الخميس ٢٢ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم وائل رداد

أسطورة ظريف الطول

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

اكتظت الحافلة العتيقة بالركاب، عدا مقعد واحد بجوار فتاة مليحة تتأمل الطريق عبر النافذة، فلاحة من ثوبها الأبيض الكتاني، تضع شالا قرمزيًا مزركشًا على رأسها وإن أبرز خصلاتٍ من شعرها البني الناعم..

سار الفتى حتى بلغ المقعد الفارغ، فجلس شاعرًا بأعين الركاب مسلطة عليه، ولاحظ نظرة الفتاة الجانبية والسريعة إليه لما جلس، قبل التصاقها بالنافذة أكثر مولية الطريق جل اهتمامها..

جاء محصل التذاكر، فنقده الفتى ثمن واحدة، ثم استرخى أخيرًا في اللحظة التي أغمض فيها عينيه بإرهاق..

نصف ساعة مضت قبل شعوره بتوقف الحافلة، فاعتدل الفتى وهو يفتح عينيه بتثاقل، كان التوقف في المحطة التالية، وصعدت سيدة مسنة تسير بجهدٍ باحثة عن مقعدٍ فارغ، وبشهامة محببة، نهض الفتى متجاهلا إرهاقه، متنازلا لها عن مكانه بحركة عفوية صامتة..

جلست السيدة مكانه قائلة له ببسمة ممتنة:

 "بارك الله في أصلك يا ولدي!"

لم يلاحظ الفتى بسمة الفتاة أيضا، لاحت بسمتها سرابية لطيفة، وكأن ما صنعه مع السيدة قد راق لها..

بدت الرؤية متعسرة قليلا وسط ضبابٍ مريبٍ ابتدأ بالظهور..

شعر الفتى ببعض الرهبة وهو يشاهد الضباب الآخذ بالتزايد بصورة محيرة، فأحاط بالحافلة من كل جانب، أما الركاب فبدوا طبيعيين وهم يتأملون المشهد وكأنهم اعتادوا الأمر..

شعر أيضا بيد الفتاة تضغط يده، فالتفت لها مندهشا ليجدها تتأمله هامسة بعذوبة:

 "لا تخف، كل شيء سينتهي عما قريب!"

وتوقفت الحافلة أخيرًا في المحطة المنشودة..

كان الضباب قد انقشع أيضا، فنهض الفتى ليهبط مع جميع الركاب، متأملا من خلال النافذة قرية باتت واضحة المعالم الآن..
رحلت الحافلة تاركة إياه واقفا تعلو وجهه مسحة تعجب، والركاب يتوجهون نحو تلك القرية التي لا يذكر رؤيتها أو وجودها في تلك البقعة يومًا!

التفت الفتى للفتاة متسائلا:

 "أهذه قريتكِ؟"

 "أجل.."

 "إنها رائعة!"

 "إنها أجمل مكان في العالم!"

وأردفت باسمة:

 "رافقني إلى دارنا، سيسعد والدي برؤيتك حتما!"

تأمل المكان كالمفتون، خضرة وحدائق ورد وثمر من مختلف الألوان والأنواع!

سارا جنبًا إلى جنب والفتى يفكر في ثقتها العالية بنفسها..

لاحت لهما بيوت البسطاء الجميلة رغم ذلك، وتمكن الفتى من مشاهدة الفلاحين الذين جلسوا أسفل ظلال الأشجار الوارفة، ومن بعيد اقتربت نساؤهم الحسان حاملات الزاد والماء.. ثمة صغار كالملائكة يساعدوهن، وبضعة آخرين يلهون بقرعة الحجر استعدادًا لخوض لعبة تنافسية ما، بحيث يجلبون حجرًا أملس الجانبين كي لا يتدحرج لدى سقوطه، ثم يسأل أحدهم فريق الصغار المنافس عن وجه الحجر الذي يختارونه قبيل رميه للأعلى، فإذا سقط على الوجه الذي اختاره الفريق المنافس كانت البداية لهم، تماما كرمية العملة النقدية في مباريات كرة القدم..

أمعن الفتى في وجوههم السعيدة متعجبًا، فوجد الأعين كلها ترمقه بنظراتٍ كلها ود وترحاب..

أسفل شجرة نارنج ناضجة الثمر وارفة الظلال، عكف شيخ صحيح البدن رغم سنوات عمره المديدة، على نشر لوح خشبي بكل همة، وقد دسَّ بين أسنانه عددًا من المسامير..

توقف عن عمله حين وقع بصره على الفتاة ومعها الفتى يقتربان منه، فهرع مستقبلا إياهما في حبور..

 "حمدًا لله على سلامتكِ يا (نرجس)!"

قدمته الفتاة (نرجس) للفتى بأن قالت بفخر:

 "والدي (أبو الحسن)، نجار قريتنا.."

 "تشرفنا يا سيدي.."

جلسا أسفل الشجرة، وتركتهما (نرجس) كي تجهز لهما الطعام والشراب..

