

أنفاس التربة والنار
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
الفصل الأول
في القرية التي لا يُذكر اسمها إلا عند غروب الشمس،
حيث تختلط أنفاس التربة بحركة النهر العتيق،
عاش سعد مع أمه وأخوته الخمسة في بيت طيني يئن تحت وطأة الذكريات.
كان البيت مبنياً من تراب اختلط بدموع الأرامل،
وأسقفه من سعف النخيل الذي يحمل همسات الأجداد.
في صباح اليوم الذي قرر فيه الرحيل للدفاع عن وطنه الذي تعرض لهجوم دولة طاغية،
نظر سعد إلى يديه المُتشققتين من نحت القوارب الصغيرة،
حيث كان دكانه في سوق النجارين
مستثمرا موهبته في فن النحت
كانت القوارب التي يصنعها بأحجام مختلفة
وأشكال مدهشة
كان يعرض بعضها للبيع
والبعض الآخر يوزعه على أطفال الشوارع الذين يلتقيهم في طريق عودته لبيته
كانت ملامح الاستجداء التي تشكل وجوههم تكسر روحه
وتسحق قلبه
وتذكره بزمن طفولته المرة حيث فقد والده في الحرب القديمة.
كان أطفال الشوارع يحبونه
ويقفون منتظرين مروره قرب النهر ليأخذوا منه ما جادت يداه
و يطلقون القوارب مع صرخات الفرح والمنافسة لمن سيفوز في السباق.
هو ينظر مبتسما بحزن
ويكمل طريقه.
كانت القوارب تشبه رسائل حب إلى المجهول،
سمع ذات يوم في منامه هاتفاً
التراب يحتاجك يا سعد،
أستيقظ ولم يجد شيئاً.
كانت طيور الظلام قد تحشدت على سماء بلده
فقرر أن يطردها ولو بحياته.
قبل أن يغادر،
وقف قرب بيت جارته،
التي كانت تشبه وردة الجوري التي ترفض أن تتفتح إلا في الربيع.
قال لها وهو يلمس جدار بيتها المتهالك
سأعود حين يصير النهر مساراً للنجوم.
أجابت،
بينما كانت تدير خصلة من شعرها الأسود بأصبعين
النجوم هنا تموت حين تلمس الماء،
وأنت تعرف ذلك.
ضحك سعد،
وأعطاها قاربه الأخير لتضعه في النهر،
وقال
سيحمله التيار لي كأنه سهمٌ من ضوء
أتبعيه بعينيكِ أيتها النجمة.
في الليلة الأولى للمقاومة، أمتلك مسدساً صدئاً
وسمع صوتاً
يشبه صرير البوابات القديمة
أنت من الآن ابن الحرب،
رد سعد
أنا ابن التراب،
وأؤمن أن كل محاولات العالم لا تساوي حفنة من هذا التراب.
ولكن التراب يبتلع الأحياء،
رد الصوت
وأنا أخلق أمواتاً جدداً لتُبْتلع.
رد سعد.
الفصل الثاني
في القرية،
كان هناك من باعوا وجوههم للمحتل مقابل ملحٍ وبصل.
مثل قيس التاجر الذي كان يردد
الأرض للسماء،
والحياة لمن يدفع أكثر.
في يوم،
بينما كان سعد يخبئ قنبلة داخل قارب خشبي،
سخر منه قيس قائلاً
الماء يغسل الدم،
لكنه لا يغسل غباء من يموت من أجل حفنة تراب.
لم يرد سعد،
لكن التربة همست له لاحقاً الذي يبيع وجهه مرة،
سيبيع روحه مراراً.
صنع سعد قارباً من خشب شجرة التوت التي احتضنت أول بسمةٍ بينه وبين حبيبته.
وضع فيه كمية من المتفجرات ثم رسم على جانبيه وردة جوري.
عندما أطلقه في النهر،
تتبعه كصلاة صامتة حتى وصل إلى ثكنة الاحتلال الأولى على جرف النهر،
انفجر القارب،
تحولت الشظايا إلى سرب من عصافير معدنية اخترقت صدور جند الإحتلال،
بينما نزل المطر فجأة،
فاختلط دمهم بالماء،
وكأن النهر قرر أن يغسل نفسه قبل الأوان.
الفصل الثالث
بعد يومين
روى أهل القرية أن سعد صار قائداً على ضفة النهر،
وأن قواربه ما زالت تظهر كل ليلة مقمرة،
تحمل رسائل من التربة إلى النجوم.
أما السلاح الصدئ،
فأصبح علامة عزة وحرية.
في الليلة التي سبقت الهجوم الكبير،
زار سعد حبيبته وداد،
الجارة التي كانت تزرع الفرح في قربة الماء.
وقف تحت نافذتها،
التي تشبه عيناً نُحتت في الجدار.
قال
سأجعل النهر يغني باسمكِ،
ردت وداد وهي تلمع في الظلام كفراشةٍ فضية
النهر يغني دوماً للذين لا يعودون.
أخرج سعد قارباً من جيبه لم يكتمل
جلسا متجاورين على صخرة صغيرة
بدأ أمامها بالنُقش
نقش حروفها عليه
ووضعه في الماء،
فالتقطه التيار وكأنه رسالة سحرية.
راح القارب مع التيار
ووداد تراقبه وكأنه قلبها يسير على الماء
نهض سعد وحمل حقيبته وتوجه للمعركة الأخيرة.
الفصل الرابع
في الجبل،
حيث يتدرب المقاومون،
كان رجل عجوز يمسح بندقيةً قال عنها
هي كالمرأة العاشقة
يقتلها الصمت.
أمسك سعد السلاحَ بين يديه،
فانبعث صوتٌ معدنيٌّ من أعماقه
أنا لست صديقاً لك.
أجاب سعد
أنا أيضاً لست صديقاً لنفسي منذ أن تركتُ البيت الطيني وحبيبتي وداد.
سأله السلاح
لماذا تحملني إذن؟
قال سعد
لأنك الوحيد الذي سيصدقني حين أتكلم عن التراب.
فجأة هز العجوز كتف سعد قائلاً
لماذا تتكلم وحدك؟
ومن هي وداد؟
هل جننتَ
أنتبه سعد وكأنه أفاق من حلم
ونظر للسلاح فوجده حديدة صامته
أعاده للعجوز بصمت.
بعد شهر من التدريب عاد سعد إلى ضفة النهر مكان الهجمات على العدو ،
حاملاً متفجراتٍ خبأها داخل جرة من الفخار.
في الطريق،
صادف التاجر قيس الذي يبيع السجائر والوجوه للمحتل،
فقال له
الذين يموتون هم الحمقى، الأحياء يبنون من الذهب عظام الموتى.
لم يرد سعد،
لكنه تذكر كلمات التراب. الخائن يرى في الماء وجه الجسد
لكن المرايا الحقيقية تعكس الروح.
صنع سعد قاربه الأخير
ملأه متفجرات
وعلى جوانبه نقشَ زخارفَ تشبه طيوراً تحلق.
قُبيل الفجر،
أرسله في النهر،
ثم ركض إلى تلّةٍ عاليةٍ يراقب.
عند الجسر الحديدي حيث يرابط الجنود،
أرتطم القارب بالعامود الذي يدعم بناء العدو الحجري
وحدث الأنفجار،
تحول الخشب والحجارة إلى رذاذٍ ذهبيّ،
اخترق صدور الجنود كسهامٍ من ضوء.
في تلك اللحظة،
هطل مطرٌ غزيرٌ،
فالتصقتْ قطعُ السلاح بالتراب،
وكأن الأرض أرادتْ أن تدفنَ الحرب في حضنها.
بعد سنوات،
قيل إن سعد صارَ جزءاً من النهر.
في الليالي المقمرة،
تظهر قواربُ خشبيةٌ على سطح الماء،
تحملُ أسماء من رحلوا.
أما وداد حبيبته،
فقد زرعتْ شجرةَ تينٍ قرب البيت الطيني.
وكانت كل ليلة تسمع
التراب ينشد
الحربُ تبدأ بصرخة
لكنها لا تنتهي إلا حين تتعلم الأرضُ دفن أسماء أبنائها.
سعل الجد بقوة
وأشار لأحد الصغار الذين حوله
ليجلب له الماء
شرب حتى هدأ سعاله
قالوا له
يا جدنا
هل هذا كله مررتَ به؟
هل حقاً كُنتَ تصنع القوارب الخشبية؟
هل جدتنا وداد كانت جميلة كوردة الجوري؟
وهل هذه الإصابة بقدمك من رصاص الإحتلال قبل أن يهربوا؟
وهل
أنتظروا يا صغاري
همس الجد
سأجيبكم عن كل أسئلتكم
ولكن ليس هكذا
كل سؤال له قصة
ولكن التراب وحده له كل القصص.
نظر سعد الذي تجاوز التسعين للبعيد
وابتسم بحزن ونهض قائلاً
سنكمل في ليلة أخرى.
مشى نحو قبرٍ بجنب البيت ووقف أمامه
سقطت منه دمعة تشبه قارباً خشبياً صغيرا جرفه تيار النهر،
الشاهد الخشبي كان يحمل يحمل اسم وداد.