة المؤتمر العالمي الثالث لمناهضة عقوبة الإعدام بباريس، أنَّ المغربَ سيُلغي هذه العقوبة من قانونه الجنائي، تنفيذًا لتوصيّةٍ بهذا الشأن صدرتْ عن هيئة الإنصاف والمصالحة. غير أن المحاكم المغربية ما زالت تُصدِر أحكاما بالإعدام، ومنها حكم بتنفيذ عقوبة الإعدام ضد قاتلِ إمام بمسجد في تطوان يوم 29 نونبر 2016، وحكم آخر صادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء يقضي بإعدام شخص قَتَل اثنين من اليهود المغاربة، بتهمة القتل العمد والسرقة والتشويه، يوم 31 ماي 2017. وفي هذا السياق صوّتت المملكة المغربية، يوم الثلاثاء 17 دجنبر 2024، ولأول مرة بالإيجاب على قرار الإيقاف العالمي لتنفيذ عقوبة الإعدام أمام اللجنة الثالثة للأمم المتحدة.
وسعى الائتلاف المغربي وشبكات أخرى مناهِضة لعقوبة الإعدام إلى تكريس هذا الإلغاء، وإقناع الفاعل السياسي والرأي العام المغربي به. ونجح نسبيا في ذلك، بانضمام بعض الأحزاب إلى تلك المبادرة، وهي حزب التقدم والاشتراكية، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب الأصالة والمعاصرة. وعلى المستوى الشعبي أعرب 50% من المستجوَبين في البحث الذي قامت به المندوبية السامية للتخطيط حول تصوّر الأُسَر لتدابير التنمية المستدامة عن دعمهم لفكرة الإلغاء. (20)
وقد عمل المغرب فعلا على وقف تنفيذ عقوبة الإعدام منذ 1993، كما يُلاحَظ أن القضاء المغربي أصبح مُقِلّا في إصدار عقوبة الإعدام إلا في حالات الجرائم البالغة الخطورة، ويَخضَع الحكم فيها للكثير من التريث، حتى إن المُعدَّل السنوي للأحكام الصادرة بهذه العقوبة لا يتعدى عشرة أحكام.
وبعد،
لو احتكمنا إلى المنطق الذي استند إليه دعاةُ إلغاء عقوبة الإعدام، وهو أن تنفيذَها يُعتبَر مسًّا بأسمى حق من حقوق الإنسان، وهو الحق في الحياة، فإنه، من باب أولى، سيكون القاتلُ عمْدا قد مسَّ، هو الآخر، بأسمى حق من حقوق المقتول، وهو حقه في الحياة. ألا تستوجب جريمتُه تلك أن يُعاقَب عليها بالقِصاص منه، بأن يُنفَّذَ فيه حكمُ الإعدام؟ هل استَشعَر دعاةُ إلغاء عقوبةِ الإعدام آلامَ الحزن والأسى التي يَشعُر بها كلُّ من رأى عزيزا عليه، أو قريبا من أقاربه، أو حتى أجنبيا عنه يُسلَب منه حقه في الحياة ظلما وعدوانا وغدرا؟ هل يَطيب له العيش بعد ذلك وهو يعلم أن الجانيَ ما زال حيا يُرزَق، حتى وإن عوقِب بوضعه خلف القضبان لمدة قد تطول أو تقصر؟ هل تستطيع النفسُ البشرية، مهما بلغَتْ درجاتُها من التسامح والصفح، أن تَغفِر للقاتل حرمانَها من أعز مخلوق، دون موجِب حق؟
على القانون في مثل هذه الجرائم أن يكون صارما، وصارما جدا، وأن يأخذ مَجراه النزيهَ بتطبيق أقسى عقوبة في حق القاتل عمْدًا، وألا تأخذه به رأفةٌ أو شفقة، كما لم تأخذ الجانيَ رأفةٌ أو شفقة بضحيته. وكل حكم دون تنفيذ الإعدام في مثل هذه الجرائم لا يمكن إلا أن يُعتبَرَ انتهاكا لحق الضحية في أسمى حقوقها، وهو حقها في الحياة، كما يُمكِن أن يَجعل إزهاقَ الأرواح مجالا للتباهي والتنافس بين عُتاةِ المجرمين، والدائرين في فلكهم، والسائرين على دربهم.
إحالات:
1 – "قصة موتٍ مُعلن": غابرييل غارثيا ماركيز – ترجمة: صالح علماني – دار المدى للثقافة والنشر – دمشق – الطبعة الثانية 1999 – ص. 108.
2- سورة المائدة – الآية 27.
3 - سورة المائدة – الآية 30.
4 - سورة المائدة – الآية 31.
5 - سورة المائدة – الآية 32.
6 – "الجريمة والعقاب": فيودور دوستويفسكي – المركز الثقافي العربي – بيروت/الدار البيضاء – الطبعة الأولى – 2010.
7 - وردت في سِفر الخروج 13:20. وتكررت بالعبارة نفسها في سفر التثنية 17:5.
8 - وردت في إنجيل متى 18:19، وفي إنجيل مرقس 19:10، ولوقا 20:18.
9 – "شريعة حمورابي أول ترجمتين إلى العربية" قام بهما: عبد المسيح وزير وعبده حسن الزيات – جمعها وقدم لها وعلق عليها: سالم الألوسي – مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون – طبعة خاصة - 2015.
10 - المادة 206 من شريعة حمورابي: "إذا ضرب رجل رجلا آخر خلال نزاع وجرَحَه، أقسم على أنه لم يضربه عامدا، وأُلزِم بدفع نفقات الطبيب".
المادة 207: "إذا مات المضروب متأثرا بالضرب، أقسم نفس اليمين، واُلزِم بدفع نصف مينا من الفضة إذا كان القتيل ابنا لرجل حر".
11 – "الموسوعة الفقهية الكويتية" (مجموعة من المؤلفين) – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت – دار السلاسل – ط. 2 – (دون تاريخ) – الجزء 16 – ص. 60.
12 - سورة البقرة – الآية 179.
13 – "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" – الجزء الثالث – المادة 6 – الموقع الرقمي للأمم المتحدة – تمّت زيارته يوم 25 أكتوبر 2025 الساعة الرابعة بعد الزوال.
https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/international-covenant-civil-and-political-rights
14 – "الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان": المجلس الأوروبي والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان – ص. 6.
15 – "مجموعة القانون الجنائي" - صيغة مُحَيَّنة بتاريخ 22 غشت 2024 - المملكة المغربية – وزارة العدل – مديرية التشريع والدراسات.
16 – "قانون المسطرة الجنائية الجديد": المجلس الأعلى للسلطة القضائية – قطب القضاء الجنائي – شتنبر 2025 – ص. ص: 331 إلى 333.
17 – البروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في 15 دجنبر 1989، والبروتوكول الإضافي رقم 13 الملحق بهذه الاتفاقية في سنة 2002.
18 – بروتوكول اختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة - الموقع الرقمي للأمم المتحدة - تمت زيارته يوم 25 أكتوبر 2025 الساعة السابعة مساءً.
https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/optional-protocol-convention-against-torture-and-other-cruel
19 - الرسالة الملكية إلى المشاركين في أشغال الدورة الثانية للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان بمراكش يوم 27/11/2014.
20 - نَشَرَت المندوبية السامية للتخطيط تقريرا عن ذلك البحث بداية شهر دجنبر 2016.