سأله (أبو الحسن) باهتمام:

 "الاسم الكريم؟"

أظهر الفتى ترددًا، ثم لم يلبث أن حسم تردده ذاك بأن أجاب:

 "(ظريف)!"
 "حياك الله يا (ظريف)، من أين أتيت يا بني؟"
 "من القدس.."

من أعماق قلبه، أطلق (أبو الحسن) تنهيدة قائلا:

 "إيه.. يا لله للقدس! ولفلسطين! كم هي بحاجة لأمثالكم يا بني، رحم الله الفاروق (عمر) و(صلاح الدين)!"
لم ينطق (ظريف)، بل اكتفى بأرجحة رأس مؤيدة..

ثم استعادت البسمة مكانتها على شفتي (أبو الحسن) حين قال ناهضًا من مكانه:

 "لنذهب إلى داري كي تستريح من تعبك، ويبدو لي أنك قد تعبت كثيرًا!"

 "شكرًا لك يا سيدي.."

لم يشعر (ظريف) في حياته كلها بذلك الشعور العجيب الذي خالجه مع انقضاء الأيام، وهو قاطن لدى النجار الكريم (أبو الحسن) بداره، في تلك القرية العجيبة..

كان شعورًا براحة البال التي ينالها المرء بعد طول عناء، فالفراش وثير، والطعام لذيذ، والحياة مريحة لأقصى الحدود كحلم..
لم يرضخ (ظريف) للراحة التامة، إذ ألح على النجار أن يجد له عملا ما، أي عمل، فرضخ (أبو الحسن) مقررًا تلقينه حرفة النجارة، مقابل أجر ممتاز يناله (ظريف) أسبوعيًا!

وفي ليلة ليلاء، بينما كان جالسًا بمفرده أسفل شجرة النارنج العملاقة، دنت منه (نرجس) وجلست إلى جواره..
وعقب برهة صمت سألته:

 "أسعيدٌ أنت بيننا يا (ظريف)؟"
 "كل السعادة.."
 "إذن، لِمَ لا تبدو كذلك؟"

نظر لها وقد عجز عن الكلام، فابتسمت ابتسامة بالغة اللطف وهي تهمس متسائلة:

 "ماذا؟ أقضم الهر لسانك؟"

في تلك الليلة، قصَّ (ظريف) عليها ما يراه في منامه كل ليلة مؤرقا عليه نومه..

في كل ليلة، يجد نفسه واقفا على ضفة لبحيرة خلابة، يتلألأ سطحها أسفل قمر مكتمل، ثم لا يلبث أن يشعر برهبة من الخوض في مياهها، رغم تلك الرغبة التي تتملكه للسباحة فيها، إذ تظهر في عرض البحيرة دوامة عنيفة معتمة، على استعدادٍ لابتلاع كل من يجازف بالاقتراب منها!

أثار استغرابه صمتها وترددها..

سألها برفق:

 "ماذا يا (نرجس)؟ لم أعتد منكِ مثل هذا الصمت المقلق.."

وتناول ذقنها بإصبعيه كي ينظر في عينيها بإمعان، فلمح دموعًا!

قالت له واجمة:

 "توجد في قريتنا بحيرة قريبة بالفعل!"
 "أحقا ما تقولين؟"
 "أجل، يقال أن من يملك تساؤلاتٍ تؤرقه، فعليه الذهاب إلى تلك البحيرة وإلقاء حجر في مائها ومن ثم الانتظار.."
 "وماذا سيحدث عندئذٍ؟"
 "انتظر وسترى، وإلا كان ما تراه مجرد أضغاث أحلام!"

هكذا، ارتحل (ظريف) فجرًا إلى البحيرة بمفرده، وظلت (نرجس) بانتظاره والقلق والخوف مرتسمان على محياها الجميل طيلة الوقت..

انتظرته لتناول الإفطار سوية ولم يحضر..

وأبقت الغداء ساخنا على أمل تناوله معا لكنه لم يظهر..

وعلى العشاء لم يأتِ أيضا، فانتابتها الهواجس المروعة، وكادت تخرج للحاق به لولا تذكرها القواعد الصارمة للقرية: "لا أحد يذهب للبحيرة بغير دعوة، البحيرة تنتظر من دعته فقط!"

نامت بعد أرق طويل على أمل أن تناديها البحيرة، لكنها استيقظت فجرًا خائبة الأمل..

توجست خيفة من الأمر، فخرجت للبحث عنه أسفل شجرة النارنج آملة بإيجاده هناك..

وأخيرًا، تمكنت من رؤيته..

كان باديًا لها من بعيد، واقفا بانتظار الحافلة المقتربة!

توقفت الحافلة، فهبط الكل وصعد وحيدًا على متنها، فهتفت محاولة اللحاق به:

 "انتظر يا (ظريف)! لا ترحل!"

