أنا لستُ إلهاً يا حبيبتي
أنتَ تدركُ تماماً أن شريط حياتك سوف يذاعُ على الملأ يوم القيامة، دون مقدمة غنائية ولا فواصل دعائية، فلم لا تُشتغّل الآن هذا الشريط لمراجعته وإضافة المشاهد التي تجعل منكَ بطلا محبوبا أو لتحذف تلك التي تجعل فيلمك أشبه بأفلام المقاولات - لتمرير الوقت ليس إلا!
عندما رَكَّبتُ نظام كاميرات المراقبة في بيتي، لم أتوقع أن أتحوّل إلى ما يشبه (إلهاً تحتَ التمرين) أتلصصُ على تفاصيل حياتنا اليومية لأراجعها وأحرّر ما يبدو (ذنوباً) في حقّ بناتي الثلاث، ثم أمسحها وأبدِلها حسنات بعد أن أسمعَ كلمة (آسف) وقُبلة تطبعها على خَدّي أو خدّ أيٍّ من أخواتها (المتضررات).
في طفولتي كنتُ أرتكبُ آثامي الصغيرة ولكنها كانت سهلة الاكتشاف لأنني كنتُ أحمل بقايا جريمتي إلى أحد والديّ وأردّد بما يشبه اعترافا بالخطيئة: (أنا مَعمِلتش حاجة)! فأحصل على شبه إعفاءٍ من العقوبة.. وابتسامةٍ تنتهي بتربيتَةٍ على الرأس أو شهقة عفوية تعقبها قهقهة، وتوضيحٍ مسالمٍ للخطأ الذي ارتكبته، ثم.. (لا تثريبَ عليكِ).
ولكن عندما كبرت لم أكن في حاجة لإخفاء خطاياي.. ولا حملِ بقاياها على ظهري، صِرتُ ببساطة أجاهر بها علناً: لقد فعلتُ كذا.. وأنا مقتنعةٌ بما فعلت! قد أتوب أو لا أتوب.. هذا شأنيَ المطلق!
أنا كنتُ (خارج نطاق الرؤية).. بينما افتقدَت بناتي هذه الميّزة، فصار تللذي بالتهديدِ أحيانا: (أنا شايفاكِ!) يتجلى في مخيلتهنّ طيفاً يتجوّل في أركان البيت، يطلّ من تلك العين البارزة من زاوية السقف لينقضّ على أسرارهنّ الصغيرة وقتما شاء، في اتصالٍ مباغت، أو في مراجعةٍ لشريط الذاكرة اليومي معهنّ للوقوف على (أبرز) الخطايا.. إلى الدرجة التي تجعلُ ابنتي تهدّد أختها أحيانا: ماما حتشوف إيش عملتِ في الكاميرا..!
في يومها الأول في الحضانة، قالت لي ابنتي - التي أكملتْ عامها الرابع حينذاك– بنظرةٍ خضراء لا تخلو من البراءة الممزوجة بالاستسلام التام وهي تشيرُ إلى هاتفي المحمول: ماما.. أنا رايحه للحضانة لحالي، لكن إنتِ حَتشوفيني هناك.. صَح؟
احتضنتها.. أيّ (إله) قد يرغبُ في تعذيبِ عباده! احتضنتها وأخفيتُ هاتفي بعيدا.. كان عليّ أن أعترفَ لها بأنّي لستُ إلهاً.. وبأنّي لا أرى أبعد من عينيها الخضراوين المتعطشتين للحرية. لا يا حبيبتي.. لن أراكِ.. لكنك تعرفين أني سأكون موجودة دائماً معك.. عندما تحتاجينني، لأني أقرب إليكِ من نفسك!
مشاركة منتدى
29 آب (أغسطس) 2015, 10:05, بقلم د. نجمة حبيب
ممتعة وفيها عبرة جميلة ودرس للأمهات اللواتي يبالغن يالتحكم بابنائهن