استلاب الذات في مسرحيات فهد الحارثي
شغل الإنسان المعاصر: بهمومه وقضاياه وطموحاته اهتمام المسرح الحديث، ولم يعد المسرح التقليدي بحبكته المألوفة يفي بتطلعات المسرحيين للتعبير عن أزمة إنسان مابعد الحداثة، فمال كثيرٌ منهم إلى المسرح التجريبي لكونه صيغة جديدة تلبي تطلعاتهم، وتعبّر عن إنسان مأزوم من خلال نصّ مكثف مشحون بطاقة تعبيرية.
والاستلاب بوصفه ملمحا رئيسا للشخصيات المأزومة، وسمة من سمات إنسان مابعد الحداثة الذي يعاني من انشطار الذات، وغياب الدافعية، واليأس، والعزلة، والقهر، والملل ...إلخ.
يبرز كثيرا في المسرح التجريبي، وهو الصيغة المسرحية التي يؤثرها فهد الحارثي، وفي رأيي أن شغف فهد الحارثي بانهزامية الشخصيات واستلابها عائد إلى اهتمامه بالمسرح التجريبي، أي أنه يولي التجريب أهمية كبرى ، فيبذل عنايته في التغريب، وتجاوز المألوف، ويلمس الجانب الإنساني في أضعف حالاته، ويقدّم صورة لطموحات الإنسان غير المشبعة، ودوافعه المؤجلة، و الاستلاب يحقق له ثيمة مفعمة بأجواء الكوميديا السوداء التي تجعل المشاهد يبتسم مقهورا أمام خواء الشخصيات، وغرابة تصرفاتها، وعدم منطقية الأحداث، فيتآزر النص والعرض لتقديم رؤية مسرحية قوامها الغرابة والدهشة.
والاستلاب في اللغة مشتق من: السّلب ففي مقاييس اللغة"السين واللام والباء أصلٌ واحدٌ، وهو أَخْذُ الشَيء بخفّة واختطاف يقال سلبتُهُ ثوبَهُ سلْباً."وفي اللسان: "الاسْتِلابُ: الاختِلاس". ويرد فيه أيضًا استخدامات عدة لكلمة السلب، تلتقي مع دلالة الجذر اللغوي على الخفة والأخذ الذي يثمر عن الخواء، ومن ذلك قولهم:السَّلُوب، للنُّوق التي أَلْقَتْ ولدها لغير تَمامٍ، وشَجَرةٌ سَلِـيبٌ إذا سُلِـبَتْ وَرَقها وأَغصانها، وشَجَرَةٌ سُلُبٌ إِذا تَناثَرَ ورقُها؛ والنخلُ سُلُبٌ أَي لا حَمْلَ عليها، والسَّلُوبُ: التي يموتُ زَوجُها أَو حَمِـيمُها، فالناقة والشجرة والنخلة والمرأة في هذه العبارات أُخذ منها شيء من كيانها، وأفرغت من وجودها وسلبت فاعليتها وطاقتها وصارت معطلة يكسوها الخواء، ويرد معنى للسلب أكثر اتصالا بالذات الإنسانية التي تعاني من الاستلاب في مجتمعها، ونقرؤه في قول ابن منظور:"يقال للرجل ما لي أَراكَ مُسْلَباً؟ وذلك إِذا لم يَـأْلَفْ أَحداً، ولا يَسْكُن إِليه أَحد، وإِنما شبِّه بالوَحْش؛ ويقال: إِنه لوَحْشِـيٌّ مُسْلَبٌ أَي لا يأْلفُ، ولا تَسْكُنُ نفسُه". فالمعنى اللغوي فيه دلالة الاختطاف من جراء وقوع سبب خارجي مباغت لهذه الموجودات المادية والحية، سلبها اتزانها وكمالها.
والبحث عن تعريف اصطلاحي للاستلاب يقود إلى الحديث عن الاغتراب، ففي المعجم الفلسفي يرد الاستلاب تعريفا للاغتراب، فيُعرّف الاغتراب بأنه"حالة انفصال واستلاب، وهو إحساس الإنسان بأنه ليس في بيته وموطنه أو مكانه". (مصطفى حسيبة،ص750).
ومن ملامح الاستلاب شعور الفرد بأنه غريب عن ذاته، وهذا البعد أقوى ملامح الاستلاب، واغتراب الذات لدى فروم Fromm"نمط من التجربة، يرى الفرد نفسه فيها كما لو كانت غريبة عنه، فالفرد يصبح ( إن جاز التعبير) منفصلا عن نفسه"(عبداللطيف محمد خليفة، دراسات في سيكولوجية الاغتراب، ص39). والانفصال عن الذات يعني فقدان الذات هويتها التي تميزها عن الآخرين، فلا تشعر بكينونتها، وتنظر لنفسها كأنها كائن آخر لا يشبهها، ولايمثلها، ولا ترتبط به. والشخصيات في مسرحيات فهد الحارثي، لديها وعي باستلابها، وشعور بفقدان هويتها، ويمكن رصد عدة ملامح لاستلاب الذات هويتها، أولها:
– استلاب الاسم
اسم الإنسان جزء من الهوية الذي يعرف به، ويعبر به عن ذاته، وقد تفطّن الباحثون إلى دلالة الاسم في بناء النص السردي، و قيمته في الرمز والإيحاء."ويتمثل مفهوم اسم العلم الشخصي في مجال الرواية بأنه تعيين للفرد وخلق تطابق بين اسمه وحالاته النفسية والوصفية والاجتماعية، بل هو قناع إشاري ورمزي وأيقوني، يدل على عوالم الشخصية الداخلية والخارجية،"(جميل حمداوي، سيمياء اسم العلم الشخصي في الرواية العربية، مجلة الراوي،4/52).وقد يكون اختيار أسماء الأعلام عملا اعتباطيا من قبل المؤلف"ومعنى الاعتباطية أن لا وجود لعلاقة بين الدال والمدلول، وإنما سميت الأشياء والمعاني تواضعا واتفاقا"( محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري،ص63). وقد يكون"توظيف الأسماء العلمية لتحديد هوية الشخصيات، وتبيان أنماطها السلوكية، وتعيين مواطنها ونسبها ولقبها، ليس ذلك عملا اعتباطيا دائما، بل قد يهدف الروائي من وراء اختيار الأسماء الإحالة على دلالات وأبعاد ومقاصد، وذلك لإثارة المتلقي واستفزازه، وتأزيم الأحداث، أو تحريكها حسب سمات الشخصيات، وتفعيلها بشكل كارثي على ضوء علاماتها الفيزولوجية، وانفعالاتها السيكولوجية، سواء أكانت شعورية أم لاشعورية."( جميل حمداوي،24/ص54).
ويميل الحارثي في معظم مسرحياته، إلى تجهيل الاسم، أي: إهمال تسمية الشخوص، ويوزع الحوار بينهم حسب الأرقام على هذا النحو:"ممثل 1، ممثل 2، ممثل 3"وهكذا فالحوار يدور بين ممثلين هويتهم الاسمية رقم، والعدول عن اسم العلم إلى الأرقام والأشكال والحروف والأيقونات يعبرعن"امتساخ الإنسان وجوديا وكينونيا، وذوبانه في مجتمع لايعترف بالإنسان كذات وشعور وروح داخلية، فتم تحويله بالتالي، إلى مجرد آلة أو علامة أو بنية أو رقم ضائع". (السابق،ص74).
ولا يكتفي الحارثي بتجاهل الاسم، إذ يشغّل ثيمة استلاب الاسم في الحوار، فتستشعر الشخصيات استلابها لاسمها، وتتحاور حول فقدانها هويتها الاسمية، ومن ذلك هذا الحوار بين الممثلين في مسرحية"الناس والحبال"، فالممثلون مقيدون بالحبال ينتظرون الخلاص، ويقطعون الوقت بالحوارات التي تكشف عن ذواتهم:
ممثل2: يبدو أن عقلك أصبح يتآكل قد تنسى اسمك.
ممثل4: اسمي.. هل لديك اسم؟ هل لدي اسم.. الاسم شيء جامد لاحراك فيه.
ممثل3:"يصرخ بألم"أخشى أن نتآكل جميعا هاهو يفقد اسمه فيفقد خصائصه.
ممثل2: إنه يمزح..لاتكن متشائما.. إنه يحاول ممارسة لعبة ما اسمك عنوانك صفتك لاتتخلى عنك إنها تطاردك تلتصق بك ترفض أن تغادرك.
ممثل1"يوجه حديثه لممثل4"هل أنت صادق فيما تقول؟
ممثل4: ماذا قلت؟
ممثل2: قلت إنك لاتعرف اسمك.
ممثل4:اسمي..!!
ممثل3: قلت لكم إنه يتآكل.. إنه مصيرنا المحتوم، تبدأ الحكاية بفقدك حروفك..
علاماتك ثم تفقد كل شيء (كنا صديقين ومسرحيات أخرى ،ص44).
يمر وقت الانتظار ثقيلا على الممثلين الذين لايعرفون متى يتحررون من الحبال، واستلاب الاسم لم يكن بفعل سلطة خارجية، هو حادث من جراء فعل الانتظار الذي استهلك عقل ممثل4 ففقدت ذاكرته معرفتها باسمه، وبات يزهد في أهمية الاسم، لذا يصفه:"بشيء جامد لا حراك فيه"، ويصفه رفاقه حين نسي اسمه بأنه يتآكل، أي ينسلخ من وجوده وينقرض وأول ملامح اقترابه من النهاية فقدانه لاسمه،الذي يشي بتدرج الفقد إلى فقد الحروف والعلامات وعندها يفقد كل شيء، ويكشف الحوار عن إحساسهم بأهمية الاسم بوصفه جزءا من الهوية، فالاسم والعنوان والصفات أكثر التصاقا بالإنسان، يعبر ممثل2 عن تشبثها بالإنسان، وتغلغلها في كيانه، بتشخيصها بالاستعارات"لاتتخلى عنك"و"تطاردك"و"تلتصق بك"و"ترفض أن تغادرك". ويصف نسيان هذه الملامح بلعبة ومزح لا حقيقة . إذن هي مهمة ونسيانها مع شدّة لصوقها، هو المفارقة التي تبرز الاستلاب.
و فكرة أن الانتظار الطويل يفضي لنسيان الاسم، نعثر عليها في قول الحارس في مسرحية"المحطة لاتغادر":
الممثل: أليس لك اسم؟
الحارس: كان لي ونسيته.
الممثل: هل تسخر مني؟
الحارس: العفو، لكني نسيت اسمي فعلا، لا أتذكر ملامحه، هجرته منذ أن طال بقائي في هذه المحطة البائسة. (الجثة-صفر نصوص مسرحية قصيرة، ص40).
فالانتظار بلاجدوى لحظة تفقد فيها الشخصيات كينونتها، والحارس يعاني من الاستلاب من جراء انقضاء الزمن وتعاقبه، دون أن يتغير حاله، فنسي اسمه وملامحه، أي فقد هويته التي هي جزء من وجوده المادي، وعاش مستسلما قانعا بحياة مستلبة مفرغة من معنى الحياة.
وقد يُفصح الحارثي عن الهوية الاسمية من خلال الوصف للمهنة التي تمتهنها الشخصية في المسرحية،نحو:المحقق، اللص، رجل الأمن، المسعف، العامل، الحارس، الشاهد، المسؤول، الناقد، والوصف المهني دالٌ على ملمح يكرّس سلوك طائفة معينة، ويعد نموذجا للتمثيل عليهم، فالمحقق لايتمايز بغير هذه السمة التي تجعل منه إنسانا مهمته السؤال والاستجواب للمتهم، والتقاط الكلمات من فمه لإدانته، ولا يختلف عن التسمية بالأرقام في الدلالة على الاستلاب. ومثال ذلك هذا الحوار من مسرحية"
وفي المسرحيات التي يسمي فيها الشخصيات من خلال الحوار، نقرأ الاستلاب من خلال المفارقة بين الدال والمدلول، ولنتأمل هذا الحوار في مسرحية"الجثة صفر":
رجل الأمن: اسمك وسنك وعملك.
ممثل4: سيد كمال، سني ثلاثون عاما، عملي التسكع في الطرقات.
رجل الأمن: عاطل عن العمل إذن؟
ممثل4: إنه أمر طبيعي الآن. ( السابق نفسه،ص23).
فالممثل يفصح عن اسمه"كمال"و في اللسان الدلالة اللغوية للكمال تعني:"التَّمام"، بينما الوظيفة التي يمتهنها هي التسكع ، لم يشأ القول بأنه عاطل،ترميز ساخر بأن البطالة مهنة ووظيفة طبيعية في عصره، فالاستلاب هنا مقروء في المفارقة التي يتضمنها الاسم ومدلوله، والسخرية من امتهان البطالة!
وقد يصل استلاب الاسم إلى استسلام الشخصية بوعي منها من أنها مسلوبة الهوية الاسمية، ففي مسرحية"حالة قلق"يقول الممثل4:
"كان اسمي نادر، أمي كانت تدلعني وتناديني رامي، بينما أبي كان يصر أن اسمي فارس، أصدقائي كانوا يفضلون لي اسم منصور، لي اسم لاعلاقة لي به"(الأعمال الفائزة بجائزة نادي مكة ،ص55).
فالشخصية هنا مستلبة لاتملك اسما، يتنازع المحيطون بها تسميتها، بينما هي لاتشعر بأي تعاطف مع هذه الأسماء، بل تشعر بانفصال ونبذ، وفقدانها هويتها الاسمية، و سماحها لتدخل الاخرين في اختيارهم اسمها الذي تعرف به ، يعني أنها تعاني من الاستلاب، لاستسلامها وخضوعها.
– استلاب الجسد
ومن ملامح اغتراب الذات، إحساس الذات بانفصالها عن جسدها، فتتعامل معه على أنه شيء غير مهم، لاعلاقة لها به، وكأنه موضوع خارجي، لنتأمل حوار الممثلين في مسرحية"حالة قلق"حول زميلهم ممثل 2:
ممثل3: لك وجه لاعلاقة لك به، تبدو علاقتك بالأشياء متداخلة.
ممثل4: فعلا هو دوما مشغول بالتداخل، وقد يخلو من الخوارج إذا ظن أن قيم التداخل والتخارج تتوحد في معنى واحد.
ممثل 5: قد يكون وجوده مزيفا، الوجود مع الآخرين يجعلك تمارس فعلا مختلفا عمّا تريده، تريد أن تبكي فتضحك، تريد أن تنام فتصحو، تريد أن تتكلم فتصمت، تريد أن تكون فلا تكون ( السابق نفسه،ص49).
الوجه هو أكبر ملمح دالٌ على هويه الإنسان، فهو علامة معتمدة في المؤسسات المدنية للتمييز بين الأفراد، ومن جهة أخرى له لغة جسدية تكشف عن الشعور والأفكار، فممثل 3 يسخر من رأي زميله ممثل 2، ويسلبه دلالة وجهه الذي لايعبر عنه ولايمثله، ولايكشف عما يريد أن يقوله، وانفصال العلاقة بين الذات و الوجه صورة غير سوية، ترمز للاغتراب، وكذلك استلاب الهوية إذ تتشكل وفق مايرتضيه الآخرون لا ما يرضي الذات، وتعكس الثنائيات المتضادة"تبكي فتضحك، تنام فتصحو، تتكلم فتصمت، تكون فلا تكون"غياب وعي الذات بسلوكها، وطمس الفردانية، وذوبانها مع الآخرين كأداة ناطقة عما يريدونه. ويسود الحوار حديثا فلسفيا حول( الوجود المزيف)، و(التخارج) وهي مفاهيم متداولة في دراسات الاغتراب، ربما أتت عفوية وساخرة، ولكنها عززّت الحوار بالاستلاب، فعند رواد المثالية يعني الاغتراب"ذلك الفعل الذي تضع بمقتضاه الذات أو الروح أو الأنا الموضوع لابوصفه ( آخر) غيرها فالموضوع أي اللاأنا في كليته ماهو إلا تموضع الروح و تخارجها أي اغترابها عن ذاتها. وعلى هذا يكون الاغتراب والتخارج واحدا ونفس الشيء". (أحمد أنور، اغتراب المصري رؤية سوسيولوجية، مجلة كلية التربية،ع 3، 2000م، ص17). وقد وردت الكلمة عند ممثل4 بتعبير ساخر عن ممثل2 الذي اختلطت الأمور لديه فلم تعد هويته واضحة لتوهمه أن كل الموضوعات المتداخلة والمتخارجة ذات معنى واحد، و يعني بها الثرثرة واللاجدوى التي جعلت منه إنسانا متداخلا في علاقاته مع الأشياء من حوله، حين سلبه علاقته بوجهه.
واللامبالاة بالوجه مع أهميته في الهوية استلاب لمظهر مادي له رمزيته العالية، لنتأمل هذا الحوار من مسرحية:"الناس والحبال"يتناقش فيه الممثلون عن أداورهم:
النائم: أناغير مقتنع بهذا الدور.. وجهي لايظهر كثيرا لن يعرفني أحد.
ممثل1: العكس أنا أعتقد أن دورك مهم حديثنا كله تجاهك.
النائم: ولكن وجهي لايظهر.
ممثل2: ما أهمية ذلك، الكل سيسأل عنك، وعمن قام بالدور
النائم: الحقيقة أحلى مافي دوري، إني لا أحفظ نصا مثلكم، وإني أنام بما فيه الكفاية. (كنا صديقين ومسرحيات أخرى،ص49.)
يلعب النائم هنا أهم دور في المسرحية فالممثلون الأربعة مقيدون بالحبال، وهو المخلص الوحيد الذي ينتظرون استيقاظه ليفك قيودهم، المفارقة هي أن وجوه الممثلين ظاهرة للعيان، وحريتهم مقيّدة، وإرادتهم مسلوبة، والنائم لايظهر وجهه، ويمتلك حريته و حرية البقية. في الحوار استلاب لأهمية الوجه الذي افتقد معناه، ولم يعد له قيمة، وإعلاء من شأن التخفي، وطمس الهوية، وإيثار التبلد ومواجهة مشكلات الحياة بالنوم وهو دالٌ على الاستسلام والهروب.
– التشيؤ
قد تذهب الشخصيات إلى ماهو أبعد في إحساسها باستلاب وجودها، فتتحول الذوات إلى أشياء، يصبح الإنسان شيء مادي، والتشيؤ أحد مظاهر الاستلاب"ويقصد به أن الفرد يعامل كما لوكان شيئا، وأنه قد تحول إلى موضوع، وفقد إحساسه بهويته، ومن ثم يشعر أنه مقتلع حيث لاجذور تربطه بنفسه أو واقعه". (إبراهيم عيد، الاغتراب النفسي، ص28.) ومن ذلك في مسرحية"سفر الهوامش"يقول ممثل 1:
"أتحول إلى مكتب وكرسي ونافذة وخيمة، وفراغ طويل، مشاعري جامدة، عواطفي ساكنة".( الأعمال الفائزة بجائزة نادي مكة ،ص34.)
فاللغة تعكس إحساس الممثل باستلاب وجوده الإنساني، وفقدانه أهميته، فهو كائن مادي بلا روح، بلا هوية جسدية، فقد استحال إلى مكتب أو نافذة أو كرسي أو خيمة، وهي عناصر مكانية ذات اتصال حميم بالإنسان، جمادات يمنحها حركة وإحساسا عندما يأهلها، لكنه الآن غدا ممسوخا منفصلا عن ذاته متحوّلا إلى شيء، مفرّغا من الشعور فالعواطف ساكنة والمشاعر جامدة، وهي سمات مناقضة لدلالة العاطفة التي توصف دائما بأنها متوهجة حية، وانطفاء الشعور، دفع الذات للتشيؤ.
ومن التشيؤ أيضا في مسرحية"حالة قلق"يقول ممثل6:
"أتحوّل إلى ملف كبير يمتلئ بالكلمات، والإشارات والتناقضات، صور ومشاهد بعضها متمرد، بعضها فاجر، بعضها (مبكٍ) ، بعضها مضحك، بعضي يطارد بعضي، تتلوّن كل أيامي بصبغة تتداخل فيها الألوان، بعضي، وبعض، وبضع."(الأعمال الفائزة بجائزة نادي مكة ،ص54.)
فالتشيؤ يظهر في تحول الذات إلى ملف، أي شيء مادي، والملف له دلالة في مصطلحات الإدارة على احتواء وتخزين المعلومات وتنظيمها، فهو سجل مرجعي وذاكرة حافظة، حين يتحول الإنسان إلى ملف يصبح ركاما من الخبرات المتناقضة التي تحوي كل شيء، فالذات المتحولة تتشظى إلى انشطار بعضها عن بعضها، وتداخل الألوان في حياتها. وقريب من قوله في المسرحية ذاتها يقول ممثل4:
"الضجر يأكلني، يحولني لمجرد مضغة قد يلتهمها وقد يلفظها، لن أكون مواربا كالأبواب الصدئة، سأرحل تاركا خلفي بابي."( السابق نفسه،ص56.)
فالذات فقدت إحساسها بأهميتها، وتحولت إلى مضغة في فم الضجر، والتشخيص للضجر يمنحه إرادة وسلطة، وصيرورة الإنسان مضغة يلوكها امتهان لكينونته، هذا الامتهان غير محسوم فقد يلتهمها وقد يلفظها، وأيا كان الخيار، تبقى ذاته ممسوخة مهانة، هذا الأمر دفع ممثل4 إلى مقاومة الاستلاب باستلاب آخر هو الرحيل، يقول عنه:"عندما أرحل ستلتهمني الغربة"(السابق نفسه.)، فالمصير الذي ينتظره غربة طاحنة، فرار من استلاب إلى استلاب!
ونقرأ التشيؤ في صورة بيانية، مع بساطة التشبيه، لكنه مثقل بالدلالة على الاستلاب، ففي المسرحية ذاتها يقول ممثل2:""أنت مجرد برميل ممتلئ بالأفكار غير المرتبة"(السابق نفسه،ص26.) فتحويل الكائن الحي إلى شيء مادي، سلب لإنسانيته الحية، فضلا عن دلالة المشبه به"برميل"على النفايات، وفي هذا تقبيح، ورسم صورة ساخرة تختزل وجوده في سلة نفايات فائضة عن الحاجة.
ومثله هذا التشبيه في مسرحية"العرض الأخير"يقول الممثل:
"أصبحت أفكاري كالملابس القديمة.. لا أحد يرتديها.. حركتي خفيفة.. قدرتي على التعبير..عضلات وجهي.. التي كانت تميزني.. كلها شاخت.. أصبحت كالملابس القديمة.. لا أحد يرتديها حتى أنا."( كنا صديقين ومسرحيات أخرى،ص13.)
فالذات تنفصل عن جسدها وتحس باغترابها عن وجهها أهم علامة تميزها عن الآخرين، فشيخوخة عضلات الوجه، توحي بإنسان آخر ليس هو، شعوره بفقدان هويته الجسدية دفعه إلى تشبيه ذاته بالملابس القديمة التي لم تعد صالحة للاستخدام، فقد استهلكت وبليت من كثرة ارتدائها، وهو مثلها كائن مستلب، لا جدوى منه، ولاقيمة له.
هذا التشيؤ قد يصل إلى"الفيتشيه"السلع التي يعبر عنها كارل ماركس في نقد المجتمعات الرأسمالية، ومثالها في مسرحية العرض الأخير يقول الممثل4":
"حاولت تحديد سعر لي.. وزنت أفكاري..عواطفي.. تفاهاتي.. تفاعلي مع الآخر..وتفاعل الآخر معي..وجدت نفسي لا أسوى سوى ما أملكه من نقود، ولما لم يكن معي نقود عرفت أني لا أسوى شيئا"(السابق نفسه،ص25.)
فأفراد المجتمع في النظام الرأسمالي لايتم"التعامل البشري فيما بينهم كأشخاص مبدعين، بل من خلال السلع يتبادلونها. وقد يتحول الإنسان نفسه إلى سلعة يتم تبادلها في الأسواق، إذ يرتبط الناس بالسلع التي يتبادلونها، وليس فيما بينهم كأشخاص."(حليم بركات الاغتراب في الثقافة العربية ، ص40) .فالذات هنا تتعامل مع نفسها على أنها سلعة متداولة، شيء مادي، تفتقد إحساسها بقيمتها، وتشعر باستلابها، وانفصالها عن مجتمعها المادي الذي يقيّم الإنسان بما يملك من نقود لا ثقافة وإبداع، وتبني الفكر الماركسي من قبل المؤلف غير وارد، ولكن فكرة تسليع الإنسان وظّفت للتعبير عن الاستلاب دون أن يكون للنص حمولة دلالية على الاشتراكية.
والفيتشية تحوّل الإنسان إلى سلعة، يباع ويشترى، ودلالة البيع دلالة سلبية،نلمحها في قول ممثل4،منتهزا انهيار رفيقه في مسرحية"سفر الهوامش":
ممثل4: دعه، فقد أستفيد من تحوله إلى جماد وأبيعه.( الأعمال الفائزة بجائزة نادي مكة، ص34.)
فهو لا يبذل عنايته واهتمامه في تخليص رفيقه من ضعفه، بل يسعد بهذا الضعف، لاستغلاله، وبيعه، وكأنه سلعة تطرح في السوق، وتشترى وتباع!