ظلت تركض حافية القدمين كي تلحق بالحافلة، إلا أنها تأخرت، فقد أوصد الباب ومضت الحافلة في رحلتها..
وبداخلها، جلس (ظريف) ساهمًا.. قد سمع صوتها يناديه، لكنه لم يجسر على النظر للوراء كي لا يراها ويضعف..
تذكر رحلته للبحيرة، وصوت المياه الثائرة كالغليان عندما ألقى بالحجر بقعرها..

انتظر مدة بسيطة، حتى سمع صوتًا أنثويًا يناديه من الوراء باسمه الحقيقي!

ولما نظر مستغربًا، وقع بصره على أجمل فتاة رآها في حياته، ذات شعر فاحم بالغ الطول يكاد يبلغ أقصى ظهرها، ترفل في كرمزوتٍ قطني فضفاض، دنت منه بقدمين حافيتين مواصلة الهمس كأنما تنشد:

 " يا ظريف الطول قف لأقول لك!

رحلت للغربة وبلادك أحسن لك!"

تأملها (ظريف) بمزيج من الدهشة والرهبة، قبيل تساؤله:

 "من أنتِ؟"

ابتسمت الفتاة وهي تجيبه مشيرة للبحيرة بسبابتها:

 "أدعى (عناة)، وأنا سيدة هذه البحيرة!"

ثم تأملته بإعجاب قائلة:

 "أنت كما يقولون عنك!"
 "وماذا يقولون عني؟"
 "وسيم، فارع الطول، لا عجب أن نسوة القرية يطمعن بك عريسًا لبناتهن! أخبرني، أترغب بالزواج والإنجاب؟"

شعر (ظريف) ببعض الضيق من تلك التساؤلات، لكنه أجاب رغم ذلك:

 "لربما أفعل، فالعيش في هذه القرية جلب لي راحة بال لم أحلم بها، لولا.."
 "لولا ماذا؟"
 "لولا الكوابيس المؤرقة بخصوص هذه البحيرة!"

ابتسمت (عناة) وهي تدنو من مياه البحيرة، فلحق بها (ظريف) حتى توقف إلى جوارها، متأملا راحة يدها التي لوَّحت بها في الهواء كالحواة وهي تهمس:

 "ناظر المياه، أجل، بإمكانك أن تعيش هنا، بأن تتزوج وتنجب، وسأضمن لك حياة هانئة لا مشاكل فيها، ونومًا هانئًا دونما كوابيس، أو.."

وصمتت وراحة يدها لا زالت تلوِّح كأنما ترسم شيئا ما بالهواء، فتساءل (ظريف) بإلحاح:

 "أو ماذا؟"
 "أو أريك شذراتٍ من مستقبلك الحقيقي، ذاك المفعم بالمخاطر والجهد الشاق، ولربما بالدموع، لكنه مستقبلك مع عروسك الحقيقية.. أتعلم من تكون؟"

ظل (ظريف) صامتًا حائرًا حتى تسمر بصره على الضوء المتصاعد من سطح مياه البحيرة، حيث أنار له بصيرته كذلك، فظل يحملق مشدوهًا..

أبصر رحيله عن القرية، وحزن الجميع على اختفائه وبالذات (نرجس)..

لكنه أبصر كذلك شذراتٍ عن أسطورة متداولة بخصوص ذلك الفتى فارع الطول، والذي أجمعت القرية على قوته وصلابته وهو يقاتل المعتدين بكل شجاعة وعناد، شاهدوه وهو يحمل المصابين من ساحات القتال، وينقذ الآخرين كبطل أسطوري خارق، يصنع كل ذلك الجهد ومن ثم يختفي كأن لم يكن!

الكل يؤكد رؤيته كما لو كان شبحًا يظهر ويختفي، حيث تكاثرت الأقاويل حول أماكن تواجد «ظريف الطول»، هكذا باتوا ينادونه، ونُسجت الحكايات والقصص عن بطولاته الملحمية، وراح الشعب الفلسطيني يجدد سيرته بوصفه أسطورة عاطفية وجدانية اجتماعية تحمل معاني الثورة والتضحية والإباء..

أبصر في أعراسهم الكل يدبك ويغني ابتهاج:

 " يا ظريف الطول وقف تا أقول لك..

رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك!"

أبصرهم ينجبون أولادًا وأحفادًا، تسرد عليهم الأمهات والجدات وبكل ليلة أسطورته التي لم ولن تموت!

وسمع (عناة) تهمس كما لو كانت تترنم:

 "حكايتك ستُنقش في ذاكرة الشعب؛ كل جيل سيشهد «ظريف الطول» وهو يتجسد أمامهم بجسده المجلل برائحة الوطن!"

بوغت بها تتلاشى ببطء، ولما كاد يهتف بها كي تنتظر، رمته بنظرة حبٍ عجيبة، وهي تقول مشيرة بسبابتها نحوه:

 "ستظل أسطورتك منسوجة بمشاعر شعبٍ عظيم مفعم بالحياة، سينقش على جدران قلوبه صورتك، وحكايتك ستظل في أذهانهم كشعاعُ دفءٍ ينبعث الأمل عبره، ومقدسًا تراب عروسك الخالدة.. فلسطين!"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى